حضور ثقيل في الذاكرة.. وربما في المستقبل!
عن الحضور الفلسطيني في السينما اللبنانيّة
في السينما اللبنانية، وبصدد القضية الفلسطينية، توافق الإنتاج الروائي القصير والطويل، مع الإنتاج التسجيلي، كان ذلك خلال عامي 1968 – 1969، أي تماماً ومباشرة أعقاب نكسة حزيران 1967، واحتلال مدينة القدس التي تمثل أهمية قصوى، كما للمسلمين كذلك للمسيحيين، فربما باحتلال مدينتي القدس وبيت لحم، توضَّح للسينمائيين اللبنانيين الخطر الداهم الذي تمثله الصهيونية، وبما يتجاوز فلسطين ذاتها.. وهو ما جعلهم أكثر عناية بالقضية الفلسطينية، التي تم تجاهلها سينمائياً لبنانياً طيلة عشرين سنة منذ النكبة.
هكذا انطلق الإنتاج السينمائي اللبناني ذو العلاقة بالقضية الفلسطينية إثر النكسة. وسيعتبر فيلم «القدس» الذي أنتجته «جمعية الخامس من حزيران» في بيروت عام 1968، ومن إخراج الفنان التشكيلي الفلسطيني اللبناني/ فلاديمير تماري، فاتحة الإنتاج السينمائي التسجيلي اللبناني، وذلك بالموازاة مع فيلم «القدس في البال» للمخرج اللبناني/ أنطوان ريمي، خلال العام ذاته.
وفي الوقت الذي يصور الفيلم الأول القدس، مدينة، وأماكن دينية، وأثرية، ويظهر آثار التخريب والدمار، والاعتداءات الصهيونية عليها، فإن فيلم «القدس في البال» لريمي يرتكز على مجموعة من أغاني السيدة فيروز التي أنشدتها حول المدينة المقدسة السليبة.

وقد تناسب هذا الفيلم، مع مرور أول عيد ميلاد بعد أن أصبحت مدينة “القدس” و”بيت لحم” ترزحان تحت الاحتلال.
كان احتلال القدس بدايةً، ومن ثم التفتت الأفلام التسجيلية اللبنانية لتصوير التهديدات العدوانية الصهيونية للبنان، انطلاقاً من استهداف الجنوب اللبناني، تالياً، ذاك الذي برز في أفلام لبنانية كما في فيلم «الجنوب في براثن الأعداء» لـ/ سمير نصري عام 1970، الذي يمثل تلمساً مبكراً للنوايا العدوانية الصهيونية تجاه الجنوب اللبناني، هذا الجنوب الذي جرى النظر إليه باعتباره يمتلك مواصفات استراتيجية واضحة، إذ أن فيه خزان بشري لا ينضب، فضلاً عن كونه مفتاحاً للبنان، وخاصرة رخوة لسوريا، كما يرى البعض، وفيه بدأت المقاومة الفلسطينية تجد لها موقعاً استراتيجياً عملياتياً، ينطلق منه العمل الفدائي الفلسطيني الصاعد، حينذاك، بعد انقضاء مرحلة تواجده في الأردن منذ العام 1970.. كما سنجد فيلم «قصة سرحان»، وهو عمل جماعي أنجز عام 1974، لمجموعة سينمائية، يتحدث عن أول شهيد لبناني، سقط دفاعاً عن الجنوب، ربما في نبوءة مبكرة جداً لاستكشاف طبيعة السيرورة التاريخية التي سيذهب فيها الجنوب اللبناني وما يترصده من معاناة بسبب العدوان الصهيوني.
وفي الواقع، سيتمازج موضوع الجنوب اللبناني مع الموضوع الفلسطيني نظراً للامتداد الجغرافي الواحد؛ (شمال فلسطين وجنوب لبنان)، والبشري المتداخل، وسيزداد هذا التمازج لا سيما منذ النصف الثاني لسبعينات القرن العشرين، عندما احتل العدو الصهيوني أجزاء من الجنوب اللبناني إثر اجتياح 1978، بحيث بات يصعب التمييز بين هذه الأفلام، ليس فقط بسبب تحول الجنوب اللبناني إلى أراض محتلة، كما فلسطين، بل لأن الكثيرين من السينمائيين اللبنانيين، وفضلاً عن الدوافع الأيديولوجية اليسارية عموماً، وجدوا فسحة للعمل في إطار مؤسسات الثورة الفلسطينية، أو تلقوا منها أشكالاً من الدعم، لتحقيق أفلامهم.
