ليلة الوفاء بثُلاثية سينمائية إفريقية

ذكرت في مقالين سابقين، نشرتهما في موقع الجزيرة الوثائقية، عن الدورة الأخيرة لمهرجان السينما الإفريقية بـ “خريبكة” بأن من الفقرات المُضيئة فيه هي التي تجمع الجميع في سهرات سينمائية / ثقافية مفتوحة تبدأ بعد منتصف الليل بقليل لتمتد إلى ساعة متأخرة جدا حيث لكل ليلة موضوعها الذي يشكل جزء من الاهتمام الجماعي، وله طبعا علاقة بالسينما الإفريقية ورجالاتها ونسائها؛ تغص القاعة بالمخرجين والممثلين والتقنيين والنقاد والصحفيين وكذا المهتمين بالشأن السينمائي من الجمهور المحلي.
نتوقف في هذا النص عند إحدى تلك الليالي التي يمكن أن نسميها ب”ليلة الوفاء” لأسماء سينمائية صنعت مجد السينما الإفريقية؛ لكن الموت خطفها بعد أن أعطت الكثير لفنون السينما، وهذه الأسماء التي احتفل بها مهرجان السينما الإفريقية بـ “خريبكة” في دورته الأخيرة هي: التونسي الطاهر الشريعة (توفي يوم 4 نوفمبر 2010 عن 83 سنة) و المغربي أحمد البوعناني (توفي يوم 11 فبراير 2011 عن 73 سنة) والغابوني شارل مينسا (توفي يوم 3 يونيو 2011 عن 63 سنة). كلهم غادرونا بعد الدورة الأخيرة التي إلتأمت في صيف السنة الماضية.

نور الدين الصايل: أحمد البوعناني

أدار الجلسة الأستاذ نور الدين الصايل، رئيس مؤسسة المهرجان والمدير العام للمركز السينمائي المغربي، الذي جمعته بهم علاقة صداقة، وأيضا علاقة مهنية وثقافية ومسيرة مشتركة غنية، فتحدث عن المخرج المغربي أحمد البوعناني (كان من المقرر أن يدلي بشهادة في حق الراحل مخرج آخر وهو علي الصافي الذي تخلف عن الحضور بسبب سفر عمل إلى البرازيل.
ونشير إلى أن “علي الصافي” ينجز فيلما وثائقيا حول “أحمد البوعناني” حيث صور معه أيام عديدة وهو الآن بصدد المونتاج، وقد عرض مقتطفات منه في مناسبات التأبين والتكريم لـ “أحمد البوعناني” في عدد من المهرجانات المغربية آخرها بالعاصمة البريطانية لندن).

تحدث الأستاذ/ نور الدين الصايل عن “أحمد البوعناني” السينمائي وأيضا المثقف والشاعر والروائي والمفكر وصاحب المبادرات السينمائية في الزمن الصعب، دون إغفال حلقات النقاش في مقاهي الرباط العاصمة التي كانت تجمع مختلف الحساسيات الثقافية والفنية والسياسية جنبا إلى جنب بكل ديمقراطية في حق الاختلاف والاجتهاد.
كما تطرق إلى بعض الأعمال السينمائية لـ /أحمد البوعناني التي شكلت محطات بارزة في السينما المغربية عند نشأتها، مُركزا خاصة على فيلميْه الشهيرين “الذاكرة 14″ الوثائقي، و”السراب” الروائي، وأنه يجمع بفنية كبيرة بين الإخراج والمونتاج في السينما مثلما يجمع بين الشعر والرواية في الأدب؛ فيضيف الأستاذ/ نور الدين الصايل بأن الراحل “أحمد البوعناني” هو معادلة صعبة في السينما المغربية لكونه منظرا للصورة ولجماليتها وموقعها في الفيلم بحيث كان هَم “أحمد البوعناني” في تساؤله المستمر عن كيفية تزويج لقطتين مختلفتين مع بعضهما بشكل صحيح ومنطقي، فتعكس هذه الرؤية شخصيته المركبة التي عكسها بتفوق كبير في فيلمه الروائي الوحيد الذي أخرجه “السراب” سنة 1980. وكان قد برهن – حسب “نور الدين الصايل” – قيمته كمخرج مؤلف في فيلمه “الذاكرة 14” الذي اعتمد فقط على الأرشيف لبناء فيلمه الوثائقي متفوقا في صياغته التاريخية والفنية معا لتجعل من الفيلم نفسه “وثيقة”.

