عن فيلم “ذكريات التخلف”(2 من 2):

يمكن القول إن فيلم “ذكريات التخلف” من نوع أفلام “دراسة الشخصية”. ولكي يعمق هذه الدراسة ويسلط مزيدا من الأضواء عليها، ويقوم السيناريو على تقديم بعض الشخصيات التي يرتبط بها “سيرجيو” بشكل أو بآخر وتلعب دورا في حياته.

 ويتوقف الفيلم أمام هذه الشخصيات، فيبدأ بكتابة الأسماء على الشاشة. هناك أولا “بابلو”.. صديق سيرجيو الرافض بوضوح للثورة.. المتشكك في كل شيء حوله، وقد حسم أمره على ضرورة الهجرة؛ ويعبر “بابلو” عن أفكاره خلال جولاته بالسيارة مع “سيرجيو” قائلا إن ما يجري مجرد “لعبة بين الأمريكيين والروس، لكننا سندفع الثمن.. ولا أريد أن أكون موجودا هنا عندما يأتي ذلك الوقت.. سأرحل”.

يتوجه “بابلو” بالسيارة في صحبة “سيرجيو” إلى محطة للتزود بالوقود، هناك بنزين ولكن ليس هناك زيت للمحرك.
 وبعد هذا المشهد مباشرة يستخدم المخرج لقطات تسجيلية، وصورا ثابتة فوتوغرافية، ورسوما تصور حالة الفقر والتخلف والمعاناة التي كان الكوبيون يعيشون فيها في الماضي: رسم يصور بعض العبيد يقيدون حركة واحد منهم على الأرض، بينما يقف السيد يمسك بالعصا وينهال عليه ضربا. (يأتينا صوت بابلو من خارج الصورة، يقول لسيرجيو: “يقولون إن الكوبي يمكنه أن يتحمل أي شيء سوى الجوع”.

نرى لقطات أخرى لرجال جائعين، وأطفال يتضورون جوعًا تمددوا على الأرض في ضعف واستكانة شديدتين، وامرأة تحمل على صدرها طفلا رضيعا يحتضر من الجوع. ويأتي التعليق الصوتي “الموضوعي” وكأننا نشاهد فيلما من أفلام الجريدة السينمائية: “في أمريكا اللاتينية يموت أربعة أطفال بسبب سوء التغذية كل دقيقة.. بعد عشر سنوات سيكون قد مات عشرين مليون طفلا، أي ما يوازي عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية”.

الحوار بين “سيرجيو” و”بابلو” حول المسلحين الكوبيين الذين شاركوا في غزو بلادهم مع الأمريكيين في “خليج الخنازير” وتم اعتقال بعضهم، يؤدي إلى مشهد آخر، تسجيلي، يبدأ بالإشارة إلى مسؤولية الفرد في إطار الجماعة، حسب المفهوم الماركسي، ولكن في سياق استعراض السجناء من الكوبيين المسلحين، والتعليق الصوتي يأتينا قائلا إنه تم اكتشاف تنظيم “اجتماعي” داخل المنظمة العسكرية للغزاة، أي للمسلحين الكوبيين المناهضين للثورة، وهذا التنظيم يعكس التكوين الاجتماعي و”أخلاقيات البورجوازية”.

يأتي هذا التعبير المثير للاهتمام فوق صور فوتوغرافية توحي بالوثائقية دون أن تكون بالضرورة لأناس حقيقيين، ولكن ما هو التشكيل البورجوازي لهذه المنظمة، وكيف يعكس الطبيعة الطبقية للمناهضين للثورة؟
يقدم لنا الفيلم الوثائقي الذي نراه (داخل الفيلم) شخصيات مثل القس، ورجل الأعمال الحرة، والمسؤول التنظيمي، ومسؤول التعذيب، والفيلسوف، والسياسي، و”كثير من أبناء الأسر الطيبة” حسب ما يقول التعليق.. نراهم جميعا بالملابس العسكرية للغزاة الذين شاركوا في عملية الغزو.

يقول التعليق (الموضوعي ذو الطابع التعليمي) إن كل فرد من هؤلاء لديه دور محدد، لكن الجماعة هي التي منحت هذا الدور معنى”.

ونرى لقطات شبه وثائقية لامرأة تتهم أحد هؤلاء الرجال (يدعى كاليفتو) بتعذيبها والاعتداء عليها، وكسر فقرتين من فقرات عمودها الفقري، وهي الآن تشهد ضده، وتواجهه بما فعله: “لقد أخذ يركلني، ونزفت من معدتي، لكنه واصل الركل والضرب (الرجل يهز رأسه مؤيدا لكلامها بينما يبتسم في وقاحة).