هذه العوامل هي التي جعلت الموضوعات اللبنانية والفلسطينية تتداخل بشكل مثير، ففي عام 1971 يقدم كريستيان غازي فيلم «لماذا المقاومة؟» الذي يحتوي أحاديث وريبورتاجات مع بعض القادة والمفكرين العاملين في الثورة الفلسطينية، ومن أبرزهم الأديب/ غسان كنفاني الروائي (الشهيد فيما بعد)، إضافة إلى د. صادق جلال العظم، الذي كان يعمل في الثورة، حينذاك، وإبراهيم العابد.. ويتناول هذا الفيلم واقع الثورة عام 1971 إثر خروجها الدامي من الأردن.
كما سيعتمد فيلم «24» لـ/ بهيج حطيط، وفيلم «مبعثرون في الهواء» لـ/ جاك ميدفو، وهما من إنتاج عام 1971، على الرسومات الفنية التشكيلية للفنانة “منى السعودي” في الفيلم الأول، وعلى مجموعات من رسوم الأطفال في الفيلم الثاني، واستكناه الدلالات العميقة لهذه الرسوم، وتعبيراتها المتأصلة في الوجدان، ومقدرتها الفائقة في التعبير عن الأحلام، وعن التوق العارم لدى الجميع، نحو حلول مناسبة آمنة.

وما بين نهاية الستينات ومطالع السبعينات، من القرن العشرين، ستثير النظرة إلى الأفلام الروائية الطويلة في السينما اللبنانية حول القضية الفلسطينية إشكالية مفجعة، ففي حين نجحت السينما اللبنانية عبر الأفلام التسجيلية بأداء بعض دورها، وتقديم علامات بارزة في السينما العربية، فإن الأفلام اللبنانية الروائية الطويلة بعمومها جاءت متهافتة، قاصرة عن فهم القضية الفلسطينية، بأبعادها، أو التعبير الصادق ضمنياً وفكرياً عن جوهر القضية، الأمر الذي تجلى بالنفور النقدي، أو الاخفاق الجماهيري..
في هذا المجال يذكر “حسان أبو غنيمة” أن “كريستيان غازي” قدم عام 1967 فيلماً بعنوان «الفدائيون» مقتبساً عن مسرحية بريخت «بنادق الأم كارارا» وذلك بإسقاطات رمزية بصدد القضية الفلسطينية، في محاولة منه لصنع فيلم عن المقاومة الفلسطينية، وذلك من خلال مجموعة من الفدائيين التي تقوم بعملية فدائية استشهادية في الأرض المحتلة.. لكن “أبو غنيمة” يرى أن هذا الفيلم «على الرغم من نبل مقاصده، وسمو طموحه، لم يستطع تحقيق النجاح المناسب».. وكذلك الأمر، وإن في اتجاه آخر، بصدد المخرج/ غاري غاربيديان الذي قدم فيلمه «كلنا فدائيون» عام 1969، من بطولة الفنان الفلسطيني “غسان مطر”، واللبناني “جوزيف نانو”، وآخرين.. الفيلم يدور حول مجموعة فدائية تدخل الأرض المحتلة في سبيل تنفيذ عملية فدائية، ولكن المجموعة تستشهد بسبب مهاجمة القوات الصهيونية، بعد افتضاح أمرها، بوشاية من فتى إثر تعذيبه؛ ويدرك هذا الفتى فعلته الشنيعة فيما بعد، فيقوم هو بدوره في تنفيذ عملية مهاجمة مقرّ الضابط الصهيوني، وينضم إلى صفوف الثورة.
وبصدد هذا الفيلم، ثمة من يقول: «لقد انتهج المخرج غاربيديان في هذا الفيلم الأسلوب البوليسي في صياغة فيلمه، مفعماً بنزعة خطابية مدفوعة بروح وطنية، عالية الإحساس، محدودة العمق في وعيها؛ حيث لم تخرج أبداً عما هو سائد في السينما التقليدية لناحية رسم صورة الفدائي الفلسطيني من جهة، والجندي الصهيوني من جهة أخرى، وتركيب الحوار المفتعل، والأحداث المختلقة.. ومع ذلك فقد نجح هذا الفيلم بفضل الروح الوطنية المفعمة فيه، والمأساة التي رافقته، حيث ذُكر أن قنبلة انفجرت أثناء تصوير آخر المشاهد، فقضى بسببها 22 شخصاً من العاملين في الفيلم، بينهم المنتج والمخرج والمصور والممثل الأول».
