عن فيلم “ذكريات التخلف”(1 من 2):

ما أحوجنا إلى فهم الحاضر في ضو�� سينما الماضي

يعتبر فيلم “ذكريات التخلف” Memories of Underdevelopment للمخرج/ توماس جوتييريز آليا، عملا ملهما، لا مثيل له من قبل في السينما الكوبية التي ظهرت ملامح مدرستها الخاصة في الستينيات، أي بعد الثورة المسلحة التي قادها “كاسترو” وأطاحت بالديكتاتور “باتيستا” عام 1959.

“ذكريات التخلف” فيلم “حداثي” بمعنى الكلمة، أوروبي في ظاهره، ولكنه “لاتيني” تماما في خصوصية التجربة التي يصورها، وأجوائها، وفيما يطرحه من تساؤلات بل وتحديات أيضا على مستوى الشكل.

صحيح أن الكثير من هذه التساؤلات تأتي على مستوى قد يبدو وجوديا، ربما تأثرا بأفلام الموجة الجديدة الفرنسية، وبأفلام “أنطونيوني” في الستينيات، التي كانت تدور حول عزلة “البورجوازي”، وفشله في إقامة علاقات ناجحة مع المرأة، وتدهوره النفسي بسبب عدم تحققه فيما يفعله، وغير ذلك من الأفكار التي يلعب عليها الفيلم كثيرا في تصوري الشخصي، ولكنه يصوغها ويصبّها، في سياق سياسي، اجتماعي، نقدي، يتعلق بخصوصية التجربة الكوبية: تاريخ كوبا الخاص، وتطور الصراع فيها.

إنه يدخل بنا ويخرج، من وإلى أسلوب التداعيات المميز للسينما الأوروبية في الستينيات، فمخرجه العبقري، يستخدم أسلوبا سينمائيا يعتمد اعتمادا أساسا على المونتاج، يمزج من خلاله، بين التسجيلي والوثائقي والخيالي، بين الوثيقة الصوتية أو المصورة، وبين التعليق الصوتي المباشر من خارج الصورة، بين الطابع التعليمي الذي يتوقف أمام بعض المعلومات ذات الدلالة الخاصة في سياق الفيلم، وبين الصور الثابتة والرسومات.

وهو يستخدم أيضا لقطات من الجريدة السينمائية ومن الأرشيف، ويعتمد كثيرا على الكاميرا الحرّة المحمولة على الكتف التي تجعل المنظور مهتزا تماما لاكتساب الطابع التسجيلي على نحو يذكرنا بالأفلام السوفيتية التي صنعت في عشرينيات القرن الماضي، يستوحي الفيلم من “أيزنشتاين”، كما يستلهم من “جودار”؛ ويمتليء بالكثير من الإشارات إلى الماضي، إلى التاريخ، في بناء جدلي مركب ومثير، ولكن دون أن يفقد الفيلم في أي لحظة، طزاجته وطابعه الحداثي الأخاذ، وقدرته على جذب المتفرج، ودون أن ينحرف أبدا عن هدفه في الكشف عن تناقضات الشخصية الرئيسية التي يدور حولها موضوع الفيلم.

مخرج الفيلم “توماس جوتييريز” آليا، كان ألمع السينمائيين الكوبيين على الإطلاق (توفي عام 1996)، وكان ينتمي إلى الطبقة الوسطى ولكن إلى أسرة اعتبرت في كوبا “تقدمية”.

وقد أيّد الثورة الكوبية ووقف معها بقوة من البداية، وإن لم يمنعه إيمانه بالثورة، من توجيه النقد لبعض الممارسات السياسية والاجتماعية في أفلامه، وخاصة في فيلم “ذكريات التخلف”.

يلعب عنوان الفيلم على كلمة ستصبح فيما بعد من الكلمات أو الأوصاف الشائعة كثيرا في عالمنا، في وصف البلدان التي تعاني من مشاكل “التخلف”، خصوصا فيما يسمى بـ” العالم الثالث”؛ والمقصود هنا “التخلف” من وجهة نظر بطل الفيلم، وهو رجل في نهاية الثلاثينيات من عمره، ينتمي إلى الطبقة الوسطى، ورث مجموعة من الشقق السكنية يعيش على الدخل الذي يأتيه من تأجيرها؛ وقد أممتها الحكومة الجديدة لكنه يستطيع الاستفادة من دخلها لمدة 12 عاما.

