“برناردو برتولوتشي”:البحث الشاقّ عن جوهر السينما

يعتبر المخرج السينمائي الإيطالي “برناردو برتولوتشي” أحد أعلام السينما ال��المية، ليس فقط كونه قدّم أعمالا “إيطالية” جديرة بالتوقف طويلا أمامها واستنباط الدلالات العديدة الكامنة في طياتها، بل ولأنه أيضا أخرج أفلاما غير إيطالية موّجهة للجمهور العريض في العالم (مثل “الإمبراطور الأخير”)، كما أنه صوّر عددا من أفلامه خارج نطاق بلاده بل وخارج النطاق الأوروبي رغم أنه يمكن القول إن “برتولوتشي” يعدّ دون شك، أحد أكثر السينمائيين انتماء للثقافة الأوروبية، وتعبيرا عن الفكر السياسي الأوروبي.

من أهم وأفضل ما صدر من كتب عن “برتولوتشي” وأفلامه كتاب الباحث البريطاني/ روبرت فيليب كولكر الموسوم بـ “برناردو برتولوتشي”، وهو ليس كتابا في السيرة الشخصية للفنان كما قد يبدو من عنوانه أي ليس من كتب ما يعرف في الغرب بالـ”بيوغرافي”، بل هو كتاب في النقد السينمائي بمعناه الشامل والعميق، ففيه يُبحر المؤلف ويتعمّق في فهم أفلام برتولوتشي والبحث في علاقة الفنان بالعالم، وبثقافته الخاصّة وتكوينه الفكري وموقفه السياسي، وكيف تطورت رؤيته.

في الجماليّات
ولا يكتفي المؤلف هنا بتناول أفلام “برتولوتشي” والبحث في مغزاها وفحواها،  كما هي مرتبة ترتيبا زمنيا، بل هو أساسا، كتاب في جماليات سينما “برتولوتشي”، بالمعنى الشمولي لكلمة “جماليات”، فهو يسعى الى دراسة تطور الأسلوب السينمائي عند “برتولوتشي”، ومناقشة أفكاره ومضمون أعماله في علاقتها بالتاريخ والسياسة والمجتمع والجنس والعائلة والميلودراما والتحليل النفسي، كما يسعى لفهم المؤثرات المختلفة التي أسهمت في تكوين الرؤية الفنيّة عند “برتولوتشي” مثل: فنّ الأوبرا، والفن التشكيلي.

يعتبر “برتولوتشي” نموذجا للفنان السينمائي الذي يسيطر على أفلامه بشكل كامل، من بدايتها إلى حين الانتهاء منها وعرضها، أي من مرحلة الفكرة والسيناريو إلى الاخراج والمونتاج وتركيب الصوت والموسيقى؛ ويرجع الفيلم هنا بالتالي إلى صاحبه أيّ إلى مبدعه الفردي أيّ إلى “برتولوتشي”، ويعرّ عن رؤيته وهو ما يطلق عليه في أدبيات النقد السينمائي في العالم “المخرج- المؤلف” ولكن ليس المقصود بـ”المؤلف” هنا أنه يجب أن يكون المخرج هو نفسه مؤلف الفيلم أي كاتبه بالضرورة، بل صاحب الرؤية الفكرية والسينمائية فيه حتى لو كتب له السيناريو كاتب آخر.

سينما المؤلف
كانت نظرية “سينما المؤلف” قد ظهرت مع مولد حركة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين، مع ظهور جيل جديد من السينمائيين (جودار، رينيه، تريفو، ريفيت، فاردا..)، معظمهم من نقاد السينما الذين تحولوا إلى الإخراج، مسلحين بأدوات نظرية عميقة في فهم السينما الأمريكية بوجه خاص، وكانوا هم الذين أطلقوا هذا الوصف (المخرج- المؤلف) على مخرجين من أمثال “هيتشكوك”، و”كازان”، و”نيكولاس راي”.. وغيرهم، دلالة على وجود “بصمة” خاصة تطبع كل أعمال هؤلاء وتميّزها عن غيرها، بل وتعبّر عن رؤيتهم للعالم من فيلم إلى آخر.

نظرية “سينما المؤلف” لعبت دورا كبيرا في تفسير الكثير من الأعمال السينمائية البارزة التي لم يكن الكثيرون يلتفتون أصلا إلى أهميتها أو يتناولونها بجديّة كافية، ومنها مثلا أفلام “هيتشكوك” التي كانت تعتبر أعمالا مثيرة فقط ولا تحتوي في داخلها على رؤية خاصة، فلسفية أو إنسانية مميزة لنظرة صاحبها ومبدعها.