ثم جاء فيلم «الفلسطيني الثائر» للمخرج السوري رضا ميسر عام 1969، وهو محاولة لتناول القضية الفلسطينية عبر فيلم روائي طويل، فهو وإن حاول تصوير ما يدور في الأراضي المحتلة، وممارسات الصهاينة، من تعذيب وإرهاب وعنصرية، ضد العرب، والدعوة إلى الحل الاستراتيجي في القضاء على الصهيونية، وعودة الفلسطينيين إلى ديارهم، ولكن كل ذلك بقي في إطار النوايا، إذ لم يتجسّد سينمائياً، بل انتمى هذا الفيلم إلى الأفلام التجارية التي تستغل القضية الفلسطينية لأغراض تجارية. ومن المعروف أن المخرج السوري “رضا ميسر” احترف في لبنان الاشتغال على الأفلام التجارية.
الأمر ذاته، يقوله بعض النقاد عن فيلمي «فداك يا فلسطين» لـ/ أنطوان ريمي عام 1969 الذي يتكئ على حكاية امرأة فلسطينية عجوز تدفع بأبنائها للشهادة، وفيلم «أجراس العودة» لـ/ تيسير عبود في ذات العام، إذ تتمّ الاشارة إلى أن في كل من الفيلمين «تم الاعتماد على قصص ملفقة، أو اعتمد السذاجة والبدائية، في صياغة القصة والشخصيات والبناء الفني».
ربما كان التطلّب النقدي يروم أبعد مما في وسع السينمائيين فعله، أو لعلها المؤثرات الإيديولوجية التي حكمت قسطاً من النقاد، الأمر الذي دفعهم إلى اتخاذ مواقف نقدية غاية في الصرامة تجاه المحاولات السينمائية، التي لم تكن تمتلك حينها إلا البسيط من الأدوات الفنية والتقنية، وتقتدي برغبات الجمهور في سينما تعوّض خساراتهم في الواقع بإنتصارات على الشاشة!.. وهي الآفة التي أصابت عموم السينما العربية التي شاءت تناول جوانب من القضية الفلسطينية، باستثناءات محدودة، ربما من أبرزها فيلم «كفر قاسم» الذي حققه اللبناني/ برهان علوية عام 1974، بتعاون ما بين مؤسسة السينما اللبنانية، والمؤسسة العامة للسينما السورية، بدعم أوروبي بلجيكي فرنسي.
مع الإشادة بفيلم «كفر قاسم»، وهي حق له تماماً، ينبغي لنا الانتباه أن الحديث النقدي الأيديولوجي عن فيلم «مائة وجه ليوم واحد» لـ/ كريستيان غازي، الذي نال جائزة النقاد السينمائيين في مهرجان دمشق الدولي الأول لسينما الشباب 1972، والذي اعتبره النقاد بمثابة «فيلم نظيف، يستند على قصة عاملين فلسطينيين، ينتظمان في صفوف الثورة الفلسطينية، ومن خلال قصتهما يدين الفيلم الشرائح البرجوازية، ويمجّد الطبقات الكادحة، التي هي بالطبع صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة والنضال»، لم يوفر للجمهور فرصة واسعة لمشاهدة الفيلم، على الأقل كما حصل لفيلم «كفر قاسم» الذي نال النجاح النقدي، والجماهيري، والمهرجاناتي التي توجت بذهبية مهرجان قرطاج ذاك العام. وإن كانت مشاهدتنا لفيلم كريستيان غازي تشير إلى أنه تجريب سينمائي مبكر، كان من الصعب أن يجد إقبالاً جماهيرياً، حتى في أوساط النخبة التقليدية الثقافة.
ومع دخول لبنان في أتون الصراع الدامي، منذ مطالع السبعينات، والذي امتد حتى منتصف الثمانينات، شرعت السينما التسجيلية اللبنانية، في رصد هذه المأساة المفجعة؛ وخلال هذه الفترة تمازج النضالان الفلسطيني واللبناني، وبدا ذلك جلياً خلال الاجتياحين 1978 و1982 وحصار بيروت، فكان من المنطقي أن يظهر الهمّان، في إهاب الهمّ الواحد، والمشترك..
