سينما المؤلّف: هل هي الخرافة التي صدّقناها؟
كل من “صلاح أبوسيف” و”يوسف شاهين” يستحق هذا الإهتمام بلا ريب، لكن الناقد السينمائي ليس صاحب منشور دعائي.
كل مخرج يجب أن يكون في دائرة معرفته، وكل فيلم (بصرف النظر عن مستواه) يجب أن يُثير اهتمامه، لكن مرّة أخرى نجد أن ما اندفع إليه النقاد في غمار حماسهم للبيّن من الأمور، هو تناقض آخر: كيف يمكن لـ “يوسف شاهين” أن يكون مخرجاً مؤلّفاً من دون جهد كاتبي السيناريو الذين نسجوا له ذلك العالم الذي يؤمن به، أو من دون مدراء تصوير الأفلام الذين منحوه اللون وحققوا له الرؤية؟
وهل يمكن الفصل بين فن “صلاح أبوسيف”، وأنا من أكثر المتحمّسين له، وبين القيمة الأدبية والإجتماعية والفنية الكبيرة للروائي الذي نقل” أبوسيف” عدداً من أعماله إلى الشاشة، وهو “نجيب محفوظ”؟
إيحاءات مستلهمة
“صلاح أبوسيف” يستحق أن يكون حسب المواصفات، فناناً مؤلّفاً، في الوقت نفسه؛ لكن كيف يمكن اعتماده على هذا النحو إذا ما كان عالمه الغزير مؤلّف من كل العناصر الفنية التي تتشارك كلّها في صياغة الفيلم؟
من الكتابة كما ذكرت، إلى التصوير وهندسة الديكور والممثلين المناسبين وفناني التوليف؟
هنا يرد البعض بأنه هنا تأتي إبداعات المخرج (أي مخرج)، من تجميع وتنسيق وتلوين كل تلك الصياغات والإسهامات في فيلم يحمل بصمته، لكن أليس هذا أيضاً دور أي مخرج سواء أكان جماهيرياً صرفاً مثل: “حسن الإمام”، و”محمد سلمان”، أو “سمير الغصيني”، أو “مايكل باي”، أو مخرجاً لديه قدر ممارس من الفن مثل: “نيكولاس راي”، أو “إليا كازان”، أو “فرانشسكو روزي” أو “كلود سوتيه”، أو “هنري هاذاواي”، و”جون فورد”، أو”تشارلي تشابلن”؟
الخلط في المفاهيم يؤدي إلى اعتبار أن “جان- لوك غودار” و”جاك ري?يت”، كونهما آخر من بقي من نقاد الكاييه دو سينما السابقين، هما مؤلّفين بسبب أسلوب كل منهما المختلف؛ لكن الأسلوب لا يحمل قيمة منفصلة قائمة بحد ذاته، إنه الصياغة الفنية الخاصّة التي يضع فيها المخرج مادته، والتي تجعل العمل متميّزاً ببصمته، لكن هذه البصمة، كبصمة اليد تماماً، لا حياة خاصّة لها أو كياناً مستقلاً أو فاعلاً على نحو مستقل.
أسلوب “غودار” في العرض، المؤدي إلى بصمته الدامغة، ليست بحد ذاتها جيّدة أو رديئة، بل الفيلم في أساسه هو الذي قد يكون جيّداً أو قد لا يكون، هناك أفلاماً رديئة حملت أساليباً متعددة، والعكس صحيح؛ في النَفَس ذاته هناك أفلاماً تجارية محضة كانت أفضل مستوى وأفضل قيمة من أفلام “مؤلفين” من شتّى أنحاء العالم بما في ذلك فرنسيين.

في صميم المسألة حقيقة أن التأليف ليس عملاً صافياً قائماً بمنأى عن أي شيء آخر، الحقيقة أن الرسّام إذ يجلس لكي يرسم منظراً طبيعياً يتكوّن من بيت فوق هضبة وأمام البيت حديقة غنّاء وتحته طريق يمر عليه راعي وغنمه، إنما استلهم كل ذلك من عناصر موجودة أمامه (أو تذكّرها).
سيصيغها بألوانه وبمساحاته واختياراته، لكن الخلق لم يأت من نقطة منفردة تماماً، حتى ولو كان رسّاماً تجريبياً، رمزياً، سوريالياً أو منتم إلى ما يُعرف بـ “البوب آرت” فإن الغالب أن إيحاءاته مستلهمة من مصادر عدّة كلها تكوّن النتاج الذي سيوقّعه.
المشكلة بالطبع مضاعفة عدّة مرّات حين يأتي الأمر إلى السينما، هناك تحدّيات لكل ناقد بصرف النظر عما إذا كان مؤيداً لسينما المؤلّف أو غير مؤمن بها؛ مثلاً: كيف يحكم على فيلم “ذهب مع الريح” إذا ما كان الفيلم انتقل من يد مخرج لآخر قبل أن يستقر بين يدي” فيكتور فلمنغ”.
مرّ على “جورج كيوكر” و”وليام كاميرون منديز” وسام وود وسيدني فرانكلين؟ طبعاً لم يقل أحد أن هذا هو فيلم مؤلّف، لكن السؤال يطرح أيضاً (وقد طرح أعلاه) على أفلام مؤلفين.
هل كان “إنغمار برغمن” سيصنع ذات الأفلام لو لم يكن مدير تصويره س?ن نك?ست؟
كل ذلك، ومسائل أخرى تصب في صميم هذا المفهوم الخاطئ والذي يشبه الخرافة Myth
ومن جملتها العبارة التي قالها “تروفو” حول عدم وجود أفلام جيدة أو رديئة بل فقط مخرجين رديئين؛ فالمسألة هي أن المخرج الجيّد يمكن له أن يصنع فيلماً رديئاً (“تروفو” لديه أكثر من واحد) كما أن السينما حافلة بأفلام جيّدة لمخرجين حققوا أفلاماً رديئة عديدة.
أحد هؤلاء “أوتو برمنجر”، الذي هلل له النقاد الفرنسيين طويلاً، كما سواهم بعد ذلك، علماً- وهذا مدعاة غرابة- بأن أفلامه الجيّدة (وهي جيّدة بمعايير متفاوتة وليس على نحو مطلق) هي تلك التي لم تحمل بصمة خاصّة به مثل “لورا” و”تشريح جريمة”.
لكن عدداً كبيراً من النقاد الغربيين استمر في اعتباره مخرجاً- مؤلّفاً حتى حين أنجز “أكزودوس” الذي أراده دعاية إسرائيلية وكان له ما أراد.
الهوامش:ـــــــــــــــــــــــــــ
1. Saqqa Mat.jpg السقا مات: إخراج صلاح أبوسيف
2. Godard & Truffaut.jpg صديقا الأمس: غودار وتروفو