«بركان الغضب».. عندما ينفجر!..

لم يكن من المناسب أبداً لانتفاضة الأقصى الفلسطينية، عام 2000، وقد حظيت بالحضور الإعلامي الإخباري الواسع، أن لا يكون لها حضورها الموازي، «أو المناسب» في السينما العربية، وعلى رأسها السينما المصرية، التي تأخذ لنفسها عن جدارة اسم السينما العربية.. فمن المعروف أن انتفاضة الأقصى، ارتقت، حينها، إلى ما يشبه الحدث الذي لا يمكن تجاوزه، وأصبحت الموضوع الأكثر تداولاً وتعلقاً بالوجدان العربي والإسلامي، أو في شتى أنحاء العالم.. وهذا ما كان له أن يستدعي، بالضرورة، حضورها في شتى أنماط وأنساق التعبير الإبداعي العربي، فضلاً عن وسائل اتصاله، وفي مقدمتها السينما، في عصر من أبرز سماته الحضور الطاغي للصورة.
وعلى الرغم من أن السينما المصرية قدمت عدداً غير قليل من الأفلام التسجيلية والوثائقية، والقليل جداً من الأفلام الروائية الطويلة، ذات العلاقة بموضوع الانتفاضة، إلا أن «بركان الغضب» لمازن الجبلي، يبدو بمثابة الفيلم النموذج الذي يمكن الحديث عنه، في هذا المجال، فهو فيلم مصري فلسطيني مشترك، يتناول بشكل مباشر القضية الفلسطينية، وخلاصتها المكثفة في انتفاضة الأقصى التي بدأت منذ 28 أيلول/ سبتمبر 2000، واستطالت أحداثها حتى كادت تتجاوز ثلاث سنوات، ريثما تأتي الأحداث لتعصف بها.. خاصة وأن الفيلم يمتدّ بأحداثه بين ما قبل وما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر2001!..
يقوم الفيلم باستعراض المقدمات التاريخية لنشأة القضية الفلسطينية، وتطوراتها، من خلال ابتدائه بتقديم مشاهد وثائقية تتناول الهجرة اليهودية إلى فلسطين، منذ أوائل القرن العشرين، مروراً بالأمم المتحدة، عندما أقرّت تقسيم فلسطين عام 1947، ومن ثم إنزال العلم البريطاني، إيذاناً بانتهاء الانتداب البريطاني عند منتصف شهر أيار 1948، ورفع العلم الإسرائيلي معلناً قيام دولة إسرائيل!..