منذ ذاك الوقت بدأت السينما اللبنانية التطرق إلى موضوع الجنوب اللبناني بشكل واضح ومباشر؛ وهي أفلام رغم محدوديتها، إلا أن غالبيتها جاءت على مستوى فني جيد، ويعتبر فيلم «بيروت يا بيروت» لـ/ مارون بغدادي 1975 البداية المناسبة لما هو لبناني في هذا الاتجاه، رغم أنه لم يبتعد عن محورية وجود المقاومة الفلسطينية في الجنوب، حينذاك. ومن الجدير ذكره أن مارون بغدادي أنجز العديد من الأعمال حول الجنوب، نذكر منها، على الأقل، فيلمه «الجنوب بخير طمّنونا عنكم».. وسيمضي بغدادي في تجربته، مؤسساً لسياق سينمائي متميز على نحو لفت الأنظار إليه، عربياً، وأوروبياً.
وإذا كانت المخرجة اللبنانية/ جوسلين صعب قدمت في العام 1982 فيلمها «سفينة المنفى» الذي يرصد السفينة التي نقلت الفدائيين الفلسطينيين، عقب اجتياح لبنان، ومحاصرة بيروت، فسنجد أنه في الفترة التالية لاجتياح 1982، وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، قد أخذت السينما اللبنانية منعطفاً جديداً، حيث انغمست في دراسة الحرب الأهلية، وانعكاساتها النفسية والاجتماعية، على الأجيال السابقة، التي شهدت هذه الحرب، والأجيال االتالية، التي نشأت في أتون هذه المعارك، أو على حوافها.
ويمكننا أن نعتبر الكثير من الأفلام اللبنانية من هذا النسق سواء كانت تسجيلية أو روائية، قصيرة أو طويلة، أو تمازج بين الروائية والتسجيلية والوثائقية، غير بعيدة عن الهمّ الفلسطيني لأن ثمة تواشج كبير في هذا الشأن، فالفلسطينيون بدوا كاللبنانيين تماماً، إذ دفعوا أثماناً باهظة في هذه الحروب، والحروب التي تفرّعت عنها، وتورّطوا كاللبنانيين تماماً فيها، وعند قراءة ملابسات هذه الحرب وآثارها وانعكاساتها، لا بد من حضور ما للفلسطينيين في تفاصيل اللوحة..
وفي أصل اللوحة التي نحاول قراءتها، تبرز تجربة المخرجة الفلسطينية “مي المصري”، وزوجها المخرج اللبناني/ جان شمعون، حيث مثّلا أبرز ثنائي سينمائي متميز، لبنانياً وعربياً، فمنذ أن أنهت “ميّ المصري” دراستها في أمريكا، وعودتها إلى لبنان، وزواجها من المخرج/ جان شمعون، شرعا في مسيرة سينمائية متميزة.
في العام 1982 بدأت المسيرة المشتركة، فيما بينهما، والتي ضمَّت فيلم «تحت الأنقاض» الذي يتحدث حول حصار بيروت، والاجتياح الصهيوني للبنان، وما رافق ذلك من اعتداءات وحشية، واشتباكات عنيفة، بين المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية من جهة، وبين قوات العدو الصهيوني من جهة أخرى.
تجربة “جان شمعون” و”ميّ المصري” تستحق دراسة واسعة، واهتماماً حقيقياً، ليس فقط لاستثنائيتها في عالمنا العربي، بل لقدرة هذا الثنائي المتناغم على تحقيق سينما مختلفة، ومتميزة، يمكن من خلالها قراءة الموضوع اللبناني، والموضوع الفلسطيني، كلّ على حدى، كما بتداخلهما وتشابكهما، حتى لا يكاد للمرء العارف أن يتمكن من إدراك الحدود الفاصلة بين ما هو لبناني وما هو فلسطيني، في أفلامهما المشتركة، أو أفلام كل منهما بالتعاون مع الآخر.
وعن الملاحم البطولية التي سجّلها الشعب اللبناني المقاوم، في الجنوب اللبناني، سينجز العراقي “قيس الزبيدي” فيلمه «واهب الحرية» 1989 من إنتاج «أنصار المقاومة اللبنانية»، فيكون بمثابة تحية للمقاومة الوطنية اللبنانية، كما يغدو هذا الفيلم وثيقة هامة للتاريخ والعالم، عن نضال شعب لم يقبل الذلّ ولا الهوان، ولم تكسره الممارسات البشعة.