أما “فيليب كولكر” فيرى في كتابه عن “برتولوتشي” أن هذه النظرية فقدت اليوم بريقها وأهميتها بل وأن الزمن قد تجاوزها بعد أن أصبحت غير كافية وحدها، للإحاطة بعالم “فنان السينما الذاتية”، أي تلك السينما التي تعبر عن رؤية شخصية لصانعها وليست السينما التي تُصنع طبقا لدراسات الجدوى أو اعتبارات السوق وحدها.

يرى “كولكر” أن من الخطأ تناول أفلام مخرج سينمائي مثل “برتولوتشي” استنادا على محاولة فهم أبعاد مواقفه الشخصية وانتماءاته السياسية أو من خلال فحص السيرة الذاتية له، ويرى أن من الأصوب التوصل إلى فهم أدق للسينمائي “برتولوتشي” في علاقته بالمجتمع، أن نبحث في جماليات أفلامه نفسها، و”كولكر” يعتمد هنا على مقولة المفكر الفرنسي / ميشيل فوكو “المؤلف ليس سوى “أداة” لخدمة عمله، عوضا عن أن يكون هدفا في حد ذاته”.

ضدّ “جودار”

في الفصل الأول بعنوان “ضدّ جودار” يبحث المؤلف في العلاقة بين “برتولوتشي” والسينمائي الفرنسي الكبير “جان لوك جودار”، أحد روّاد الموجة الجديدة؛ وقد ترك “جودار” بأفلامه تأثيرا كبيرا على الكثير من المخرجين الأوروبيين الذين برزوا في الستينيات من القرن العشرين من “بازوليني” إلى” فاسبندر”، و”لوي بونوزيل”، و”بريسون”، وكان “برتولوتشي” أكثر تلاميذ “جودار” إخلاصا، ويمكن النظر إلى العلاقة الفكرية والسينمائية بينهما على أنها نموذج لعلاقة “الحب- الكراهية”.

كان “برتولوتشي” يعبّر، في بداية مسيرته السينمائية، عن إعجابه الكبير بـ “جودار”، رجل النظرية الجريئ والمجدد الملهم فيما يتعلق بدور الكاميرا، وعلاقة الصورة بالعالم؛ وقد نشر “برتولوتشي” كما يشير “كولكر” في كتابه القيّم، مقالا شهيرا في يناير 1967 في مجلة “كراسات السينما” (كاييه دي سينما) يعكس غيرة شديدة من جرأة “جودار” وقدراته السينمائية الفذة وأساسا يعبر عن الإعجاب الشديد، الممزوج ببعض الدهشة والحسد، وفي الكتاب نصّ مقال “برتولوتشي” ومناقشة لكل ما ورد فيه.

ويقول “كولكر” إن تأثر “بوتولوتشي” بالسينمائي الإيطالي الأشهر أي “بيير باولو بارزوليني”، الذي عمل “برتولوتشي” مساعدا له في فيلمه الأول “أكاتوني” (1962) قد ظهر بوضوح في أول أفلام “برتولوتشي”، إلا أن تأثره بسينما “جودار” برز فيما بعد، في معظم أفلامه التالية؛ فقد بدا أن “برتولوتشي” أكثر اهتماما بالتعبير الذاتي واستخدام الانتقالات السريعة، ومحاولة تحطيم عنصري الزمان والمكان بل وكافة القواعد التقليدية السينمائية مثل استخدام لقطات غير منضبطة معا بطريقة مقصودة للإيحاء بتأثير معين، وضرب عرض الحائط بما يسمى بالسلاسة في النقلات عبر المونتاج، وغير ذلك.

ويرى “كولكر” أن تأثر “برتولوتشي” بـ “جودار” وغيرته منه في الوقت نفسه، تتبدى في استخدامه أساليب “جودار” بطريقة تتعارض مع مفاهيم “جودار” في استخدامها، رغبة في التأكيد على إمكانية تجاوزها.

يتوقف الكاتب طويلا أمام فيلم “قبل الثورة” لـ / برتولوتشي  ويعتبره الفيلم الأول له رغم أن ترتيبه هو الثامن في قائمة أفلامه، فهو يرى أن في هذا الفيلم تحديدا تتضح المكونات الفكرية لـ / برتولوتشي من خلال محاولة المزاوجة بين الماركسية والفرويدية، وهي الفكرة التي تبرز أكثر في عدد من أفلامه التالية.