ويستفيد الفيلم من «تيتراته» ليقدم صوراً فوتوغرافية لعدد من القادة الصهاينة، بدءاً من تيودور هرتزل: مؤسس الحركة الصهيونية، مروراً بعدد من «رؤساء الدولة»، أمثال: أفراهيم كاتسير، زالمان شازار، إسحاق بن زيف، إسحاق نافون، عيزرا وايزمان، موشي كتساف.. وعدد من «رؤساء الحكومة»، أمثال: دافيد بن غوريون، غولدا مائير، ليفي أشكول، مناحيم بيغن، إسحاق رابين، إسحاق شامير، شمعون بيريز، بنيامين نتنياهو، أيهود باراك.. دون أن يهتم الفيلم بالعناية بالتتالي التاريخي لظهور هؤلاء. ربما في إشارة إلى أنهم جميعاً كانوا في سياق مشروع صهيوني، صاعد إلى أهدافه المحددة!..
وإذ يُداخل الفيلم فيما بين الصور الفوتوغرافية لهؤلاء القادة الصهاينة، والصور السينمائية لمشاهد تبيّن تقدُّم الجيش الإسرائيلي، وهو يحتل الأرض الفلسطينية، فإنه يؤكد بالكتابة على الشاشة أن «كل هؤلاء أجمعوا على أن لا تقوم دولة فلسطينية».. فتترافق الكتابة المقروءة مع صورة فوتوغرافية للجنرال الصهيوني أرئيل شارون. لعل في ذلك دلالة إلى أن شارون هو التكثيف الأعلى، والخلاصة القصوى، للمسيرة الصهيونية، منذ أول مهاجر يهودي وصل أرض فلسطين، حتى اللحظة الراهنة، التي يُراد فيها استكمال دائرة النكبة المحيقة بالفلسطينيين، بأبشع صورها، وأكثرها قسوة!..
كما يريد الفيلم القول، من خلال مقدمته تلك، إن الفعل الاحتلالي لا يتقدَّم بدون مقاومة، أو ممانعة فلسطينية، ولهذا فإن الفيلم ينتقل إلى عدد من المشاهد الوثائقية، التي تقدّم صورة الرئيس الفلسطيني، حينها: ياسر عرفات، ومشاهد من أرشيف الثورة الفلسطينية المسلحة، وصوراً حيّة من وقائع الانتفاضات الفلسطينية المتتالية، والتي اندلعت في العقود الماضية، ليصل إلى اقتحام شارون باحة المسجد الأقصى، ومن ثم يقدم عرضاً بانورامياً لمشاهد من انتفاضة الأقصى، بما فيها من دموية مفجعة، حيث يجري قتل الفلسطينيين، وسحل الجثث على الإسفلت، وصولاً إلى مشاهد قتل الفتى محمد الدرة!..
بعد ما هو تسجيلي وثائقي من مقدمة، تبدأ أحداث الفيلم الروائية في مدينة تل أبيب، حيث يدخل فتىً، قوي البنية، بهوَ فندق فاخر، ويتمكّن من تنفيذ عملية اغتيال جنرال إسرائيلي، يبدو أنه يقضي إجازته في هذا الفندق.. يخرج الفتى من الفندق، بيسر وسهولة.. ويتم الانتقال إلى غرفة اجتماع قيادة أمنية إسرائيلية مصغّرة، تناقش عمليات الاغتيالات التي تمّت في الآونة الأخيرة.. ونجد أن الاعتقاد لديهم يتجه نحو خلية فلسطينية على رأسها «خالد شبيب»، ونرى صورة الفتى ذاته!.. سيقدم قائد الجلسة معلومات عن خالد، لنعرف أنه اعتُقل لعامين في معتقل أنصار، واستطاع الهرب.. هو نشيط للغاية، وأصبح رمزاً للشباب الفلسطيني.. ولذلك فإن «اعتقاله أصبح ضرورة، وضرورة ملحة»..

في مقرّ للمستعربين، وهم مجموعة من الجنود الإسرائيليين، وضباط استخباراته، ممن يتخفّون بلباس مدني فلسطيني الهيئة، ثمة تعليمات حازمة بضرورة التخلُّص من «المخربين»؛ خالد ومجموعته.. والجنرال الإسرائيلي يقول بحسم: «بدّيش حدا منهم حيّ.. بدّيش أسرى.. مهما كان الثمن»!.. ولا بد له من ثمَّ أن يتباهى ببسالة جنود إسرائيل.. أكبر وأقوى قوة في المنطقة.. وأنه لن يسمح لأحد بزعزعة هذه الثقة!..
المجموعة الفلسطينية في مكمنها.. أفرادها يسهرون ويغنون لفلسطين.. ويتحاورون.. ثمة أحاديث «عن المستعربين الصهاينة.. كما عن المقاومة.. واختلال ميزان القوى لصالح العدو.. وعن الشعب الذي ما زال بخير.. الوحدة الوطنية الراسخة.. وفلسطين لكل الفلسطينيين.. وياريت العرب يفكروا على هذا النحو، لكان وضعنا غير هيك.. عن الشعب الذي يموت كل يوم ليخلق معنى لشيء اسمه كرامة».. وفي المجموعة فتاة اسمها مريم، هي أخت جورج.. في محاولة من الفيلم الإشارة إلى تنوع إسلامي مسيحي في المجموعة.. وهي سوف تستشهد بين يدي أخيها، فيما بعد!.
بتشديد الهجمات التي تستهدف «خالد»، تصدر أوامر قيادية فلسطينية، تطلب منه الخروج إلى لبنان (هكذا؟!..)، وفي طريقه سوف نتبين جانباً من معاناة الفلسطينيين.. امرأة تلد على الحاجز.. منع المصليين من الوصول إلى المسجد الأقصى لصلاة يوم الجمعة.. فيصلّون عند الحاجز.. (لاحظ خلط الأماكن.. إذ أن معبر جنين يقع شمال الضفة، ولا يؤدي إلى القدس).. وخالد يمرّ من المعبر بلباس الجندي الإسرائيلي، مستفيداً من إتقانه العبرية، وأوراقه الإسرائيلية!..
من الجليل الأعلى، إلى جنوب لبنان، ينطلق خالد عبر منطاد.. (يبدو أنه يجيد استعماله)!.. وهناك سوف يجد من ينقله إلى بيروت، ومن ثم إلى القاهرة، حيث يستقبله أبو أدهم، وهو رجل أعمال فلسطيني مقيم في مصر، وينقله إلى الإسكندرية، حيث يضعه في بيت أحد ضباط الأمن، نعرف أنه العقيد حسين شاكر، وأن سارة أخته فنانة تشكيلية، وناشطة في فعاليات طلبة الجامعة المصريين المؤيدين للانتفاضة..
أبو أدهم يلتقي رجلاً خليجياً، حيث يتلقّى منه دعماً مالياً للانتفاضة، وتأكيداً منه على مواصلة الدعم «لأبو عمار، وشعبه».. يذهب خالد لمقابلة الخواجه روستي «غسان مطر»، وهو تاجر سلاح، وعندما يتسلم قائمة المطلوبات المكونة من «300 قطعة آر بي جي، 2000 لغم ضد الدبابات، طن ديناميت، 10000 قنبلة يدوية»!.. يقول روستي: «الطلبية ناقصها طيارات، وتحارب».. فيرد خالد بهدوء: «كل شي بوقته»!..

