محمد علي ..الباشا الصعلوك

هل كل صعلوك يحلم بالمجد فيأتيه سعيا؟ وهو كل إمبراطور لابد له من كأس الدماء يشربه بعد أن يجري نهرا من شرايين منافسيه وأحيانا معاونيه؟ وهل درس التاريخ يمكن أن نتعلمه ونحن نحتسي القهوة ونشاهد الأفلام حتى لو تحلت بمنتهى الوثائقية ؟  ..أسئلة عديدة أثارها عرض الجزيرة الوثائقية لفيلمها المتميز “محمد علي”، ويكتسب الفيلم أهميته من عدة جوانب، فهو أولا بهي الطلعة، حلو الصنعة، متقن الإنتاج، غزير المعلومات، لم يدخر القائمون على عمله جهدا في الاهتمام بأدق التفاصيل، من الأزياء إلى الأجواء، وأحسن مخرجه التصرف في تطويع مشاهد الدراما لتثري السرد والتوثيق، ولم يقع في المطب المعاكس حيث الكثيرون يأخذهم إغواء الدراما لتنسيهم سلاسة العرض واتصال الموضوع ووضوح الفكرة، فجاءت الدراما خادمة ومضيفة وموظفة للفكرة التوثيقية، وإن رأى البعض أيضا انه أنهك نفسه وحملها ما لا يطيق في سعيه للجودة والتأثير الدرامي بمشاهد ليس مطلوبا أن ينوء بها كاهل الموثق المخرج مثل عناء إخراج مشهد مذبحة القلعة وهو أمر يتحاشاه حتى مخرجو الروائيات، ولم يقتصر الأمر في خلق الأجواء والإيحاء على “الدوكودراما” بل أيضا اختار صانعو الفيلم التصوير في كثير من أماكن الأحداث الحقيقية مثل تركيا واليونان وسوريا وطبعا مصر، وصناعة جو خاص بالخلفيات والإضاءة وزوايا التصوير للمقابلات انسجمت مع الدراما وجعلت الفيلم بجزأيه وحدة متناغمة مع الأجواء الطبيعية التي تعود بنا قرنين من الزمان،حيث صعود محمد علي باشا المملوك الصعلوك تاجر الدخان، لعرش مصر وتأسيسه لإمبراطورية تظل مضرب الأمثال عند كثيرين إلى الآن في قوتها واعتمادها على رؤية واسعة جعلت لمصر شأنا ومكانة، ولمحمد علي نفسه رمزا و مجدا وعائلة وسؤددا، وهو ما استدعى أن تنتفض كل القوى الدولية الكبرى في وقتها، روسيا وبريطانيا وفرنسا وحتى الولايات المتحدة مع الدولة العثمانية، ليعملوا بكل قوتهم ومؤامراتهم لمواجهة هذا الباشا الجامح ذو الحجة والقوة والطموح.
ثانيا يأتي عرض الفيلم ليتزامن مع ذكرى مرور مائتي عام على مذبحة القلعة التي دبرها محمد علي للتخلص من المماليك بمشاركة نائبه لاظوغلي باشا عام  1811 ميلادية، في أشهر مذابح الصراع على السلطة في التاريخ العربي الحديث وربما تاريخ العالم، ومن محاسن الصدف التاريخية تزامن الفيلم أيضا مع الثورة التونسية ومن بعدها  المصرية في القرن الواحد والعشرين التي أزاحت إمبراطورية لاظوغلي الجديدة ( حيث المقر الرهيب  لمباحث أمن الدولة في ميدان لاظوغلي بوسط القاهرة) لتعيد تأسيس الدولة المصرية بعيدا عن رمزية الأمن والمذبحة والحكم البوليسي والجموح الإمبراطوري للحاكم سواء كان واليا  أو ملكا أو رئيسا، يتماس الفيلم مع الواقع إذن رغم وقائعه ذات القرنين عمرا، ويبث في أوصال المجريات مقويات تاريخية من صفحات قديمة يستعيرها ويقدمها لنا في ثوب معاصر، لنتعلم  كيف تنهض الأمم وتحلم بمجدها وتحققه مع حاكم قوي وعلم عصري وسعي جدي، لكنه أيضا لا يخلو من تآمر دولي وضغط امبريالي، وضعف داخلي .
وهنا نتوقف مع الأسئلة التي يثيرها كل فيلم وثائقي يتناول ظرف التاريخ وسيرته، أو يرصد شخوصه ويقدم عبرته، فلم يكن “محمد علي” أول فيلم تاريخي تقدمه شاشة الجزيرة الوثائقية وتنتجه، ولن يكون الأخير بالطبع، فقد سبقته أفلام عديدة عن شخصيات مهمة عبر التاريخ، منها على سبيل المثال لا الحصر، البطل أحمد عبد العزيز، سعد زغلول، فرحات حشاد، البابا شنودة، وأيضا سلسلة بصمات التي قدمت للناس العديد من الشخصيات ذات الأثر في تاريخ العرب وحاضرهم في البلاد المختلفة، وغير ذلك الكثير يعرض على الشاشة.
 ومع اختلاف موضوع الفيلم وبلده وطبيعة الشخصيات التي يتناولها بالرصد والتحليل، إلا أن سؤال التاريخ ودرسه وعبرته يظل مطروحا، فربما اجتهد صانعو الفيلم، أيا ما كان وكانوا، في توثيق المعلومات التي يتم سردها، وبذل مجهود في تحقيق صحتها واستضافة من يقوّم دقتها، وهكذا دواليك، لكن بالنسبة للمشاهد يظل الدرس ناقصا والتاريخ مجردا، فالمسألة التاريخية سواء تعلقت  بشخص أو حادثة أو قضية أو مكان…الخ، ليست مجرد وقائع تتلى وأحداث تحكى، ومعلومات تسرد، لكن التاريخ وفقا لما ورد في المعجم الوجيز على سبيل المثال هو”التاريخ اصطلاحا : جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، على الفرد أو المجتمع، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية” .
 وعرّف ابن خلدون التاريخ بما يلي:” إنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال: مثل التوجس، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول، ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش، والعلم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعة الأحوال ”
ولسنا هنا في وارد رصد تعريفات علمية للتاريخ وعملية التوثيق والتأريخ، ولا يسعنا المجال لذلك، لكن فقط نشير إلى أنّ جميع التعريفات الراسخة التي تناولت التاريخ والوقائع والشخصيات التاريخية، لم تغفل

