طعم الحريّة المر.. اغتيال الصحافية بوليتكوفسكايا

واجهت روسيا العديد من المشاكل الداخلية منذ أن دخلت نظاماً جديداً استدعى متغيّرات عديدة. لكن كما الحال في كل مكان آخر، تبقى هناك أمور تواظب الاستمرار على منهجها السابق بصرف النظر عن مسمّيات هذا النظام أو ذلك. 
من أهم الأمور التي لم تتغيّر، كثيراً على أية حال، الإمساك بالسُلطة على نحو لا يعرف المهادنة. وموضوع هذا الفيلم الجديد الذي شوهد مطلع العام في مهرجان سندانس ثم أعيد عرضه  في مهرجان “أسبوع السينما الوثائقية” DocWeek هو هذا الجانب من الحياة السياسية الداخلية بالتحديد.
في العام 2006 غيّب الموت صحافية روسية اسمها آنا بوليتكوفسكايا كانت تنجز تحقيقاً حول الوضع في الشيشان ويبدو أنها داست على أصابع بعض المسؤولين الروس الحريصون على أن لا تنشر الصحافية ما اكتشفته في مضمار عملها، وكما في الأفلام البوليسية، ربما قرروا ضرورة اختفائها التام عن الصورة. المخرجة لا تقول إن أحداً بذاته هو القاتل، لكنها ليست في وارد أن تكتفي بالإشارات من بعيد. فيلمها يملك من الجرأة بحيث من الممكن أن يُثير أزمة ثقة متجددة إذا ما وجد القنوات الصحيحة لعرضه في روسيا.
المخرجة مارينا غولدوفسكايا هي صديقة قديمة للصحافية بوليتكوفسكايا، وكانت أجرت معها بضع مقابلات تستخدمها هنا في نطاق توجيه دّفة العمل. الفيلم في جانب كبير منه هو شرح لشخصية عرفها عدد كبير من أصحاب المهنة والإعلاميين والسياسيين، ومن أهم المقابلات كانت مع الرئيس السابق ميخائيل غورباتشوف الذي وصفها بأنها شجاعة بحيث لا تخشى العواقب، ما يجعلها في الواقع أقرب إلينا جميعاً: إنسان طبيعي يعرف حدوده لكنه لا يستطيع الوقوف عندها.
حسب الفيلم فإن الصحافية كانت تعلم خطورة المضي في تحقيقاتها، لكنها لم تستطع أن تترك المهمّة التي انتدبت نفسها لذلك. وكانت ركّزت على حادثتين أرادت أن تذهب إلى عمقيهما: كيف تمّت تحديداً عملية قتل نحو 300 شيشاني من بينهم قرابة 200 طفل (كما يذكر الفيلم وكما أوردت الأنباء في العام 2004). من خطّطّ؟ لها وكيف سمحت القوّات الروسية، قيادة وجنوداً، لنفسها بمثل هذه المجزرة.

فيلم طعم الحرية المر

الحادثة الثانية هي تلك التي وقعت سنة 2002 حينما تم قتل 170 شيشانيا كانوا احتلّوا صالة مسرحية  فحاصرتهم القوّات الروسية وفتحت أنابيب الغاز عليهم فأبادتهم.
الحرب لها ضحاياها، يقول الفيلم، لكن ليس عبر هذا القتل المريع الناتج عن فساد أخلاقيات المؤسستين العسكرية والسياسية. والفيلم يرصد طروحاته بكل ثقة. تسأل نفسك إذا ما أدركت المخرجة المصير الأسود الذي ينتظر صديقتها فحققت فيلمها تبعاً لهذا الإدراك.
طبعاً، التوقّع ربما كان جائزاً ولابد أن المخرجة غولدوفسكايا كانت تخشى على صديقتها وتحسب أنها قد تتعرّض للسوء، لذلك حرصت على متابعة ما تقوم به وتسجيله. مثل المرّة التي تم فيها تسميم الصحافية وهي على متن طائرة (قلت أن قصّتها أشبه برواية بوليسية) فإذا بالمخرجة إلى جانبها في المستشفى تستجوبها عما حدث.
هذا المشهد يأتي في غمار تقرير الفيلم أن مقتل بوليتكوفسكايا لم يكن نتيجة محاولة وحيدة، بل تبع بضع محاولات فاشلة.
لم أشاهد فيلم المخرجة السابق “طعم الحرية”، لكن من فعل من زملاء المهنة الأجانب، أخبرني أنه تحدّث عن الصحافية ذاتها بوليتكوفسكايا أيام التحوّلات الواعدة إثر انهيار النظام. لكن ما يعني الناقد  هو أن هذا الفيلم يستطيع أن يقف على قدمين منفصلتين وتوجيه أصابع الاتهام ليس دفاعاً عن الشيشان بل ضد فساد عصر ما بعد “الثورة الديمقراطية”0
المخرجة لها باع طويل في السينما الوثائقية (من العام 1994 تحديداً) وهي لا زالت مثابرة على هذا المنوال في وقت كثيراً ما نجد مخرجون وثائقيون ينتقلون بعد حين إلى الفيلم الروائي ومعظمهم بلا نجاح.


إعلان