إنها ببساطة فكرة البحث عن الهوية السياسية والإستناد إلى موقف اجتماعي، بما لا يتعارض مغ فكرة البحث عن سعادة الفرد في إطار تحقيق السعادة للمجموع، أي للآخرين.

وقد ظل “برتولوتشي” مشغولا لفترة طويلة بهذه الفكرة التي تكشف عن نوع من الحيرة الفلسفية، والشعور بالإغتراب إزاء النظرية الأيديولوجية والمذهبية السياسية بطروحاتها المعقدة التي ظهرت كحلّ للمجتمع في إيطاليا فيما بعد الحرب العالمية الثانية.

عناصر الأسلوب
وينعكس هذا البحث الشاقّ على الأسلوب السينمائي حينما يصبح الأسلوب حقيقة أخلاقية وحقيقة سياسية في الوقت نفسه، وخاصة أن “برتولوتشي” لا يفصل أبدا بين البعدين أو الحقيقتين، رغم وعيه بأن الشكل سياسي بالضرورة، وأيديولوجي بحكم طبيعته.

في إطار تناوله لعناصر الأسلوب عند “برتولوتشي” يذكر الباحث أنها اتضحت مبكرا في فيلم “قبل الثورة” الذي يكشف حيرة شابّ مؤمن تماما بأيديولوجية الحزب الشيوعي لكنه يتشكك في جدواها، ويشكو من افتقاد البروليتاريا للوعي، ويعبّر عن رغبته في رؤية ذلك الإنسان الجديد “المناضل” بعد أن أصبح العمال يتعاطون أفكارا “بورجوازية”!

أما أسلوبية “برتولوتشي” فد أصبحت أكثر وضوحا وتجذرا في أفلامه التالية مثل “المتماثل” و”التانجو الأخير في باريس” وهما الفيلمان اللذان أوصلاه إلى تجاوز الإطار الإيطالي والأوروبي إلى “العالميّة”.

يناقض المؤلف فكرة العالمية وعلاقة “برتولوتشي” بالاحتكارات السينمائية الأمريكية وكيف بدأت ثم انتهت، في فصل خاصّ ممتع يرى فيه مثلا أن فيلم “1900” (1976) الذي أخرجه “برتولوتشي” لحساب شركة بارامونت الأمريكية، رغم احتوائه على كافة عناصر “برتولوتشي” الجمالية إلا أنها وظفت لخدمة أهداف أخرى تختلف تماما مع ما كان في أفلامه السابقة، أي خدمة لنظرية التبسيط في السينما الأمريكية التي تقسم العالم إلى أخيار وأشرار، وما بينهما، ولا تتحذ موقفا واضحا في النهاية.
ويرى “كولكر” أن “برتولوتشي” في فيلم “التانجو الأخير في باريس” يقترب كثيرا من روح وطابع الأوبرا، ليس فقط بسبب استخدام موسيقى باربيري التي تسهم في إضفاء خط عاطفي شجي إلى الخط الروائي، بل بسبب أن الخط الروائي نفسه يوظف في الكثير من المشاهد في خدمة الموسيقى ودفعها إلى الأمام، تماما كما في الأوبرا، ويقول إن الفيلم يمتليء أيضا بالكثير من المشاهد التي تشبه الألحان الثنائية في الأوبرا.

وفي فيلم “تراجيديا رجل سخيف” (1983) يتناول “برتولوتشي” موضوع الإرهاب من وجهة نظر الأب وهو صاحب مصنع للجبن والسجق يختطف الإرهابيون اليساريون (أعضاء منظمة الألوية الحمراء) إبنه، لكننا نكتشف أن الإبن نفسه متواطئ معهم كجزء من خطة مدبرة لإذلال الأب وابتزازه؛ هنا كما يقول “كولكر”، يبدو الإبن مصرّا على الانتقام من أبيه على طريقة “الإخصاء الفرويدي”، ولا يقدم الفيلم أي تفاصيل تتعلق بعلاقة الإبن بالأب؛ لكن الابن يقتل والده سياسيا واقتصاديا عن طريق استغلال نقطة ضعفه، ويقول “كولكر” إن هذا الحدث الذي يصبح فيه المتطرفون هم راسمو سيناريو مصير الأب، يعتبر بمثابة استخدام عكسي للأسطورة التي وضعها فرويد في كتابه “الطوطم والتابو”.

والإبحار في عالم “برتولوتشي” لا ينتهي بالطبع، وقد تكون لنا عودة أخرى إلى عالمه للتوقف أمام بعض المحطات البارزة في مسيرته السينمائية.


إعلان