أربعة مخرجين فلسطينيين ينشدون التنويع

حين طلبت محطة الجزيرة للأطفال من المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي إنجاز فيلم من اختياره يدور حول موضوع الأطفال بصورة عامّة، اختار النزول إلى الشوارع البغدادية وتصوير فيلم أسماه بـ “أجنحة صغيرة” يرصد فيه حياة عدد من الأولاد الذين يعيشون ظروفاً مريرة في بحثهم عن حياة أفضل قد لا يحققونها. وهو اختار هذا الجانب من الموضوع لبضعة أسباب من بينها، وكما قال: وجود تقارب بين أطفال بغداد وأطفال غزّة… تقارب في الواقع والمصير..

من فيلم رشيد مشهراوي  “أجنحة صغيرة”

لكن الاختيار يبدو، للناقد، مرتبط بأسلوب المخرج الفلسطيني الذي أنجز حتى الآن أكثر من عشرة أفلام تتابعت على مسار واحد حثيث. إنه أسلوب واقعي على الطريقة الإيطالية من دون أن يمشي بالضرورة على وقعها. همّه في أفلامه، من “حتى إشعار آخر”  (1994) و”حيفا” (1996) ووصولاً إلى فيلمه الروائي الطويل الأخير إلى الآن “عيد ميلاد ليلى” معايشة شخصياته في حس تتابعي سليم غير مستعجل يلتقط فيه واقع كل يوم. هذا معكوس بجدارة في فيلمه القصير المذكور الذي كان واحداً من بضعة أفلام أنجزتها المحطّة من إخراج سينمائيين مشهود لهم من بينهم أيضاً الفلسطيني ايزادور مسلّم والمصري أسامة فوزي والتونسي نوري بوزيد والسوري محمد ملص..
رشيد مشهراوي يشكّل، إلى جانب ثلاثة مخرجين فلسطينيين آخرين،  رباعياً هو الأكثر شهرة بين المتواجدين من السينمائيين الفلسطينيين في ساحة الفيلم الروائي. هناك هاني أبو أسعد وميشيل خليفي وايليا سليمان. والمثير للملاحظة ليس أن لكل طريقته في التعبير، فهذا بديهي، إنما أسلوبه البصري المختلف. أقرب هذه الأساليب لما تقدّم هو ذاك الذي مارسه هاني أبو أسعد في فيلميه “عرس رنا” و”الجنة الآن”: إنه أيضاً أسلوب واقعي، لكنه لا ينشد الغوص في مفردات هذه الواقعية بل يسعى لتأليف فيلم بمفردات كلاسيكية غير محلّية يعمد فيه إلى التأكيد على دوريْ الكتابة والمونتاج تاركاً الكاميرا الالتزام بالمكان من دون أن تستدعي المقارنات الواقعية بالضرورة.

بالنسبة لميشيل خليفي، فإن أفلامه شهدت اختلافاً بين بداياتها وما بعد.. ففي سنة  1980 حينما أنجز أول أفلامه “الأرض الخصبة” عمد إلى أسلوب الفيلم التسجيلي لينقل حياة الفلسطينيين الواقعية قبل أن تغيب عن الذاكرة بدورها. هذا الأسلوب كرره في فيلم “عرس في الجليل” ولو أن الفيلم في واقعه روائياً. لكنه في أعماله اللاحقة، أخذ يميل إلى السينما الأوروبية  وطرق تعابيرها اللغوية.  فيلمه الأخير “زنديق” هو أكثر أفلامه تحرراً من سطوة الفيلم الوثائقي ودخولاً في صرح سينما الموجة الفرنسية الجديدة مستخدماً في ذلك قواعد سينما المؤلّف وبصريات العمل الباحث عن الذات في ذات الشخص الذي يقود الأحداث.

من فيلم “زنديق”

فيلمه الأخير “زنديق«” يمكن اعتباره منحى جديداً عن أفلامه السابقة التي  دعت إلى تقديس التراب والتراث والتاريخ. لكنه ليس منحى متغرّباً عن للمستجدّات التي وقعت في الساحة الفلسطينية ذاتها خلال السنوات العشر الأخيرة على الأقل، وهي السنوات التي لم يحقق فيها خليفي سوى فيلم واحد. فيلم وثائقي من 270 دقيقة  شارك إخراجه مع (الإسرائيلي) إيال سي?ان تناول فيه وضع الحياة السياسية والمعيشية للفلسطينيين حيال ما كانت تقوم به القوّات الإسرائيلية  من تعسّف على الحواجز وانقضاض على الأملاك والأراضي العربية قبيل  إنجاز الجدار القائم حالياً
رحلة ليلية لمخرج (يمثّل خليفي ويقوم به محمد بكري)  تقوم مقام الترميز إلى حالة البطل الوجدانية جيّداً. خليفي  يضع في إطار زمني محدد (ليلة) بضع محطّات لتاريخ بكامله ويرمي لاستخدام المكان (الناصرة ذات الغالبية المسيحية) لتصوير ما حل به من تراكمات أزمة الوجود داخل الوطن. المدينة الآن مكان غير آمن يرتع فيه اللصوص والعصابات. الإسرائيليون سرقوا الماء من نبع “مريم العذراء” حتى نشف (وباعوه في قناني) جنودهم مرحّبون بهم في داخل المدينة أكثر من “ميم” نفسه والمجتمع الفلسطيني عاد الى التركة الطبقية: قلّة تحفل حياتها بالترف، وغالبية بالعوز “ميم” مرتبط بالأولى ومنتم -فجأة وهو يبحث عن مأوى ويتعامل لاحقاً مع عصابة خطف أطفال- للطبقة التحتية..

ميشيل خليفي ومحد بكري

أما المخرج إيليا سليمان، فهو انطلق أيضاً من السينما التسجيلية (عبر فيلم بعنوان “مدخل لنهاية حوار” سنة 1990 (بعد عشر سنوات من بداية ميشيل خليفي) وحين انتقل إلى العمل الروائي سنة  1996، بعد فيلم وثائقي آخر هو “حرب الخليج… ماذا بعد؟” حافظ على العين الراصدة التي تشكّل عماد السينما التسجيلية، لكنه أضاف إليها عامل القصّة والشخصيات التي تمثّل ما تحكيه. الفيلم كان “مفكرة الاختفاء”. مرّة أخرى ترك المسافة بينه وبين الحدث الماثل بعيدة كون الكاميرا هي هو مراقباً. هذا الخط حافظ عليه في فيلميه المعروفين “يد إلهية”  سنة  2002 ثم في فيلمه الأخير “الزمن المتبقّي” في العام الماضي. إنه ليس أسلوباً واقعياً ولا ينضوي تحت شروط السينما التسجيلية رغم قربه، لكنه ينتمي إلى الرؤية الذاتية بصورة بالغة النقاء وخلال هذه الرؤية يبث طاقته الساخرة على غرار يذكّر بسينما الفرنسي جاك تاتي أكثر من سواه ..

إنه تنوّع ثري لأربعة مخرجين لديهم أكثر من مجرد الحديث عما يحدث للوطن الفلسطيني من معاناة على كل صعيد. وهذا الثراء يمتد ليشمل، ربما في بحث آخر، المواضيع المختلفة التي من خلالها يتناول كل منهم الحال الشامل للوطن بنظرة تتوخّى أبعد من مجرّد النقد. تتوخّى الطريقة المثلى لتفعيله وتقريبه والإسهام بقيام الدولة الفلسطينية المستقلّة فعلاً…


إعلان