بلوفو بكوبا كانديا: شارل مينْسا

شارل مينسا

أما المخرج “بلوفو بكوبا كانديا” من الكونغو ( شارك في المهرجان كعضو في لجنة التحكيم) فقد تحدث عن المخرج الغابوني الراحل شارل مينْسا الذي تحمل مسؤولية رئاسة فيدرالية السينمائيين الأفارقة وبالتالي تربطه علاقة مع الجميع حيث هو الذي تجتمع عنده كل مشاكل إفريقيا السينمائية وحتى خارجها وما أكثرها.
بدأ “بلوفا بكويا” بسرد لقاءه الأول مع الراحل شارل مينْسا سنة 1989 بمهرجان “فيسباكو” حيث اكتشف فيه أنه كان متقدما كثيرا عن من سبقوه ومن كانوا من جيله إذ يُعد في نظره بأنه أول سينمائي إفريقي وعى بضرورة التخلي عن الشريط التقليدي بـ35 ملم والمرور إلى الفيديو ثم الرقمي.
كما أشار أيضا إلى شخصيته الهادئة وقدرته على استيعاب التناقضات من حوله والتعامل معها بمرونة؛ وحيى أيضا لما قدمه للسينما في بلده الغابون حين تحمل مسؤولية إدارة مركزها السينمائي.

“أحمد بوغابة”: الطاهر الشريعة

وساهم كاتب هذا النص – أحمد بوغابة – في هذه الليلة بالوفاء لأستاذه الطاهر الشريعة حيث ألقى كلمة مكتوبة جاء فيها:  
لا أحبذ كثيرا الحديث عن الأشخاص الذين أحبهم وأحترمهم بصيغة الماضي حتى ولو حملهم الموت بعيدا عنا ولم يعد بالإمكان اللقاء المباشر معهم؛ فإسمحوا لي أن أذكركم بأننا في مهرجان سينمائي، والمهرجان يعني الفرح والفرجة الجميلة لأفلام جيدة وجميلة ومتنوعة، وما تخلقه من نقاشات.
 وعليه، فـ “الطاهر شريعة” هنا بيننا…نعم..هنا.. من خلال هذا الامتداد السينمائي الإفريقي والأفلام الإفريقية التي لم تتوقف عن الوجود رغم صعوبة الإنتاج في قارتنا؛ ولا أظنه سيقبل بأن نتحدث عن الموت بل عن الحياة التي تعطيها السينما باستمرار، وبالتالي لن أتحدث بدوري عن الموت احتراما له.
وبما أننا نتحدث حاليا والآن عن “الطاهر شريعة” ونستحضره في هذا المهرجان الإفريقي يعني أنه موجود بيننا… ببعده الرمزي وبسيادة أفكاره السينمائية، ومهرجان السينما الإفريقية بـ”خريبكة” من المهرجانات التي عايشها “الطاهر الشريعة” بمعرفته السينمائية وأحبه وسانده وواكبه. 
لا يمكن القول بموت “الطاهر شريعة” ونحن نشاهد أمامنا ما أسسه وناضل من أجله… ليس في بلده تونس فقط بل في القارة الإفريقية التي دافع عن إنتاجها السينمائي وحقها في الوجود كصور وأصوات وحق الإنسان الإفريقي في مشاهدتها.
إن كل فيلم إفريقي يجول في القارة هو بمثابة صورة لـ”طاهر شريعة” في جولاته… واستمرار الإنتاج الإفريقي هو بمثابة استحضار له. وبالتالي، سأتحدث عنه بصيغة الحاضر. 
“الطاهر شريعة” سينمائي إفريقي ومحاميها في وقت كان صعب الدفاع عن هذه الخصوصية أمام قوة الهيمنة السينما الغربية عبر شركات التوزيع؛ لقد  كانت التهمة جاهزة حينها ضد كل من تجرأ على الكلام بصوت عال عن الهيمنة الغربية؛ والتهمة هي الانتماء لليسار والشيوعية، وهو ما تعرض له فعلا “الطاهر شريعة” في بلده تونس تحت هذه التهم الواهية التي كانت لها امتداد من الخارج.
لقد حاربوه بكل ما يملكون من سبل وخدع وتواطؤ ومؤامرات ولكنهم لم ينتصروا، فقد تحداهم بصموده واقفا شامخا نحو تحقيق آرائه؛ وهذا التشبث بما يقتنع به من آراء هو الذي جعلهم في النهاية يعترفون به وله وما قدمه رغم أن ذلك كان في آخر عمره.