وفي مشهد آخر شبه وثائقي أيضا، نرى مجموعة من العصي والسلاسل الحديدية والأسلحة الحادة التي ضبطت مع الغزاة، ولقطات للجنود من عهد الديكتاتور “باتيستا” وهم يقومون بتعذيب المعارضين، وإعدامهم بشكل جماعي، ثم ننتقل إلى ملهى ليلي حيث نرى رموز الطبقة الحاكمة في ذلك العهد، أثناء الشراب والرقص وكل أنواع اللهو بينما نرى في الشارع كيف تقمع الشرطة المعارضين.

وفي مشهد محاكمة القس الذي اشترك في الغزو نراه وهو يبرر مشاركته بقوله إنه كان يقوم فقط بواجبه الديني (نرى لقطة له على ظهر إحدى سفن الغزو وهو يقوم بمباركة المسلحين قبل الهجوم) في حين نسمعه على شريط الصوت وهو يقول: ليس معنى الاختلاط بمؤامرة أن تكون متآمرا”.

“توماس غيتاريث”

من الوثائقي إلى الخيالي نعود إلى “سيرجيو” وهو يراقب فتاة حسناء تعمل خادمة، تأتي لتنظيف مسكنه “ثلاث مرات في الأسبوع” كما يخبرنا عبر التعليق الصوتي المصاحب.

 إنها “نعومي” التي ينزل اسمها على الشاشة. ويواصل “سيرجيو” حديثه عنها بينما نراها تتناول القهوة معه في المطبخ. يقول لنا إنها “بروتستانتية” ويسألها عن التعميد فتقول إنها عمدت فعلا، وإن التعميد هو رمز لغسل الخطيئة. تروي قصة تعميدها في النهر ولكننا نرى على الشاشة، من وجهة نظر “سيرجيو”، لقطات له معها في النهر بالحركة البطيئة الناعمة، وهو يحملها بين يديه. إنه استمرار لنفس الهواجس الهروبية، التي يغذي بها نفسه طوال الوقت.

نراه أمام حمام للسباحة في أحد الأندية.. يتأمل الناس.. يعلق على تدهور أجسام الكوبيات وكيف أصبحن ممتلئات. يقول إنه يرى الناس مثل حيوانات عارية تسير على ساقين، وإن ذكاء الإنسان مع عدم سويته بدنيا يرجع إلى أنه ليس سوى “نبتة غير مكتملة للقرد”!

ومن الخيالي- التسجيلي الطابع، إلى التسجيلي، إلى معسكر جوانتنامو من خلال لقطات شاحبة، ضعيفة الإضاءة، تمتليء بالحبيبات، إنها وثائق حقيقية مصورة، لعسكريين وبعض الكوبيين المتعاونين مع الأمريكيين يظهرون من وراء الأسلاك المحيطة بهذا المعسكر الأمريكي القائم على الأراضي الكوبية؛ ويقول لنا التعليق الصوتي إنه “تحول إلى وكر للجواسيس بعد الثورة”، وأصبح ملجأ لكوادر الثورة المضادة، الذين يختبؤون هناك”.

ومن هنا إلى فصل بعنوان “إلينا” Elana. اللقاء الأول له معها يكون في الشارع.. هي تنتظر وهو يبحث عن فريسة له من النساء كالعادة. يتوقف أمامها، يتطلع إلى وجهها، نرى عينيها في لقطة قريبة، لكنه يقول لها: ركبتاك جميلتان. يصعد سلما، يتطلع إليها من أعلى، نراها وهي تنظر إلى ركبتيها وتبتسم. يعرض عليها تناول الغذاء معه. تقول إنه مجنون. يتطور المشهد، يعرف أنها تنتظر رجلا عرض عليها دورا في أحد الأفلام. إنها لاتزال في عمر الزهور، في السابعة عشرة من عمرها. توافق على الذهاب معه إلى المطعم بعد أن يقول لها إن لديه صديقا، مخرجا سينمائيا يمكنه مساعدتها.. يتصور نفسه على الشاطئ معها..

يقدمها لصديقه المخرج السينمائي الذي ينشغل مع زملائه في مشاهدة لقطات إباحية، يقول لـ “سيرجيو” إنها لقطات حذفتها الرقابة من أفلام صورت في عهد “باتيستا”، وإنه يعتزم استخدامها في فيلم عن التدهور الاجتماعي في ذلك العهد.

علاقته مع “إلينا” تتطور، تصعد معه إلى مسكنه في أعلى البناية المطلة على البحر. يعطيها بعضا من ملابس زوجته. “إلينا” تنتمي للطبقة صاحبة المصلحة في الثورة، أي أنها نموذج لـ”التخلف” كما يرى “سيرجيو”، لكنها مثيرة وشابة، ودونما وعي منه، يحاول أن يغيرها، إلى نموذج مشابه لنموذج زوجته التي يرفضها.