 هو إذن، حسب التصنيف المتعارف عليه، “عاطل بالوراثة”، أي يعتبر “عالة اجتماعية” في مجتمع الثورة والعمل والبناء، في كوبا الجديدة، لكنه، وهو الذي كان يمتلك أيضا محلا للأثاث ورثه عن والده وأممته الحكومة، كان يرغب دائما في أن يصبح كاتبا. 

يبدأ الفيلم في عام 1961، أي بعد الغزو الأمريكي الفاشل بمساعدة اللاجئين الكوبيين في الولايات المتحدة الذين يطلق عليهم الأمريكيون “المنفيين الكوبيين”، وهي العملية العسكرية الشهيرة التي عرفت باسم عملية “خليج الخنازير” وانتهت بالفشل وبغرق الكثير من السفن المشاركة فيها بفضل المقاومة الكوبية المسلحة.
وينتهي الفيلم في أكتوبر عام 1962، أي وقت بلوغ أزمة الصواريخ الروسية التي نشرها السوفيت على الأراضي الكوبية، ذروتها، فقد كادت أن تتسبب في مواجهة نووية بين القوتين العظميين وقتها لولا أن قرر السوفيت سحبها في اللحظة الأخيرة.

الإطار الزماني إذن، يتحدد في فترة ساخنة سياسيا، شهدت أيضا نزوح الآلاف من البورجوازيين الكوبيين الذين رفضوا الاندماج في المجتمع الجديد، فهاجروا إلى الولايات المتحدة؛ وبين هؤلاء أصدقاء وأقارب بطلنا “سيرجيو”، بل وزوجته “لاورا” أيضا.

 وفي المشاهد الأولى من الفيلم نرى طوابير المهاجرين الكوبيين في مطار “هافانا”، وبينهم “لاورا”، بينما يقوم “سيرجيو” بتوديعها، ولكن دون أن يبدو على ملامح وجهه أي شعور بالفقدان، أو بالحزن، بل إننا نلمح شعورا بالارتياح.

 لقد ذهبت “لاورا” ولكن بقيت أشياؤها في بيته، تذكره بنموذجها الذي يرفضه لكنه لا يعرف غيره، ويشعر بنوع من الحنين لاستعادته على نحو ما.

“سيرجيو” يرفض مغادرة كوبا، لكنه يرفض أيضا الانتماء إلى الوضع الثوري الجديد في البلاد، أن يكون جزءا من المجموع من حوله، فهو يعتبر الكوبيين “متخلفين”، ويصف نفسه بأنه “أوروبي” أكثر منهم جميعا، وهو ككاتب ومثقف، يسجل يومياته وذكرياته باستخدام الآلة الكاتبة، ويطرح الكثير من التشكك والقلق الوجودي الذي يرتبط بشعوره بانعدام الوزن، فهو يرفض طبقته، لكنه يرفض البديل الآخر، يسخر من الشعارات الجديدة، ويتشكك بوضوح في قدرة هؤلاء الشباب الذين يضيعون الكثير من الوقت في المناقشات والجدال، يتطلع إلى الماضي بحسرة، إلى علاقته التي لم تكتمل مع الفتاة الوحيدة التي أحبها وكانت “أجمل شيء في حياته”، يتجول في الشوارع، لكنه بعيد عن الناس من حوله، ويبدو معزولا في برج عاجي، يتطلع إلى الناس من شرفة مسكنه المرتفع عبر المنظار، إلى الشاطيء، وإلى الشارع، وإلى تمثال برونزي وسط ميدان قريب، وتتداعى الأفكار المتشككة من خلال ذلك “المونولوج” الطويل الممتد الذي يأتينا عبر شريط الصوت من خارج الصورة، وكأن “سيرجيو” يعبر عن أفكاره التي يدونها ولو بصوت مرتفع.

