المُجازفة جوهر تظاهرة “ربيع السينما العربية”

كان مهرجان “وثائقيات في تونس” سباقاً بعرض الأفلام التسجيلية التي أُنجزت عن الثورة التونسية، ثمّ جاءت المُبادرة من مهرجان كان عندما عرض في اختياراته الرسمية “18 يوما من مصر” الذي يتكوّن من مجموعة أفلام مصرية قصيرة، ونظمّ ندوةً مع مخرجيها، ثم تلاحقت المُبادرات الإحتفائية الصادقة، أو المُتملقة.
بشكلٍ عام، تستثمرُ المهرجانات السينمائية الأحداث الكبرى لغاياتٍ، وأسبابٍ تختلف من واحدٍ إلى آخر، وهو أمرٌ طبيعيّ، ومنطقيّ، ولكنّ الخطورة أن يصل هذا الاستغلال أحياناً إلى درجة تُفقد الصورة قيمتها، وتصبح مألوفة، ويتأقلم المتفرج معها .
وهنا أتساءل بجديةٍ، هل هذا الحماس الشديد في المشهد المهرجانيّ صحيحٌ، وصحيّ، ويساهم في دعم الأحداث، أو على الأقلّ يُواكبها، ألن تتحول هذه الأفلام إلى أشرطة مناسباتٍ سوف تبقى في حدود قيمتها الأرشيفية ؟
وفيما يتعلق بالأشكال، والمضامين، فقد شاهدتُ، وأشاهدُ ما تمّ إنجازه من أفلامٍ عن الثورات العربية، أجدها متشابهة تقريباً، وأحياناً، أتخيل نفسي أمام محطةٍ تلفزيونية كبرى، وأتحول إلى مشاهدٍ صعب المراس، لقد فقدت هذه الصور تأثيراتها بعد أن نقلتها كلّ القنوات الأرضية، والفضائية، وشبكات التواصل الاجتماعي كما هي، ريبورتاجاتٍ بدون صياغة سينمائية، أو تخطتها الصور التي التقطتها كاميرات التلفزيون، وأجهزة التلفون المحمول، وأصبحت هذه الأفلام تكراراً لا ينقصها بعض الإضافات، واللمسات في هذا الفيلم، أو ذاك، ولم تبتعد عن المُشاركة اللحظية الانفعالية، تماماً كما يفعل مواطنون عاديون يصوّرون حالةً، لحظةً، أو موقفاً،..

هل ما أنجزه هؤلاء السينمائيون من أفلام تتضمّن أفكاراً، وتحليلاً، أم مجرد نشرات أخبار مُنمّقة ؟
القراءة التالية هي خلاصة حوارٍ جمعني مع اثنيّن من الهيئة الإدارية لـ “جمعية السينما العربية الأوروبية”، هما “ماري كلود بهنا”، و”جيوفاني ريزو” بهدف تسليط الأضواء على تظاهرة “ربيع السينما العربية” في باريس التي انعقدت خلال الفترة من 15 وحتى 18 سبتمبر 2011.
كانت دردشةٌ جماعيةٌ أكثر منها حواراً، التقطتُ منها ما استطعتُ من شخصين حملا المشروع على أكتافهما بإخلاصٍ لا مثيل له.
بدأت “ماري كلود بهنا” حديثها من فيلم الافتتاح “حكاية ثورة” لمخرجه” المصري “ناجي إسماعيل” عن أشعار “أحمد حداد”، وفيلم الختام “هلأ لوين؟” لمخرجته اللبنانية “نادين لبكي”، والذي تتمحور تيمته حول نساء قرية يمنعون الرجال من الحرب فيما بينهم.. ثم عادت إلى الشهور التي سبقت تنظيم التظاهرة.

* استيقظت “جمعية السينما العربية الأوروبية” من سباتها في الفترة التي تحركت فيها شعوب المنطقة، لم يكن الأمر صدفةً عابرة، لقد حركتنا الأحداث من جمودنا، وانطلقت نشاطاتنا في اللحظة المناسبة.