الطاهر شريعة

مر إسم “الطاهر الشريعة” أمام عيني مرارا كإسم مسؤول في تونس بالشأن السينمائي خاصة في ما يتعلق بالأندية السينمائية نظرا لما كانت تشكله هذه الجمعية أيضا في المغرب، إلا أن أهم لقاء لي بـ “الطاهر الشريعة”، كان في بداية الثمانينات، من خلال هدية توصلت بها من أحد أصدقائي، تجسدت تلك الهدية في كتاب لـ “طاهر الشريعة” بالفرنسية كان قد صدر له سنة 1978 بعنوان Ecrans d’abondance ou le cinéma de libération en Afrique  

عشت زمنا طويلا في مرحلة من حياتي حيث كان الوقت مُتاحا لي في فضاء الزنزانة المغلق لقراءة الكتب في زمن قياسي، لكن لا يعني ذلك قراءة متسرعة، كان فضاء الزنزانة الضيق جدا يضعني أمام الكتاب وجها لوجه دون رفيق أو أنيس فيصبح بالتالي هو العنصر الوحيد أمامي الذي يُسمح لي بالحديث معه، فكان لي نقاش معمق مع “الطاهر الشريعة” من خلال كتابه ذاك حيث نبشت في تفاصيله فتجاوبت في النهاية مع صاحبه لأنه أجاب عن أسئلة كنت أبحث عنها من بعيد لفهم خريطة التوزيع السينمائي في العالم الثالث.
هكذا تعرفت على “الطاهر شريعة” وأفكاره وأصبح من الأسماء التي وضعتها في لائحتي لكي ألتقي بها في مكان أرحب حتى أستمع إليها، وكان من ضمن برنامج الحرية. تحقق اللقاء… بل لقاءات متعددة سواء هنا في “خريبكة” أو تونس.

