No Title
-1-
يحضر المُكَوِّن الوثائقي بشكل مكثف في تجربة المخرج “داوود أولاد السيد” سواء في فيلميه الروائيين القصيرين “الذاكرة المغرة” و”الواد” اللذان تكاد تتحطم الفواصل فيهما بين ما هو وثائقي وما هو روائي، أم في أفلامه الروائية الطويلة.
يَعْمَدُ المخرج إلى سَبْكِ أسلوب جمالي يحاول تجاوز صيرورة الوقائع والأحداث المباشرة عبر إدخال عنصر الدراما، وهي طريقة تتوافق مع اختياراته للموضوعات التي يتناولها وكذا مع أسلوبه في التصوير والإخراج الذي يعتمد شبكة تجعل من الرمز عالما من التصورات غير المباشرة .. وكتجديد للتوازن الحياتي .. فالخيال الرمزي هو نفي حيوي فعال، نفي الفناء الذي يمارسه الموت والزمن .
إذا كان المكون الوثائقي في فيلم “الذاكرة المغرة” يعتمد على توظيف الصور الفوتوغرافية، فإن فيلم “بين الغياب والنسيان” يقوم على استثمار بعض حيثيات الواقع المعيش: واقعُ صيادي السمك بوادي أبي رقراق الذي تَمَّ تناوله بطريقة نوستالجية عميقة جعلت أحد عمال الخزف (مصطفى منير) بمنطقة الولجة بسلا يعثر على صورة (بورتريه) أحد الصيادين، فيقرر أن يخوض رحلة بحث عن صاحبها، وهي مسيرة استغلها المخرج لعرض مشاكل وأحلام وإحباطات الصيادين التقليديين، والوقوف على تفاصيل حياتهم الحياتية والمعيشية.. لقد كان هذا الشخص الذي يقوم بدور المُقْتَفي لآثار الصياد أحد أهم أركان الدراما في هذا الفيلم الوثائقي.
حاول “داوود أولاد السيد” أن يوظف عدة تقنيات من أجل جعل الفيلم دراميا، أولها إسناد الدور الرئيسي إلى ممثل محترف كي يضع حدّاً “فاصلا/واهيا” بين قراءة الفيلم وتفسيره كوثيقة، الشيء الذي أَبْعَدَ المُشَاهِد وأوهمه وأنساه الواقع الماثل أمام عينيه.
استثمر المخرج أيضا تمويها فنيا آخر – له أهمية قصوى – في تكسير وثائقية الفيلم، والإصرار على اختراق الدراما له، ويتجلى في عنصر الذاتية، فلا نكاد نعرف هل الممثل هو الذي يقود سير خط الأحداث أم أن “المؤلف – المخرج – المبدع” هو الذي يتحكم فيه وفق رؤيته الذاتية للموضوع ومعرفته المسبقة بعوالم شخوصه؟
مهما يكن الأمر، فإن السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي، مؤشرات دالة على القيمة الوثائقية للمكونات البصرية (مشاهد، لقطات، صور…) لفيلم “بين الغياب والنسيان”.
اشتغل المخرج “داوود أولاد السيد” في هذا الفيلم الذي يمكن اعتباره دراما وثائقية “Doc fiction” لأنه يمزج بين الصورة الوثائقية كما هي في الحياة العادية، وبين الصورة الدرامية عندما يُدْخِلُ عليها عنصر الترتيب الدرامي من خلال شخصية تنقب وتنبش في سيرة بَحَّارٍ مات منذ مدة.
يشير “تيودور أدورنو” و”هانس إيزْلَر” إلى أن الحركة البصرية السينمائية تمتلك، دائما، خصائص الحكاية، أي غياب الانتظام وعدم التناسق؛ إذ تقدم هذه الحركة نفسها كتصوير للحياة، ولذلك يحاكي كل فيلمٍ خصائص الفيلم الوثائقي .
وإذا ما أردنا توضيح تلك الفكرة بشكل أكثر، فإن الممثل مصطفى منير كان واسطة درامية للربط بين عناصر الواقع (ما يحيط بالوادي من عناصر وعلامات حيث يلتقي بالصيادين، وأصحاب القوارب، والقريبين من الوادي.. ويخلق معهم لحظات تتيح تطوير السير الدرامي والحركي للفيلم، وتلك كانت التقنيةُ الأساسُ التي تبنتها كتابة سيناريو الفيلم ككل.
وبما أن المخرج “داوود أولاد السيد” قادم من عالم الفوتوغرافيا الذي لا يخلو، فإنه قد اعتمد على المزج بين ما هو درامي وما هو وثائقي كعناصر أساسية يعتمد عليها الفيلم من حيث جوهره؛ إذ وظفهما من أجل تمثل الواقع والتعبير عنه في قالب فني يجعله أكثر إيحاء ورمزية.
حاول الفيلم أن يشكل بيئة بصرية ذات بعد أنثروبولوجي مركزا على التفاصيل المهنية والاجتماعية في حياة الصياد، وتسليط الضوء على نمط عيشه، طموحاته وانكساراته، طريقة التعايش بين الصيادين داخل البحر وخارجه..
