أفلام وسينما المخرج راوول رويز 2/2
من شاهد “جزيرة الكنز” نسخة راول رويز من كلاسيكية روبرت لويس ستيفنسون (لست واحداً منهم) انقسم حيال الفيلم خصوصاً إذا ما كانوا قرؤوا الرواية الأصلية وحاولوا البحث عنها في فيلم رويز. المستنتج من الكتابات أن رويز، الذي أسند الدور الأول لملفيل بوبو- ممثل الكثير من أفلامه بعد ذلك- أخرج الفيلم من الرواية ومنحها نضجاً حيث لم تعد قصّة تلهب خيال الصغار، بل عملا للراشدين يتناول، فيما يتناوله، احتمال أن تكون كل أحداث المغامرة التي تعرّض إليها الكابتن جيم (بطل الرواية) من صنع أحلامه.
رويز كان غزير الإنتاج لدرجة كبيرة. ربما هذا هو السبب الذي من أجله لم تكن كل أعماله متساوية. ما بين 1985 تاريخ إنتاج هذا الفيلم، و1995 أنجز 26 فيلماً، معظمها روائي طويل شملت ترجمته لمسرحية وليام شكسبير “رتشارد الثالث” وفيلماً عن عودة يساري تشيلي إلى بلاده سرّاً (الحياة حلم) وآخر صوّره في إيطاليا وبقي مجهولاً إلى اليوم (مجازات) وفيلم صوّره في الولايات المتحدة مستوحى من البرامج البوليسية المسلسلة في التلفزيون الأميركي («القارب الذهبي») وفيلم آخر لم يخطف الإهتمام هو «فادو الرئيسي والهامشي».
حين قرّر تقليل نشاطه المكثف هذا، ارتفع الاهتمام بأعماله مجدداً وعاد الحديث عن نوعية هذه الأعمال وتميّزت سينما رويز وما يطمح لتحقيقه من خلال شغله على الخيال والواقع وتعريض أعماله إلى مستويات وشرائح من الاستعارات والرموز والتجريب. أول فيلم في هذه المرحلة التي بدأت سنة 1996 كان “ثلاثة حياتات وموت واحد فقط” بطولة مارشيللو ماستروياني (الذي كان هذا الفيلم أحد آخر ثلاثة أعمال مثلها قبل وفاته في ذلك العام) وملفيل بوبو وماريسا باراديس.

إنه عن أربع حكايات تدخل أحداثها في بعضها البعض. تسوق مزاجاً كوميدياً يتعامل وخيالات مثيرة للاهتمام. وتتناول إيحاءات أدبية وفنية من أكثر من مصدر: الروائي الأميركي ناتانيال هوثورن والروائي اللاتيني جورج لويس بورجز والمخرج الأسباني لوي بونويل. في الحكاية الأولى نرى ماستروياني في دور رجل كان خرج لجلب علبة سجائر من الدكان القريب، كما قال لزوجته، لكنه لم يعد مطلقاً. حدث هذا قبل عشرين سنة.. بعدها عاد إلى مقهى قريب من المنزل العائلي حيث يلتقي بزوج زوجته الحالي ويطلعه على أسرار تاركاً للزوج تصديقها أم لا.
الثانية حول بروفسور (ماستروياني أيضاً) وهجرة مختلفة: يترك البروفوسور التعليم والمهنة بأسرها ويقرر العيش على الشوارع المنحطّة حيث تنقذ حياته (من هجوم مجموعة من الشبّان) امرأة تعمل عاهرة وتأويه ليكتشف أنها تدير مؤسسة خيرية مما تجنيه من عائدات.
الثالثة أقل غرابة ووقعاً من بين الحكايات الأربعة. مارشيللو هنا هو الخادم الذي يعمل في منزل كبير حين تتلقى فتاة (ابنته شيارا ماستروياني) علماً بأنها ورثت قصراً كبيراً بشرط أن تبقي على ذلك الخادم العجوز. لاحقاً ما نكتشف وإياها أن هذا الخادم العجوز ما هو إلا والدها.