جميل أن تلتقي بحرية مع شخص حر في أفكاره وممارساته وله وجهة نظر واضحة في ما يقوله ويسعى إليه دون لف أو دوران أنا الذي كنت في عنفوان أفكاري المثالية الساعية إلى تغيير العالم والكون بجميع الوسائل الممكنة منها الثقافة أيضا.. والسينما بالأخص.
ذاع صيت “الطاهر شريعة” في العالم أكثر بكثير من أسماء بعض المخرجين التونسيين أو الإفريقيين لأنه رافق السينما بالنقد والتنظير والتأطير الإداري، وفسح لها مجال المشاهدة في كل مكان ممكن، سواء كان معها أو ضدها، لأنه يدافع عن حق الفيلم في الحياة بغض النظر عن الإعاقات التي قد تشوبه، وأن للجمهور الحق في الكلمة والحكم عليها حتى لا يبقى ذلك حكرا على النخبة ليتمخض عن ذلك سينما جديدة تراعي مختلف المكونات دون التنازل عن حق المخرج في تشكيل فيلمه بالأسلوب الذي يسعى إليه، بمعنى آخر كان ضد الرقابة، إدارية كانت أو مجتمعية أو ذاتية من لدن المؤلف نفسه.
“الطاهر الشريعة” إفريقيٌ حتى النخاع، إذ لا يتردد في مد يده إلى كل فيلم أنتجته القارة السمراء. كما يستجيب بالحضور إلى كل التظاهرات التي تٌقام حول السينما الإفريقية، ألم يواكب تظاهرة “خريبكة” منذ البداية؟ ودافع عنها إلى جانب الأستاذ نور الدين الصايل بكل ما أوتي من معرفة؟ هاهي الآن قد نضجت وترسخت وبالتأكيد هو سعيد بها وبما حققته.
في كتابه “أيام قرطاج السينمائية؟ … فيها وعليها” الذي صدره سنة 1998، أي 20 سنة بعد كتابEcrans d’abondance، حيث يُعَرِّفُ بنفسه كاتبا في ظهر الغلاف بأن “الطاهر الشريعة” ولد بصيادة في الجمهورية التونسية بإفريقيا الشمالية أو المغرب العربي… لم يستصوب موتا… فلم يمت بعد… وهو الذي لم يكن يحب الحديث عن نفسه بقدر ما يحول النقاش دائما إلى السينما وفي اتجاه الأفلام، ففي نظره هي التي تستحق النقاش وليس غيرها.
بما أن أيام قرطاج السينمائية ارتبطت به كإسم ومؤسس لها إلى حد التماهي بينهما فقد أصدر الكتاب المُشار إليه الذي هو تاريخ نقدي لأيام قرطاج ممزوجا بالسيرة الذاتية للطاهر الشريعة نفسه، وبذلك نتعرف على التظاهرة والطاهر والفواصل التي تجمعهما أو تفرقهما وكأن الكتاب وصية سينمائية مبكرة، ومكتوب ببلاغة جميلة زاوج فيها بين اللغة العربية التقليدية العتيقة كما هي عند إبن خلدون وابن رشد واللغة الحديثة التي تتطلبها السينما كفن جديد، إنه متعة حقيقية، لأن الكتاب يجعلك تتابعه بدون ملل فتسافر في تاريخ السينما التونسية والإفريقية وأيام قرطاج وفي عمق مُخيلة الطاهر الشريعة.
يقوم في هذا الكتاب بتشريح دقيق لتاريخ أيام قرطاج السينمائية بعلاقتها المباشرة مع السلطة الحاكمة في تونس عبر ثلاثة عقود.
 فهو وثيقة لأول تظاهرة سينمائية في إفريقيا التي تحولت مع الزمن لحلبة الصراع المفتوح والخفي.
قوة تحاليله السينمائية للأفلام تكمن في غنى مرجعياته الفكرية: الأدبية والفلسفية وكذا السياسية، ومعرفته بمحيط الإنتاج السينمائي العالمي، فيحلو الإنصات إليه لأن كل حديث معه هو بمثابة درس سينمائي يتجدد في كل مرة.
 
إنه من الصعب حقا أن تصمد أكثر من 8 عقود… بمعنى أكثر من 80 سنة… تقريبا قرن… متشبثا بالمبادئ التي هي مقياس فعله وممارسته وأفكاره دون السقوط في فخ السلطات المتعاقبة. ويرفض التنازل عن الجوهر وبما يؤمن به. أليس رمزا من رموز الصمود والمقاومة في المجال السينمائي في هذه القارة التي تُغتال يوميا بكل أشكال القتل.
وكم سعدت حين وجدت قاعة بهذا الفندق تحمل إسمه والتي يتعلم فيها الشباب أبجديات السينما وتقنياتها ضمن ورشة مُنظمة من المهرجان. معطى آخر إذن يؤكد وجوده بيننا بكل ثقله وأشكر إدارة المهرجان على هذا الإخلاص النادر.

إن ما أشرت إليه في كلمتي هاته هو مجرد تلميح عابر لمسيرة غنية في مضمونها التاريخي والسينمائي للطاهر الشريعة الذي سيبقى رمزا من رموز السينما الإفريقية هنا في “خريبكة” وفي تونس وفي كل قطر من أقطار إفريقيا.


إعلان