حين يُخفت وهج الشارع أضواء الدراما الرمضانية!

الوهم… وبشكل أدق المحاكاة كما قال أرسطو، الوهم بمحاكاة الواقع، وهم إعادة الخلق… ومنه وفي العمق كما يرى الكثير من المفكرين والمبدعين المعاصرين العالمين والعرب… وكما كتب المسرحي اللبناني/ روجيه عساف.. ومن خلال التعريف الذي اقترحه أرسطو؛ وهم الإنسان العاجز ومحدود الإمكانيات.. بأنه كلي القدرة.

الفن بهذا الشكل والدراما على وجه الخصوص ومن خلال وظيفتها عبر العصور القديمة كما عرفها الغرب تحديداً… ليست إلا تعبيراً وتعويضاً للإنسان الخائف أمام جبروت الوجود والرافض أن يرى عجزه منكراً، بادعاء أنه قادر على إعادة “الصياغة” من وجهة نظر تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة… كان هذا على الأقل هو منطلق مبدعي الدراما التقليدية واضعين بذلك أنفسهم فوق غيرهم “من المتلقين”.
وهُمْ، أي المتلقون، لطالما وقعوا تحت عبء التصديق المضني، أو القبول “المتواطئ” بما تمليه عليهم تلك المقولات الفوقية، تحت ضغط الشعور عينه بالضعف الإنساني، أو أزمة الإنسان العاجز.

 وهكذا لم يكن الفن والثقافة في النتيجة كما بدأ مثقفوا ومفكروا الحداثة يقولون على أبواب القرن العشرين؛ إلا أداةً بيد السلطة عبر العصور تسوط بها عقول الدهماء، ولسان حالها الأكثر دهاءً وخبثاً والتفافاً من أي وسيلة سلطوية أخرى للإخضاع والسيطرة؛ إنها ثقافة وفن السلطة: “ثقافة” و”فن” الوهم.

هذا ما أدى مع تطور الفنون بالكثيرين (وعلى رأسهم المسرحي “بريخت”) إلى الدعوة لدراما جديدة تكسر سلطة الوهم ووهم السلطة.. ليس بإلغاء الوهم… بل بتحويله إلى “خيال” مدرَكٍ يخاطب الوعي فتأخذ “الدراما” دورها الجديد في تحرير عقل الإنسان.

مأزق الدراما الرمضانية 2011
يبدو أن ما قاله منظروا أوروبا وفنانوها أولاً في تلك السنين الغابرة؛ كتب على العرب (وأكثرهم السوريين) اكتشافه دفعةً واحدة، وبأشد الطرق فجاجة ومباشرةً ومرارة؛ حيث أن “الكشف” لم يتم على مستوى الدراما التلفزيونية الرمضانية ولم يقتصر عليها “كشكل” أوحد لفنون الدراما على مستوى الشارع العربي فقط، بل لقد طاول ذلك الكشف أيضاً -في سورية على وجه التحديد- صناع الدراما التلفزيونية والمشتغلين فيها أنفسهم وفي مستوى آخر من مستويات الوهم “الاجتماعي” ساعدت في ذلك ولحسن الحظ وسائل الاتصال وأجهزة الإعلام الحديثة التي أصبحت تنقل نبض الشارع  والمتغيرات لحظةً بلحظة.

لقد كُشف هنا وبشكل كاريكاتوري في أحيان كثيرة، عن تلك الرابطة الخفية المشار إليها أعلاه بين السلطة والفن السائد، بحيث لم تعد تلك الرابطة خفية بالمرة كما كان الحال عليه في العصور الغابرة، لقد ظهر أناسها من لحم ودم بتصريحاتهم “الصريحة” على الفضائيات، لمقارعة وعي جماهيري عام جديد، منعزلين ومجردين عن أعمالهم “الفنية” وغير مدركين (كما السلطة) أن الجماهير صارت اليوم ترى إلى أعمالهم بعيون مختلفة أيضاً، وبوعي فني جديد تحت ضربات الواقع الثائر، ليفقد “مهرجان” المسلسلات الرمضانية و”أوهامها” وهجه فجأةً:
في رمضان سورية 2011 لم يعد “أهل الشام” يصدقون “صاغرين” أن شخصيات مسلسل باب الحارة الشهير وأمثاله تمثل أحداً منهم، كما أصبح أي مواطن عربي يدرك بشكلٍ أو بآخر أنها شخصيات ممسوخة “غير أرضية” تلك التي اعتقد سابقاً أنها للسوريين.

في رمضان سورية 2011 لم يعد “أهل الشام” يقتنعون “صاغرين” أن تلك “الجدران” هي جدران حواريهم، وأن تلك “الأزياء” هي أزياؤهم التي يعرفون: بقماشها المكحوت، ورائحة عرقهم المجبول بخيوطها، وأن تلك الإضاءة المصطنعة هي أشعة شمسهم التي خبروها منذ آلاف السنين.. والتي دفأت عظامهم في شتاءاتهم، و”سمرت” بشراتهم في أصيافهم.

وكما أن “حرية” مسلسل بقعة ضوء لم تعد تسمى “حرية” في رمضاننا هذا، فإن مسلسل “الخربة” لم يسعفه الحظ أيضاً في جعل إنسان الريف السوري يعتبر نفسه – رغم جهود الممثل “التاريخي” دريد لحام- جاهلاً بمعطيات العصر وعاجزاً، ولا يعرف – كما أدى ممثل آخر- كيف يتعامل مع جهاز الكومبيوتر.
في رمضان هذا العام لم تعد “اللطشات” المعتادة الموحية بقول ما هو ممنوع تحدث أثرها في الترويح عن أنفس مشاهديها.

وأخيراً في رمضان الربيع العربي، لم يعد أحد يصدق كذبة الوهم، إلا أصحابها وأصحاب المصلحة منها.. ممثليها أنفسهم ومنتجيها.. ومن أعطى الأمر بإدارة لعبة الوهم منذ البداية.

ربما أعطت الدراما السورية قبل سنوات ببعض أمثلتها الساطعة زخماً جديداً لحراكٍ ما وفتحت نوافذ – وإن على استحياء- على جرأةٍ جديدة ومواضيع ملحة… لكنها مطالبة اليوم وقد سبقها الناس على الأرض متجاوزين خوفهم وأوهامهم.. إلى اللحاق بالركب وتخلي أصحابها عما بقي لهم من مخاوف وأوهام.


إعلان