في البداية، كنا خيالييّن، وحالمين إلى أبعد حدّ، اعتقدنا بأننا سوف نحصل على كلّ الأفلام التي تتحدث عن الثورات العربية، تلك التي عُرضت في كان، فينيسيا وغيرها من المهرجانات….أو كانت قيد الانتهاء من عملياتها الفنية، ولكن، صادفتنا عقبات مع مهرجاناتٍ عربية ترغب في عروض حصرية لهذه الأفلام، ونحن نفهم المُنافسة النزيهة بينها، ونحترمها، ولكننا، لاحظنا بأنها، في بعض الحالات، مشبوهة، وشرسة، وقادنا هذا الأمر إلى البحث عن بدائل وجدناها في تجارب جديدة، وطازجة لم تُعرض في أيّ مهرجان آخر، وهي أعمالٌ حقيقية تتضمّن أفكاراً أنجزها شبابٌ بفضل الثورات، والتقنيات الحديثة، وأقصد تلك التي تُعرض مباشرةً عن طريق الانترنت، صحيحٌ بأنها كانت تهدف إلى تسجيل الأحداث، ولكنها صُورت بتفكير، وتأن.
هناك، على سبيل المثال، سلسلة من 6 أفلام قصيرة بعنوان “تعليقاتٌ على 25 يناير” من إخراج “فيليب رزق”، و”ياسمينا متولي”، وأيضاً “حكاية ثورة” لمخرجه “ناجي إسماعيل” الذي هزّنا، وأبكانا.
ومن تونس فيلمٌ بعنوان “بعد 14 يناير” أخرجه ثلاثة مخرجين بوجهات نظرٍ مختلفة.
في البداية، أردنا عرض الأفلام التي استشعرت، أو تنبأت بالثورات، ولكن صادفتنا عقبات من بعض المخرجين، المنتجين، والموزعين الذين وجدوا فجأةً بأنّ أفلامهم أصبحت مطلوبة في الكثير من المهرجانات، فبدأت المُماطلات، والمُزايدات، وانكشف لنا الوجه الحقيقيّ لبعض السينمائيين الذين كانوا يزعقون في ميدان التحرير، واليوم يتاجرون بأفلام صوروها خلال الثورات، بإمكاننا فهم تلك المواقف، والرغبة باستعادة التكاليف لإنجاز أفلام أخرى، ولكن، أن يطلب منا مخرجٌ مبتدئٌ مبلغاً ضخماً لعمل الترجمة الفرنسية على الشريط مع أنها من مهامه، وأن لا يردّ مخرجٌ آخر على رسائلنا، فهي سلوكياتٌ تدعو إلى التساؤل …
مع البدء بتنفيذ “ربيع السينما العربية”، غمرنا الحماس، والانفعال، واعتقدنا بأنّ السينما، بدورها، سوف تتغير، وتنتقل إليها ثورة في الأفكار، والمفاهيم، والنظرة إلى الفيلم، ولكن، للأسف، وجدنا البعض يستغلّ الأحداث للحصول على الربح.
وفي الشبكة العنكبوتية عثرنا على أشرطة أنجزها سوريون، ورغبنا بتسليط الأضواء عليها، وفي الكثير من الأفلام لاحظنا استثمار الحكاية في الموروث الشعبي، مثل “حكاية ثورة”، وسلسلة أفلام “أبو عبدو الحكواتي”، وفي فيلم “تحرير” لمخرجه “ستيفانو سافونا” تتقاطع الحكاية مع الشعر، والسينما .
خلال مرحلة الاختيار، وبمُشاهدة بعض الأفلام بعينٍ أخرى، تأكدّ لنا بأنّ السينما، ومنذ وقتٍ طويل، كانت سباقة في التنبؤ لهذه الأحداث، وهي إحدى مهامها، تكشف، تُحلل، وتُعارض، بمعنى، السينما سبقت الثورات، وهي تمتلك خصوصية تواجدها في طليعة أيّ حدث، وترى أبعد مما نراه نحن المتفرجين.