بطل الفيلم تامر هجرس

تسليم صفقة السلاح سوف يتمّ خارج مصر، في البحر، خارج المياه الإقليمية.. وإذ يتحدث خالد عن المراقبة الدقيقة، يقول له الخواجه: «انتو اشتريتو أسلحة ومدافع من مافيا الجيش الإسرائيلي».. أما أبو أدهم فيخبر خالد بتعقّد المسائل بعد ما حدث في أمريكا (المقصود هنا طبعاً أحداث 11 سبتمبر 2001).. وأن هناك في العالم من يعتقد «أننا وراء ذلك».. والاستخبارات الإسرائيلية التي عرفت أن خالد وصل إلى مصر، تحاول عرقلة مهمته، ويقررون مراقبة مداخل الضفة والقطاع، كي لا يتمكّن خالد من العودة بالسلاح..
سيتمكن خالد مستفيداً من مساعدات وتسهيلات عدة قُدِّمت له، بما فيها من قبل بعض رجال الأمن المصريين، بنقل السلاح وإيصاله إلى بحر غزة.. وفي مسمعه يتردّد صوت سارة المُحبّة، والمستعدة للتضحية بحياتها في سبيل أن تتحقّق مهمة خالد بنقل السلاح إلى الشعب الفلسطيني.. لقد نجح خالد في مهمته.. عاد ومعه السلاح.. وهاهو يطلق إشارة الوصول.. ويختتم الفيلم أحداثه بصوت ياسر عرفات قائلاً: «يرونها بعيدة، ونراها قريبة.. وإننا صادقون»!..
من الواضح أن فيلم «بركان الغضب»، وقع في مطبّ تسطيح القضية الفلسطينية، ليجعل أمر حسمها يمكن أن يتمّ من خلال تهريب السلاح إلى الفلسطينيين، وكأن الفلسطينيين وحدهم (مهما بلغ تسليحهم) قادرون على تحرير فلسطين!.. كما أن الفيلم، على صعيد السيناريو والحوار، لا ينجو من مأزق جعل الشخصيات الفلسطينية كائنات أدبية، تنطق بالحكمة وترسلها في الحوارات اليومية، مما يفسد مصداقيتها، ويجعلها مليئة بالادعاء.. وبالكثير مما لا علاقة لها بالواقع الفلسطيني..
فيلم «بركان الغضب»، للمخرج مازن الجبلي، نموذج للفيلم الروائي العربي، وهو يقارب القضية الفلسطينية، بكثير من النوايا الحسنة. ولكن: هل تكفي النوايا الحسنة، على افتراضها؟!..


إعلان