ما الذي حدث؟ “سيرجيو” يجيب بتشكك: “لقد تحررت كوبا.. من كان يصدق”.
يلمح قاعدة خالية لنصب تذكاري من أعلى، ويعلق “أين ذهبت حمامة بيكاسو.. من السهل أن تكون شيوعيا في باريس.. لقد دبّت الحياة ولن يتوقفوا حتى يصلوا إلى “ميامي”.. ولكن كل شيء يبدو مختلفا اليوم.. ما الذي تغير؟ أنا أم المدينة”؟

لا يروي الفيلم قصة، ولا يعتمد على بناء درامي تتصاعد فيه الأحداث في سياق رأسي، بل على بناء أفقي، يعرض، يقدم، ويحلل من خلال تجسيد التناقض والتعارض بين الصور واللقطات، وهو بناء ثري، لا يهدف للوصول إلى “ذروة” درامية، بل يرمي إلى تفكيك الشخصية، وتعريتها، والتوقف أمام أزمتها.
 إنه لا يدين، ولا يبرر، بل يعري، يكشف، ويفضح ذلك العجز، ويجسده. وهذا هو المدهش في هذا العمل الكبير في وقته.

 كيف كان ممكنا أن يأتي هذا الفيلم من كوبا، لأهم مخرج سينمائي كوبي، على غير ما اعتدناه من أفلام “الواقعية الاشتراكية” التي تجسد عادة، “البطل الإيجابي”، توجه انتقادات مباشرة إلى الماضي، لكي تبرر كل ما جاء بعدها، وتتغاضى عن أي نواقص أو سلبيات في الحاضر.

أما هنا، فعلى العكس من ذلك تماما، يصبح مدخلنا إلى “الحالة الكوبية” مدخل فلسفي وذهني مرهق، ولكن من وجهة نظر مثقف من الطبقة الوسطى، عاجز عن حسم موقفه، بل وعاجز عن حسم أي شيء في حياته. إنه البطل السلبي، أو اللا بطل.

زوجته رحلت، وهو يعود إلى مسكنه، يتطلع إلى أشيائها التي ظلت تذكره بها: يدير شريط تسجيل لكي يستمع إلى معابثته لها التي تصل حد الشجار.

 وفي مشهد يجسد البناء المركب للفيلم، نراه أمام المرآة، يأتينا صوته عبر شريط التسجيل، وصورته من الماضي الذي يتذكره، وهو يعبث مع زوجته ويثير ضيقها، يرسم على المرآة بقلم التجميل الأحمر، في حين يأتي صوته إلينا عبر الشريط المسجل: إنني أفضل النساء اللاتي على شاكلتك.. المصطنعات، أكثر من النساء الطبيعيات.. أفضل الملابس الأنيقة والطعام الجيد، والماكياج والتدليك.. إنك أصبحت أكثر جاذبية الآن.. لم تعودي تلك الفتاة الكوبية المتخلفة..”. هنا يكون هو قد ارتدى جوربها النسائي في رأسه، وأخذ يتأمل صورته المشوهة أمام المرآة، ثم ينزع الجورب من رأسه ويجلس في استرخاء وإرهاق على أحد المقاعد. يحدث هذا في الزمن الحاضر.. الآن بعد أن ودعها في المطار وعاد لكي يكتشف موت أحد العصافير التي يحتفظ بها في قفص في الشرفة، فيلتقطه ببساطة ويلقي به من الشرفة المرتفعة إلى أسفل، إلى الشارع، وهو يردد: إنها لحظة الفراق!
لا يعتمد البناء فقط على التداخل بين الماضي والحاضر، سواء من خلال شريط الصوت أو شريط الصورة، بل وعلى المزج مع مشاهد ولقطات تسجيلية تتداعى في الذاكرة الفردية للبطل- اللابطل حينا، أو تستخدم من زاوية موضوعية وفي سياق نقدي أو “تعليمي” من وجهة نظر الفيلم، كما سنرى.

عمليا لا يفعل “سيرجيو” شيئا في حياته سوى التأمل والتجوال في الشوارع، يتطلع إلى النساء بوجه خاص، يعلق عن طريق الصوت الذي يأتي من خارج الصورة، ويطرح تساؤلاته المتشككة وهو ينظر إلى عشرات الوجوه للرجال والنساء، وإلى صور ورسومات لكاسترو على الجدران، لقطات قريبة “كلوز أب” للكوبيات في العصر الجديد: قلق في العينين، نظرات توتر وعدم ارتياح. ما هذا القلق؟ هو بالقطع ليس من النوع الذي يعاني منه “سيرجيو”.. إنه يتساءل: ماذا تعني الحياة بالنسبة لهم؟ بل ماذا تعني الحياة بالنسبة لي؟ ويستدرك: “ولكني لست مثلهم…”.


إعلان