الدوكيدراما حاضرة في الفيلم

أبدا أن الرصد التاريخي هو سياق مجتمعي كامل متفاعل وليس مجرد وقائع متسلسلة ومتراتبة زمنيا، وبالتالي التوثيق هنا بالمعنى التاريخي الواسع لا يتم دون رصد السياقات التي جرت فيها الأحداث وتوضيحها، فالأحداث ومجرياتها دون سياقها الاجتماعي يظل فهمها قاصرا وعبرتها مجتزأة .
ومن ناحية الصناعة الفيلميّة الوثائقية نجد أن فيلما مهمّا مثل “محمد علي” قد استعان في أغلب مقابلاته ومعلوماته بالمشتغلين في صنعة التاريخ تأليفا ورواية وتحليلا، في حين كان ينقصه بشده أهل الاجتماع وهو السياق الواسع الذي تجري فيه أحداث التاريخ، وبدون رصد هذه السياقات الاجتماعية من حيث الأعراف السائدة وطبيعة العلاقات البينية وبنية المجتمع وطوائفه وقياداته ومعتقده وطرائقه الشعبية وغيرها، فإن تفسير الحوادث التي جرت ورصدها الفيلم تظل أسيرة فهمنا المعاصر لها، وبالتأكيد هو فهم مغاير عمّا كان يجري وقتها، حتى القرارات السياسية لا نستطيع فهمها دون معرفة سياقاتها الاجتماعية .
هذا التحدي الذي يواجه صانع  العمل الوثائقي يتطلب منه نظرة أكثر شمولا لموضوع قضيته، فهو عليه أن يختار ما يصوره وما يعرضه، ومن المستحيل أن يكون الفيلم الوثائقي هو سلسلة رصد لكل ما يجري، بل إن موضوعا ضخما مثل “محمد علي”  لا يمكن لفيلم  أن يستوعبه في ساعتين تلفزيونيتين ولا حتى معظم جوانبه، وقد تحلى صانعوا الفيلم فعلا بذكاء مهني، عندما ركزوا في تناولهم على نقاط مفصلية في حياة محمد علي مثل قدومه صعلوكا مملوكا لمصر، وصعوده إلى ولاية عرش مصر، ثم تكوين الجيش الذي بنى من خلاله دولة حديثة ومشروعا إمبراطوريا تم إجهاضه بتآمر دولي واسع. ورغم هذا ضاعت منا تفاصيل الحياة الاجتماعية التي تمثل سياق الأحداث وخيوط غزلها، لأن البريق السياسي كان أخلب للأبصار مما أضعف الحالة التوثيقية وقلل من عبرة التاريخ التي يمكن أن نتعلمها في هذه الأيام التي تحاول فيها الشعوب العربية أن تبني مجددا حلم دولتها القوية المستقلة .
كان “محمد علي” هو النموذج الذي تناولناه للتوقف عند فكرة التوثيق وضرورة الاهتمام بتناول السياقات الاجتماعية للحدث التاريخي، وهو أيضا سؤال مطروح على كل متصدر لعمل من هذا النوع كيف يختار ويوازن بين الفكرة الرئيسية التي يتناولها والسياق الذي جرت فيه وقائعها، مع ضيق الوقت المتاح للعرض وطبيعة الظروف الإنتاجية، والإجابة على هذا السؤال هي محل اختبار مهارة صانع الوثائقيات ذو النظرة والخبرة، ومحل تقييم الفيلم ذو الجودة والعبرة .


إعلان