مهرجانات السينما في فرنسا
خلال السنواتٍ الأخيرة، تزايدت بشكل ملحوظٍ أعداد التظاهرات، والمهرجانات السينمائيّة في القارة الأوروبيّة؛
ويشير هذا الازدهار إلى حيويّة الصورة، وجاذبيتها، حيث تمكّن المحترفون من تجديد علاقتهم بها استجابةً لتحديّاتٍ تكنولوجيّةٍ، واقتصاديّةٍ تتسارع باضطرادٍ مستمر.
وفي عالمٍ يلهثُ وراء التشابه، ُيمكن اعتبار هذا التعددّ، وتنوّعه مصدر أملٍ، وثراءٍ للإنتاج السينمائيّ الحاليّ، وقد عرفت أوروبا كيف تحتفظ، وتنشر في نفس الوقت ثقافةً أصيلة، مخلصةً لتاريخها، وهويتها.
وتقود “الهيئة الأوروبيّة” نشاطاً داعماً لهذه المهرجانات بهدف الدعاية، والمُساعدة على انتشار الأعمال الأوروبيّة في الإتحاد.
كما تهتمّّ بتطوير النشاط المُتبادل بينها بغرض المُضاعفة من تأثير فعّالياتها لصالح السينمات الأوروبيّة، ويتحتّم اليوم لمن يعمل في المجالات السينمائيّة، الثقافيّة، والفنيّة، المختلفة، والمتعددة، امتلاك دليلٍ توثيقيّ معلوماتيّ، كأداة عملٍ لا يمكن الاستغناء عنها للهواة، والمحترفين.
قواعدٌ، وأخلاقيّات..

المهرجان السينمائيّ الحقيقيّ، هو الذي يتعامل مع السينما كفنٍ، والفيلم كنتاجٍ إبداعيّ، وتتمحور أهدافه الرئيسيّة بتقديم أفلام لم يسبق عرضها تجارياً، أو أفلاماً نادرة، وتتكوّن برمجتها عادةً من أعمالٍ حديثةٍ، وأخرى غير معروفة، وأفلامٍ من علامات السينما، أو سينماتٍ مجهولة.
إنه فرصة للمُشاهدة بهدفٍ فنيّ، اجتماعيّ، تاريخيّ، ميراثيّ…، بالإضافة لتنظيمه برامج موازية، تكريماتٍ، بانوراما، واستعادات.
ويعمد على إثارة فضول المتفرج، كما يوفر الإمكانيات الخاصّة لتنشيط معلوماته، وتكوينه المتواصل.
يختار لنفسه خطاً فنيّاً محدّداً، وأصيلاً، يضع في الحسبان اختياراتٍ، وأهداف، يعلن عن هويةٍ، وبناءٍ متماسك، يكشف عن توجه، أو تيمةٍ خاصّة، وتقع على عاتقه واجب، ومسؤولية معرفة المُكتسبات السابقة، والحاليّة، وذلك كي يتمكن من الاندماج بشكلٍ متآلف، وتكميليّ، ويُنجز دوره بفعاليةٍ مع المهرجانات الأخرى المتواجدة على الساحة.
ويُشكّل المهرجان حدثاً ثقافياً، ويقترح تنوعاً في الأفلام عن طريق عروضٍ يوميّة خلال فترةٍ زمنيةٍ مرجعيّة من خمسة إلى 21 يوماً، ويُراعي تواريخ انعقاد المهرجانات الأخرى على المستوى المحلي، الوطني، والعالمي؛
وعلى أيّ مهرجانٍ احترام العمل بنسخته الأصلية، تقنيات التصوير، مادته الأساسيّة، وسرعته.
وتقع مسؤولية تنظيمه على عاتق مؤسسةٍ تُدار بشكلٍ مستقلٍ، وتعتمد على إمكانياتها الذاتيّة.
ولإطلاق تسمية “دوليّ” ، أو “أوروبيّ” على مهرجانٍ ما، فإنه يتوجب مراعاة عدة شروط من بينها :
ـ أن لا تتضمّن اختيارات المسابقة الرسميّة أقلّ من ثمانية أفلام روائية لخمسة بلدانٍ مختلفة، أو 25 فيلماً قصيراً من 10 بلدانٍ مختلفة.
ـ أن تتضمّن البرمجة 50% من الأفلام الوطنيّة على الأقلّ.
ـ أن تتوفر للجمهور ترجمة الأفلام الأجنبيّة إلى اللغة الوطنيّة، ومن الأفضل أن تكون مطبوعةً على الشريط نفسه.
ـ أن تتوفر للضيوف الأجانب، والمشاركين المحترفين الترجمة بلغةٍ عالمية.
ويُحدّد كلّ مهرجانٍ في قانونه الداخليّ شروط الاشتراك، الجوائز الرئيسيّة، الدعوات، التواريخ النهائيّة للاشتراك، والاختيار، وإعادة النسخ، والتعويضات الممكنة في حال تلفها، أو فقدانها، وُيمنع بتاتاً الحصول على حقوقٍ للتسجيل، أو مصاريف ملفات.