 يريدها أن ترتدي ملابسها، وأن تتصرف مثلها. إنه ذلك “الفكر” المتأصل داخله، الذي يرفض التعامل سوى مع نموذج المرأة من طبقته بسلوكياتها ومفاهيمها رغم احتجاجه المعلن على هذا النموذج أيضا، وتمرده على نمط حياته: هنا سر أزمته، أي أنه لا يعرف ماذا يريد.. ولذا يظل على الهامش طيلة الوقت، عاجزا عن اختراق المجتمع أو الاتصال مع الآخرين..إنهم جميعا في نظره يجسدون “التخلف”.

“إلينا” نموذج يلخص تلك الحالة الجديدة المستعصية على فهمه.. هي “ابنة الشعب”، ولكن بدلا من محاولة النفاذ إليها وفهمها، يحاول “سيرجيو” تغييرها وشدها إلى عالمه، وفي زيارة إلى المنزل الذي كان يقيم فيه الكاتب الأمريكي “إرنست هيمنجواي” في هافانا ثم تحول إلى متحف، تتجسد الهوة بين الشخصيتين؛ وتفشل علاقة الاحتواء المفترضة، تبحث عنه إلينا لكنه يتهرب منها.

وتكاد مغامرته النزقة مع “إلينا” تؤدي إلى هلاكه، فأهلها يتهمونه باغتصابها، ويقولون إنها كانت عذراء عندما أغواها، ويصل الأمر إلى القضاء، لكن القضية تنتهي بتبرئة “سيرجيو” الذي يعود لكي يستعيد لحظات علاقته الحميميّة معها، وحيدا كما كان دائما.

ليست هناك “نهاية” بالمفهوم التقليدي الشائع في السينما، فالفيلم لا ينتهي، بل يمتد، وتمتد معه أزمة “سيرجيو” وتتعمق أكثر، فالأوضاع من حوله متغيرة، بل وملتهبة. عبر المذياع يأتينا صوت الرئيس الأمريكي “جون كنيدي” وهو يحذر ويهدد بضربة نووية إذا اقتضى الأمر ضد قواعد الصواريخ السوفيتية في كوبا. ثم ومن خلال الصوت والصورة، في لقطة وثائقية نرى “كاسترو” وهو يلقي كلمة يرفض فيها بشدة الخضوع للتهديد.

في هافانا، في ليلة عاصفة، يحبس الجميع أنفاسهم.. ويتأهب الرجال في الدفاع المدني لما قد يحدث، وينتهي أحد أعظم الأفلام في تاريخ السينما.

تكمن عظمة هذا الفيلم تحديدا في تكثيفه من خلال ذلك البناء المركب، لتلك الحالة الفكرية، أي حالة العجز والتشتت والضياع التي يعاني منها مثقف بورجوازي تمر بلده بلحظة تغيير جوهري، في حين أنه لا يستطيع أن يشارك، كونه يعتبر نفسه “فوق الواقع”، ولا يستطيع أيضا أن يعارض، كونه يحتقر ذلك النموذج الآخر للانتهازي المنبهر بالنموذج الأمريكي، وهو نموذج سرعان ما سيصبح “خارج الواقع”.

يسخر “سيرجيو” من نموذج زميل قديم له هو “آندي” الذي يراه فوق المنصة في إحدى المناظرات بين مجموعة من المثقفين اليساريين حول خصوصية الوضع النضالي في أمريكا اللاتينية، وهل التناقضات الطبقية هي التي تحرك النضال حاليا أم التصدي للامبريالية التي تهدد بتدمير شعوب بأسرها كا يحدث في فيتنام مثلا؟ “سيرجيو” يعلق ساخرا بقوله: أنت هنا رجل مهم يآندي.. بينما خارج كوبا أنت لا تساوي شيئا”.

الفيلم لا يدين، بقدر ما يكشف، وهو يكشف الكثير من الأفكار السياسية “المراهقة”، ويجعل شابا أمريكيا متعاطفا مع الثورة، من الحاضرين لتلك المناقشة الفكرية، يوجه حديثه بالإنجليزية لمدير الندوة على المنصة متسائلا بدهشة: كيف تعتبرون أنفسكم ثوريين وتحتكرون المناقشة على المنصة وتعزلون أنفسكم تماما عن جمهور الندوة من الحاضرين الذين يفترض أنهم رفاقكم في الثورة!

ما يميز هذا الفيلم ويجعل بناءه شديد الثراء والجمال في آن، ذلك الانتقال المستمر، بين الماضي والحاضر، بين الذكريات والواقع، بين الخيال والحقيقة، وبين الذاتي والموضوعي، وبين التسجيلي والروائي والتعليمي الذي يزود المتفرج بالمعلومات والصور واللقطات المثيرة للتأمل والصادمة أحيانا، وذلك الأرق الشخصي الدائم الذي يدفع بطلنا إلى التقليب في الواقع، ويكشف بالتالي لنا كمتفرجين، دون قصد منه، الكثير من الجوانب التي تجعلنا أكثر دراية بكوبا الجديدة، التي من المؤكد أنها أكبر كثيرا من مجرد السيجار الهافاني الشهير!


إعلان