أما الحكاية الرابعة فنرى فيها مارشيللو في دور كاتب تقض هواجسه الأحلام والكوابيس ويبدأ بالاعتقاد أن هناك من يزوره ليلاً. في الحقيقة، هذه الشخصيات الزائرة هي تلك التي وضعها بين دفتي رواياته.
كعادته في معظم أفلامه، يتحوّل الاهتمام من متابعة القصّة الواردة إلى متابعة ما يطرحه المخرج من خلالها. لكن هذا الفيلم، في حكاياته الماثلة، يتناول الأحلام واليقظات أكثر من سواه. شخصياته نفسها لا تعرف إذا ما كانت تعيش ما تحياه أو تحلم به وهذا اللا- مُدرك هو ما على المشاهد استنتاجه وقبوله بطلب من المخرج وإصراره على المزج المتواصل بين المشاهد والخطوط وتقسيم الشاشة إلى عدّة عروض متوازية Split Screen…
هذا التعامل مع شخصيات تخلط الحلم بالواقع يزداد حدّة في فيلم جيّد آخر حققه في الولايات المتحدة بعنوان «صورة مشروخة» تعامل فيه مع المرأة ذات الحياتات المتنوعة والمتعددة. يفتح المخرج هنا نافذة على المخرج اللامع ألفرد هيتشكوك هي في الوقت ذاته تحيّة ومشاكسة. الفيلم الذي يهتم رويز بالتعليق عليه من أفلام هيتشكوك هو «فرتيغو» ولا عجب في ذلك إذ أنّ فيلم هيتشكوك ذاك يدور حول امرأة قد تكون هي ذاتها التي شغلت بال وقلب بطل الفيلم قبل سنوات واعتقد أنها ماتت.

إنه حول تلك المرأة (الفرنسية آن باليرو) التي تصل إلى أحد جزر الكاريبي مع زوجها الأميركي (وليام بولدوين) لتمضية شهر العسل، لكنها واثقة من أن رجلاً هاجمها قبل سنوات وروّعها يلاحقها إلى الآن وأنه على نفس الجزيرة. إذ يمزج المخرج الواقع والخيال، فإن وسيلته في ذلك هي ممارسة لعبة تبدأ من السيناريو (الذي يكتبه دائماً) وتنتهي بغرفة المونتاج. تقديم مشهد على مشهد قد يقلب المعادلة. من الذي يستطيع، مثلاً، القول أن تلك الشخصية ليست وهماً في بال الرجل الذي تعتقد أنه يلاحقها؟
هذا اللعب بالصور، إذا جاز التعبير، لا يعني أن جوهر العمل الذي ينجزه رويز صعب. في الحقيقة وبعد فيلم جيّد آخر له هو «ألغاز لشبونة» (عن نشأة شاب عاش في مدرسة للأيتام بعدما لفظته أمه الكونتيسة تبعاً لرغبة زوجها الجديد وذلك في أحداث تقع في القرن التاسع عشر سكبها الروائي كاميلو كاستيلو برانكو) هناك اهتمام بالميلودرHما الشعبية (تلك التي نجدها في أفلام تود هاينز وبدرو ألمادوفار من بين آخرين). حسب رويز: “الميلودراما كبد يستطيع تشرّب كل شيء”.
عرض هذا الفيلم سنة 2010 وتبعه بآخر إنجازاته: مسلسلاً تلفزيونية بنفس العنوان إنما بتمدد سردي أطول توزّع على ست حلقات لا تزال تنتظر العروض خارج فرنسا إذا ما قُدّر لها ذلك. لكن في العام الماضي، وفي مقابلة معه تحدّث إلى التلفزيون حول مشروعه التلفزيوني ذاك وقال: “لقد بدأت العمل مساعد مخرج في ميلودراميات تلفزيونية مكسيكية وتشيلية. «ألغاز لشبونة» بمثابة نهاية الحلقة. دائرة تعيدنا إلى النوع الذي بدأته. وهذا مرضي بالنسبة إليّ”.