وتتعاون المهرجانات فيما بينها لتسهيل حركة، وعروض الأفلام، كما يُوفر كلّ واحدٍ منها شخصاً متخصّصاً للتعاون مع الصحفيين، وتزويدهم بالوثائق، والصور التي يحتاجونها لمتابعاتهم، وتقاريرهم.
مهرجانات السينما في فرنسا
تنتشر في عموم الأراضي الفرنسيّة، بدءاً من أكبر مدنها مساحةً، وغزارةً سكانيّة، وحتى الأصغر، والأقلّ عدداً في قاطنيها، كما تمتدّ في مواعيد انعقادها على مدار العام، بشهوره، أسابيعه، وأيامه.
وهي تشارك بفعاليةٍ في تطوير، وتوزيع الأنشطة السينمائيّة، وتُعتبر عاملاً أساسيّاً للتبادلات الثقافيّة، ومناسبةً حقيقيّةً للتعرّف على السينمات الأجنبيّة، وتسمح للمحترفين باللقاء، وعقد حواراتٍ مثمرةٍ لمستقبل الفن السابع، والوسائل السمعيّة/البصريّة، كما تُشكّل إطاراً متميزاً تتطوّر من خلاله معرفة سينمات الدول الأوروبيّة الأخرى، وقد أدرك المسؤولون عن المناطق الجهويّة هذه الخاصيّة، فبدأوا بدعمٍ حقيقيّ لها.
وقد تخصص كلّ واحدٍ من هذه المهرجانات بـتيمةٍ محدّدة، تغطي في مجموعها موضوعاتٍ كثيرةٍ، متنوعةٍ، وممتدةٍ في الزمان، والمكان، كما تكشف للمتفرج العادي، والمُتخصّص عن معظم سينمات العالم المعروفة منها، والمجهولة : الأوروبيّة، الفرانكوفونيّة، الفرنسيّة، الألمانيّة، النمساويّة، دول حوض البلطيق، البلجيكيّة، البريطانيّة، الدانماركيّة، الفنلنديّة، اليونانيّة، الإيطاليّة، الهولنديّة، البولونيّة، البرتغاليّة، الإسكندنافيّة، الإسبانيّة، السويديّة، السويسريّة، الآسيويّة، الصينيّة، اليابانيّة، الأمريكيّة، الكيبيكيّة، أمريكا اللاتينيّة، الإفريقيّة، المتوسطيّة، التركيّة، العربيّة، واليهوديّة.
بينما تخيّرت مهرجانات أخرى التخصّص في مواضيعٍ مثل : الممثل، الشباب، الحُبّ، الطفولة، الآثار والحفريات، التاريخ، أصل الإنسان، الأصول، والأعراق، حقوق الإنسان، الهويّة الثقافيّة، الأقليّات، العالم الثالث، سينما المناطق/السينما الجهويّة، المجتمع، علم الاجتماع، التربيّة، والتعليم، النساء، الميراث، وسائل الاتصالات المتعددّة، الصور المُتخلّقة بالكمبيوتر، الموسيقى، الصحافة، التلفزيون، المسرح، الفنّ المعماريّ، الفنّ، الرقص، السيرك، الأغاني المُصوّرة، الاتصالات، الميراث السينمائيّ، تاريخ السينما، الإضحاك، والهزل، الصمت، التجريب، الفانتازيّا، الأفلام المدرسيّة، أفلام الهواة، البوليسيّة، السياسيّة، الأعمال الأولى، الرياضة، السياحة، الطبيعة، العصافير، الصيد، البحار، الحيوانات، المغامرة، الجبال، التجمعات الإداريّة، المؤسّسات والشركات، التكوين المهنيّ، الماء، الطاقة، البيئة، الطب، الصحة، مرض فقدان المناعة، المثلية الجنسيّة، الطبّ النفسيّ، الزراعة، العالم الزراعيّ، العلوم، الخيال العلميّ، الإعلانات، التحقيقات، الهندسة المدنيّة، المدينة….
ويهتمّ معظمها بعرض الأفلام، وشرائط الفيديو بكلّ أطوالها، وأنواعها : الروائيّة، التسجيليّة، التجريبيّة، والتحريكية، الطويلة منها، والقصيرة.
ويقوم على إدارتها، وتنظيمها مؤسّساتٍ أهليةٍ صغيرة خاضعةٍ للقانون الفرنسيّ لعام 1901 الخاص بالجمعيات، وتعتمدُ بشكلٍ أساسيّ في استمرارها على الدعم الماليّ لكلٍ من : المركز الوطنيّ للسينما، الوزارات المختلفة (الثقافة، التربية الوطنيّة، البيئة، التعاون التقنيّ، العلاقات الخارجيّة، الشباب والرياضة، ..)، المؤسّسات الرسميّة، البلديات، المناطق، التجمعات الإداريّة، الشركات، صندوق الدعم الاجتماعيّ للمهاجرين، وكالة التعاون التقني، والفرانكوفونيّة، مؤسّسة حقوق المنتجين، مؤسسات حقوق المؤلفين، الدخل الخاص…إلخ.