فيلم «واهب الحرية» عمل وثائقي يستعين بكل الوسائل السمعية والبصرية، في محاولة إعادة سرد تاريخ نشوء وتطور المقاومة الوطنية اللبنانية، ومن ثم المقاومة الإسلامية اللبنانية، مستفيدة من تراث وتجربة المقاومة الفلسطينية، ليؤكد جدلية العلاقة بين حركتي المقاومة اللبنانية، والمقاومة الفلسطينية.
وفي التسعينات سنجد ظهورا متعددا للجنوب اللبناني، في غير فيلم، نذكر منها فيلم «الشريط بخير» لـ/ أكرم زعتري، وفيلم «قانا» لـ/محمد سويد، كما صوّر “جورج شمشوم” وثائق بصرية حول الميليشيات العميلة للعدو الصهيوني، وهي وثائق تصلح لصياغة أفلام هامة.. دون أن ننكر ظهور عدة أفلام أنجزها مخرجون شباب في الجامعات والمعاهد والكليات اللبنانية، ممن بادروا لإنجاز أفلامهم ذات الهم والاهتمام بالشأن اللبناني عامة، والجنوب خصوصاً..

ولكن الأمر الأكثر أهمية في السينما اللبنانية سيكمن في تلك المراجعات التي قام بها عدد من السينمائيين اللبنانيين الذين لم يكتفوا بالعمل مع سينما الثورة الفلسطينية، بل انخرطوا في صفوف نضالاتها، وعاشوا أحلامها (هل نقول أوهامها؟)، فكانوا هم أنفسهم مشاريع شهداء، وها هم اليوم بعد مرور الكثير من المياه في النهر، يعيدون قراءة ما كانت عليه الثورة، وما كانوا هم عليه من أوهام، أو أحلام!.. كان ذلك في أفلام متميزة من طراز «عندما يأتي المساء»، ولن ينتهي عند فيلم «ما هتفت لغيرها» للمخرج اللبناني/ محمد سويد، وكذلك في أفلام “ماهر أبي سمرا”، وفي مقدمتها فيلمه «دوار شاتيلا»، لنتبين في النهاية، أن الموضوع الفلسطيني لبنانياً كان أكثر من ظاهرة عابرة، ذات وقت، وارتقى إلى درجة أنه مسألة حياة وموت!.. ومن حسن حظنا، وحظ السينما الللبنانية أنهم نجوا، على الأقل ليقدموا لنا أفلام المراجعة الذاتية، التي تكشف الكثير مما كان، ومما كان من المحتمل أن يكون..
عموماً، إن الأفلام اللبنانية الجادة وجدت في الموضوع الفلسطيني واحداً من مفردات الواقع اللبناني، لذلك لم تستطع القفز فوق هذا الموضوع، أو تتجاهله، وإن لم تتوغل في عمقه، ففي فيلم «أشباح بيروت» لـ/ غسان سلهب 1999، مثلاً، سنجد محاولة دراسة الآثار والمنعكسات النفسية، التي تركتها الحرب على أجيال متقاربة في العمر، متفاوتة في التجربة. وفي فيض بحث الفيلم هذا، وأسئلته القلقة المحرجة، يظهر الموضوع الفلسطيني من خلال حوارات هذه الشخصيات، وتفاصيل الواقع؛ ورغم أن الفيلم لم يذهب مباشرة نحو الموضوع الفلسطيني، كالذهاب إلى مخيمات بيروت، والشهداء، والمقاتلين الفلسطينيين، في بيروت الحرب، ومصيرهم في بيروت ما بعد الحرب، إلا أن الشأن الفلسطيني حضر بصيغة من الصيغ: فلسطين المحتلة، الثورة، العودة، الأحلام، التنظيمات.. والكارثة عموماً.. وهو ما سنجده في الكثير من الأفلام اللبنانية، بدءاً من «بيروت الغريبة» لـ/ زياد دويري، مروراً بفيلم «طيارة من ورق»، لـ/ رندا الشهال، وصولاً إلى أحدثها؛ فيلم «رصاصة طايشة» لـ/ جورج هاشم.
هذه الأفلام اللبنانية، التي لم تستطع الإفلات من الموضوع الفلسطيني، الذي ما زال ثقيلاً في الذاكرة، وفي الواقع، وربما في المستقبل اللبناني.