نقف عند آثار وملامح هذه الطريقة البصرية في تناول المواضيع المنبعثة من صميم الحياة المعيشة لدى المخرج الفرنسي جون روش “Jean Rouch” الذي يعتبر رائد الأنثروبولوجيا البصرية.
-2-
من بين أهم الخصائص التي يمكن استنتاجها بعد مشاهدة فيلم “بين الغياب والنسيان”، والتي تجعل منه فيلم دراما وثائقية بامتياز، نسجل ما يلي:
– البصمة الخاصة للمخرج، وتتمثل في قدرته على تحويل الواقع إلى بحث بصري درامي متماسك البنيان، مُرَتَّب بطريقة تخييلية معقولة؛ فقد برز بالملموس أن الأقوال التي أوردها في الفيلم لم يتم التعامل معها كشهادات توثيقية، وإنما كبنيات حكائية أعطت للدراما بُعْدا آخر يظهر أنه زاد من حجم المغامرة والتأثير على المُشَاهِد، فالمغامرة هي روح الدراما وقد تجلت في الفيلم من خلال المغامرات الحاضرة/الغائبة للصياد المبحوث عنه ومسارات الباحث أيضا.
– تخلق الدراما الوثائقية حركة خاصة ضمن المحيط الذي تشتغل فيه، بمعنى أنها لا ترمي إلى تقديمه، بل تتبلور من داخله؛ فقد حاول فيلم “بين الغياب والنسيان” أن يتشكل من رَحِمِ عالم الصيد البحري التقليدي الذي ينطلق من ملتقى (مصب) الوادي بالمحيط، وكأنه يلج باب المغامرة من فم الغول المفتوح! وبالتالي فالأحداث تنطلق من خلال زاويةِ معالجةٍ أقرب إلى وجهة نظر الصياد الذي يحكي عن ذاته ويشهد على واقعه وزمنه. يصنع المخرج الحركة عبر الكاميرا، ويفعل في الواقع من خلال الكاميرا فتتحول لعبة “الحركة – كاميرا” و”الواقع – كاميرا” إلى فيلم درامي بمقومات واقعية.
إذن، يخلق المخرج الحركة في العالم من خلال حركة الصيادين.
– يضيف نص السيناريو عدة مكونات درامية وحكائية إلى الفيلم؛ إذ يتحول، بفعل إرادة المخرج وقدراته وإضافاته الفنية، إلى بنية بصرية غنية ومتماسكة. وذلك ما تحقق في فيلم “بين الغياب والنسيان” حيث انطلق السيناريو الذي أنجزه الراحل أحمد البوعناني من فكرة وثائقية درامية واضحة المعالم، ارتكزت، في العمق، على توليد شخصية من رحم شخصية أخرى: حِرَفِيٌّ يبحث عن مصير حِرَفِيٍّ آخر.
أصبح الممثل هو الباحث، المٌقْتَفِي، المتكلم، الشاهد، المغامر، المُسَائل، المثير للموضوع، المحرك للسرد الفيلمي..
لقد كان الواسطة التي تذهب بنا صوب الوضعية “الواقعية/الدرامية”. لم يعد الصياد مجرد شخص عادي، بل هو الذي يحكي ما وقع، وما يتصور أن يقع.. وهنا تكمن قوة الفيلم:
في الحكي حَذْفٌ لما لم يُحْكى.. فتحٌ لأفق الدراما.
في فيلم “بين الغياب والنسيان” لا تكمن الدراما في النص فحسب، وإنما في المشروع ككل: مشروع الصيد التقليدي، مشروع الحِرَفي، مشروع البحر.. فما هو ممكن ومتاح في الواقع، يغذي البعد الدرامي ويقويه، وما هو محبوك في السيناريو يساهم في سيولة المكون الوثائقي ليتشكل البعد الدرامي، والعكس بالعكس: يتبادل المكونين اللعب فيما بينهما.
إن أفقا كهذا قد أتاح لفيلم “بين الغياب والنسيان” أن يقدم نموذجا متميزا في التوليف الفني البصري بين المُكَوِّن الوثائقي والمكون الدرامي وفق قالب مشوق كَسَّر الحدود والفواصل بين الأنواع الفيلمية، وأعطى لـ / داوود أولاد السيد تميزا أسلوبيا جليا منذ بداياته الأولى في مجال السينما، بل جعل الأساس الفوتوغرافي للمخرج خادما مهما لرؤيته الجماليّة في مجال السينما، فمع “داوود” لا يمكن أن نتحدث عن فيلم وثائقي أو درامي خالص، وإنما عن مزج فني بين عدة مكونات سينمائية تختلف جرعاتها من فيلم إلى آخر سواء في أفلامه الروائية القصيرة أم الطويلة.
ــــــــــــ
[1] – جيلبير دوران؛ الخيال الرمزي؛ ترجمة: علي المصري؛ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع؛ بيروت؛ 1991؛ ص: 113.
[1] – المرجع السابق؛ صفحة: 113.
[1] – المرجع السابق؛ صفحة: 113.
[1]– Theodor W. Adorno, Hanns Eisler; Musique de cinéma; Arche; collection: «Travaux»; Numéro 17; Paris; 1972; P: 17.