وانطلاقاً من عدم إمكانية تمويل أكثر من مهرجانٍ، فإنّ لكل مدينةٍ مهرجانها الخاص، والمعروفة به، باستثناء بعضها التي تتحمّل مهرجانين، وعلى الأكثر ثلاثة، مثل: “آميان”، “أنجيه”، “مونبلييه”، “آنسيّ”، “ليل”، “بياريتز”، “مارسيليا”.

وتُعتبر العاصمة باريس الاستثناء الوحيد من بينها، حيث ُيمكن إحصاء عشرات المهرجانات، بالإضافة إلى التظاهرات الصغيرة، وأسابيع الأفلام التي تُنظمها صالات السينما التجاريّة.
وللأفلام القصيرة بكلّ أنواعها نصيباً وافراً من هذه المهرجانات، وهي تتوزع على أكثر من مدينةٍ كبيرةٍ، وصغيرةٍ مثل : “إكس إن بروفانس”، “مودون”، “ليل”، “بلفورت”، “بريست”، “كليرمون فيران”، “غرونوبل”، “نيفير”، “بانتان”، “سارلا”، “فيل أوربان”..
وإن كان مهرجان كليرمون فيران أهمّها، وأكثرها شهرة، ومتابعةً محلياً، وعالمياً، ويمكن اعتباره بحقّ بمثابة كان للأفلام القصيرة، هو الذي سحب الأضواء من مهرجان “ليل”، بفضل نشاط، وحيويّة المجموعة الصغيرة القائمة على تنظيمه.
وتتربع “آنسي” على عرش المهرجانات الفرنسيّة المتخصّصة بـأفلام التحريك، وتُعتبر الواجهة الحقيقيّة لهذا الفنّ، وهي تحتضن أيضاً مهرجاناً للسينما الإيطالية لا يقلّ أهميةً عن سابقه.
مهرجان “نانت” هو الوحيد ـ بلا منازع ـ للأفلام القادمة من إفريقيا، آسيّا، أمريكا اللاتينيّة، الشرق الأوسط، بينما تتوجّه اهتمامات “آميان” نحو السينمات الإفريقيّة خاصةً، على حين تخصّصت “مونبلييه” بسينمات البلدان المتوسطيّة، يليها “باستيا” الواقعة في جزيرة كورسيكا.
وتُعتبر الأعمال الأولى للمخرجين من نصيب مدينتيّ “أنجيه”، و”أنوناي”، السينما الفرنسية لـ أفورياز، أوتران للجبال، والمغامرة، بياريتز لسينمات أمريكا اللاتينيّة، والبرامج التلفزيونيّة، ضاحية بوبينيّ القريبة من باريس تخصّصت في علاقة السينما بالمسرح، شيربورغ، ودينار اتجه اهتمامهما نحو السينما البريطانيّة، والايرلنديّة، أما كونياك فهي معروفة بمهرجانها للأفلام البوليسيّة، وتحتضن الضاحية الباريسيّة كريتييّ أشهر مهرجانٍ عن السينما المخصّصة للمرأة المخرجة، مع واحدٍ مماثل في نانت أقلّ شهرة، وحجماً .
أما “دوفيل”، فهي بلا منازع المهرجان الوحيد عن السينما الأمريكيّة، دوارنينه سينما الأقليات، لاروشيل للسينما المجهولة، والمنسيّة، لوركان لكل ما يتعلق بالطب النفسيّ، لوساس، ومارسيليّا للأفلام التسجيليّة، ليّون اختارت الرقص، نيكسون علاقتها وطيدةٌ مع السيرك، أورليان بالسينما اليابانية، باليسّو بالأفلام العلميّة، بواتييه بأفلام معاهد السينما، رين بالمدينة، وضاحية سان دونيّ تهتم بعلاقة السينما، والممثل، والسينما الفرنسيّة، ونأسف لتوقف شاتو روو عن اهتمامها بالسينما المستقلّة، والتجريبيّة.
وبالاتجاه جنوباً نحو الساحل اللازورديّ، فإنّ كان المدينة الغنيّة عن التعريف، ومهرجانها السنويّ، التظاهرة السينمائيّة/الاحتفاليّة الأهمّ، والأقدم، حيث يمتدُّ تاريخها إلى أكثر من نصف قرن.
أما باريس المدللة، المنارة العالمية، وواجهة فرنسا، وثقافتها، فقد احتفظت لنفسها بعشرات المهرجانات، والتظاهرات التي تنعقد فيها بانتظامٍ على مدار العام.