من كلاسيكيات السينما التسجيلية

ترجمة: أمير العمري

“برلين: سيمفونية مدنية”

كيف يمكن مشاهدة فيلم مثل “برلين: سيمفونية مدينة”، أنتج قبل 73 سنة؟ الإغراء الواضح هنا يكمن في مشاهدته بوصفه وثيقة تاريخية، ونظرة ثاقبة إلى أنماط الحياة والمعيشة في برلين في أواخر العشرينيات، والمؤكد أن الفيلم يفسح المجال لرؤية من هذا القبيل.

إنه يقدم لنا “يوما في حياة مدينة’ يصل بنا الى برلين بالقطار مع لحظة شروق الشمس، يتابع الحياة في المدينة وهي تستيقظ، ثم تذهب إلى العمل في الصباح، وحتى ما بعد الظهر، ينتقل من العمل إلى اللعب ، والرياضة والرقص والشرب في عمق الليل.

لحظة شروق الشمس

إنه ينتقل بسرعة من الأغنياء إلى الفقراء، من الانسان الى الآلة، ثم بالعكس، من عظمة المدينة بمبانيها الشاهقة، إلى ما يكمن وراء المنظر البراق من المجاري، ودائما هناك الحركة، الحركة في كل اتجاه يمكن العثور عليه. القطارات والترام والخيول والحشود الصاخبة، والعجلات التي تدور باستمرار، وركوب الخيل والاستعراضات الموسيقية، وسباقات القوارب، وسباقات الخيول وسباقات الكلاب، ودائما نشعر بديناميكية المدينة وهي في حالة حركة.

إنه فيلم جميل للغاية، وابتعاده عنا في الزمن، وفي الخبرة، يؤكد لنا ما يتمتع به من جمال. إنه يقدم لنا نموذجا لمدينة برلين كما لوكان يعرض لنا منحوتة مصغرة، يجعلها قريبة منا وحميمية وثيقة، يتطلع اليها من بعد عبر فجوة لا يمكن تجاوزها.

جانب من هذه الفجوة هو على الأقل، نتيجة للجمالية الهائلة التي يتمتع بها الفيلم نفسه، ونحن نرى جماله قبل أن نرى أي شيء آخر. لقد حذر مخرجو الفيلم الوثائقي من جون جريرسون إلى جان روش وما بعده، من مخاطر الصور الجميلة في الفيلم الوثائقي. في مقال كتبه في منتصف الثلاينيات (1) اختار جريرسون تحديدا فيلم “برلين: سيمفونية مدينة” كنموذج لفيلم الوثائقي الذي لا يجب صنعه. ورأى جريرسون أنه على الرغم من جماله وقوة لقطاته وما يتمتع به مونتاجه من حيوية وتدفق إلا أنه لين يفشل في نهاية المطاف في أن يزودنا بأي شيء ذي قيمة.

وقال جريرسون في مقاله المشار اليه:
على الرغام من كل ما يتضمنه الفيلم من لقطات للعمال والمصانع وما يصوره من دوران الحياة في مدينة عظيمة هي برلين، فإن الفيلم لم يحقق شيئا.  ولعل الشيء الوحيد الذي قدمه هو ذلك الرشاش من المطر الخفيف بعد الظهيرة (2). لقد نهض سكان المدينة بشكل رائع، وأخذوا يطرقون الأرض بعددهم الذي يربو على الخمسة ملايين نسمة بشكل مبهروليست هناك أي قضية لها علاقة بالانسان أو بالله، سوى ذلك المطر المفاجئ الذي ترك أثره على الأرصفة”. (3)

واعتبر جريرسون أن الفيلم في تركيزه على الصور الجميلة والمثيرة وغياب وجود “قضية” ذات معنى (قضية البطالة على سبيل المثال) فإن الفيلم تخلى عن مسؤولياته الاجتماعية، واعتبر أن المشاهد لا يخرج بعد مشاهدة وقد أصبحت لدينا معلومات أو أصبحنا ملمين بالموضوع بشكل أفضل مما كنا قبل مشاهدته.

هل هذا نقد عادل للفيلم؟ بالتأكيد هناك على الأقل بذور التحليل السياسي لعلاقات العمل في الفيلم، في التقابلات المستمرة التي يصورها بين الحياة اليومية للطبقة العاملة، وحياة النخبة الثرية. ومن المغري بالتأكيد قراءة مثل هذه المقارنات باعبتارها ايضاحات مجسدة لعواقب التوزيع غير المتكافئ للثروة.

في بعض اللحظات تبدو التناقضات التي يصورها الفيلم قريبة الشبه بما يمكن للمرء أن يشاهده في أفلام أيزنشتاين أو فيرتوف، على سبيل المثال يتم تصوير التعارض بين الأغنياء والفقراء من خلال المجموعة من اللقطات للفقراء والأغنياء أثناء تناولهم طعام مع لقطات لأسود تمزق فخذ فريسة وتلتهمها. ويمكن للمرء ان يتخيل بسهولة أيزنشتاين يستخدم مثل هذه اللقطات استخداما مجازيا لكي يشير الى أن الأغنياء يلتهمون الفقراء كما تلتهم الأسود لحم الفريسة.

ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الربط بين المشاهد لا يوحي باستخلاص نوع من التعبير الرمزي أو المجازي، يبقى الأمر غامضا فيما يتعلق بما إذا كان الفقراء أو الأغنياء الذين تجري مقارنتهم بالأسود المفترسة. في الواقع إذا كانت هناك وجهة نظر هنا فربما تتمثل في أن الأغنياء والفقراء على حد السواء، يشتابهون جميعا في احتياجاتهم ورغباتهم البدائية. إن ما يصلنا ليس التباين بين ظروف الفقراء والأغنياء، ولكن التشابه بين احتياجاتهم الأساسية.

إن كل أشكال المقارنة بين الأغنياء والفقراء في الفيلم ليس المقصود منها وضع الطرفين في اطار جدلية الصراع الطبقي، بل ان الفيلم يشير إلى أن ما يوحدهم في نهاية المطاف هو انتماؤهم المشترك إلى المدينة نفسها أي إلى برلين. (4)

ليس بوسع المرء ان يتفق مع جريرسون عندما يقول إن الفيلم لا يعرض لنا شيئا مفيدا، وإنه مجرد تجربة جمالية، فالفيلم يقدم لنا تعبيرا حيويا عن مدينة في حالة حركة والتفاعل بين أجزائها المختلفة التي تشكل كلها معا برلين.

المشكلة هي أن برلين التي يقدمها لنا الفيلم ليست برلين مجردة من التاريخ، من خلال ارجاع أي نزاع بين اجزائها المتعارضة الى الوحدة الكلية للمدينة في النهاية، أي أنها أجزاء من كل واحد مشترك مهما بدت متناقضة، ويقول الفيلم ان ألأجزاء يمكن أن تأتي وتختفي أما برلين نفسها فهي باقية الى الأبد.

مخرج الفيلم ولتر روتمان

وإذا كان بوسعنا الآن، في الوقت الحالي، مشاهدة الفيلم من خلال نظرة تاريخية، فذلك ليس لأنه يقدم لنا لقطات تشهد على مرور الزمن، فهو لا يقدم لنا أكثر من وحدة زائفة، مكونة من عناصر متعددة (الطبقة والعرق والدين والسياسة) لكنها تصب كلها في وحدة واحدة للكل.

انه فيلم يشبه أعمال النحت المصغرة كما أشرت من قبل، والتي تستدعي أن نقف على مسافة منها لكي نقدر جمالها.

وإذا كنا نرى “التاريخ” في الفيلم ونحن نشاهده بعد 73 عاما من ظهوره، فذلك لأننا نرى في الجمال المتمثل أمامنا، آثار الصراع القادم الذي سيحطم المدينة، ويجعلها مكشوفة، إننا نرى عبر الفيلم دون أن يكون هذا مجسدا في الفيلم، قوة الدولة والجنود يسيرون في الشوارع يرتدون على رءوسهم تلك الخوذات المميزة وهي مسيرات ستتكرر في في جميع أنحاء أوروبا. هنا نرى اليهود يسيرون  بحرية، والأطفال الذين في غضون 15 عاما أو نحو ذلك سيقومون بسوق هؤلاء اليهود أنفسهم إلى معسكرات الاعتقال.

يمكننا مشاهدة الفيلم، ليس كصورة لما كان، بل… كصورة شبحية غامضة لما سيكون.

الهوامش

1- جون جريرسون: “المباديء الأولية للفيلم الوثائقي”، وردت في كتاب كيفن ماكدونالد ومارك كوسنز “تخيل الواقع: كتاب فابر عن الفيلم الوثائقي”، فابر آند فابر، لندن 1996.
2-  ربما يكون من المثير للاهتمام أنه لا يوجد مطر خفيف بعد الظهيرة في النسخة التي شاهدتها من الفيلم، رغم أن أرصفة الشوارع في المدينة تبدو مبتلة في اللقطات الأخيرة من الفيلم. فهل يمكن أن يكون جريرسون قد خلط بين فيلم “برلين…” وفيلم “المطر” ليوريس ايفانز (1929)؟ ولاشك أن فيلم “المطر” يشبه في مزاجه العام فيلم “برلين: سيمفونية مدينة” وإن كان “المطر” عن “يوم في حياة المطر” وليس “يوم في حياة مدينة” وفي الفيلم مطر خفيف بعد الظهيرة يتطابق مع الوصف الذي قدمه جريرسون..
 هذا الجدل مستمد من جيل دولوز يتعلق بالمقارنة بين أيزنشتاين وجريفيث، فعلى حين استخدم جريفيث المونتاج المتوازي للاشارة إلى وجود وحدة بين العناصر المتباينة، استخدم أيزنشتاين المونتاج المتوازي لخلق تعارض بين تلك العناصر على نحو جدلي بهدف توليد تفسير على مستوى أعلى من خلال ما ينج من بعد ثالث كحصيلة للصراع بين العنصرين الأولين. هذا المستوى الأعلى في التفسير، كما يشير دولوز، يتعلق بالاستغلال الاجتماعي. انظر دولوز، جيل: سينما 1: صورة الحركة (هيو توملينسون وباربرا هابرجام)، مينيابوليس: مطبعة جامعة مينيسوتا،1986، من صفحة 30 الى 33.


إعلان