ماري كلود بهنا

* في بداية تأسيسها طرحت “جمعية السينما العربية الأوروبية” مشروع تنظيم مهرجان في باريس، ولم يتحقق حتى الآن ؟

لقد توقف المشروع لأسبابٍ تمويلية، كلّ المؤسّسات الفرنسية التي طرقنا أبوابها اعترفت بغياب مثل هذه التظاهرة الجامعة لعموم السينما العربية، ولكن، عندما بدأنا في البحث عن مصادر تمويل، كنا نتحرك عن طريق جمعية صغيرة لا تمتلك أيّ إنجازاتٍ سابقة، وليست بأهمية “معهد العالم العربي” الذي كان يُسهل علينا تنظيم “بينالي السينما العربية”، بينما “جمعية السينما العربية الأوروبية” ليست أكثر من مؤسّسة غير ربحية كانت تضمّ الفريق السابق للبينالي، ولم تكن خبراتهم وحدها كافية للحصول على تمويل، كما واجهتنا مصادر الدعم بتواجد جمعياتٍ أخرى في باريس، وضواحيها تنظم تظاهراتٍ، ومهرجاناتٍ متخصصة بسينمات المغرب العربي، وكانوا يتساءلون دائماً : لماذا لا نُوحد جهودنا، ونعمل معاً، وأحدثت تلك النقطة سوء فهم، وربما حالت دون الحصول على دعم مؤسّسات حكومية لا تريد أن تموّل مهرجانات متشابهة مع أنه لم يكن غرضنا تحديد نشاطنا بسينمات منطقة جغرافية محددة، وكان هدفنا، وما يزال هو “السينما العربية”.

* وما هي المشاريع المُستقبلية للجمعية ؟

 لن نتوقف عند تظاهرة “ربيع السينما العربية”، سوف نواصل نشاطنا طوال العام، ونطمح بأن نقدم فيلماً عربياً جديداً كلّ شهر، ونساهم في توزيع هذه الأفلام، ونكون جسراً بين العالم العربي، وأوروبا، من جهة أخرى، نفكر بإنجاز تظاهراتٍ تتمحور حول تيماتٍ جديدة، حالياً، أعتقد بأن التفكير بمهرجانٍ شامل للسينما العربية كما هو حال “البينالي” مشروعٌ سابقٌ لأوانه.

“جيوفاني ريزو” ناشطٌ سينمائيّ يرى بأنّ العالم العربي معقدٌ، وجاذبٌ للانتباه، ولهذا، فهو يهتمّ بالسينما العربية، ويساهم في نشرها، وترويجها، وتجذبه فكرة “ربيع السينما العربية” أملاً في جيلٍ جديد من السينمائيين يحملون الكاميرا لأول مرة، وربما تصبح وسيلتهم المُثلى في التعبير، ويتعاملون مع السينما بطريقة مغايرة عن الجيل السابق بعيداً عن تقليدية البُنى السردية، والسينمائية، ويطمح بأن تصبح الكاميرا وسيلة حرّة تواكب ما يحدث في البلدان العربية.

* هل تعتقد بأنّ بعض المخرجين ينجزون أفلاماً عن الثورات، ويحولونها إلى سلعة تجارية ؟

لقد أنجز، وينجز هؤلاء أفلامهم في حالة انفعالٍ مع أحداث كبرى، وعند الانتهاء منها، يعودون إلى الواقع، وحقيقتهم، من المؤسف بأنّ البعض صور في لحظةٍ تاريخية ما، ونريد أفلامهم في تظاهرة عن “الربيع العربي”، ويقولون لنا بأننا حجزنا الفيلم لمهرجاناتٍ أخرى، هي غالباً تقدم لهم إغراءات مادية، ومعنوية، وهم يناقضون خطوتهم الثورية المُفترضة.
هذه الحقيقة التي تعرضنا لها، تبدو للوهلة الأولى نقطة ضعف في التظاهرة، ولكنها أصبحت، بالنسبة لنا، مصدر قوة، لأننا عثرنا على أعمال لا تقلّ أهمية عن تلك التي رغبنا في الحصول عليها، ولم تصلنا، لم يستوعب السينمائيون الذين رضخوا لمغريات المهرجانات الكبرى بأننا نعمل متطوعين، وأنجزنا هذه التظاهرة بميزانية قليلة جداً.
بالنسبة لي، “ربيع السينما العربية” ليست تظاهرة حول الثورات التي تحدث عملياً في البلدان العربية، ولكن، أيضاً عن تلك الروح الثورية السينمائية التي تتضمّنها بعض الأفلام كما حال “على الحافة” لمخرجته المغربية “ليلى كيلاني” الذي صورته بكاميرا محمولة على الكتف، هذه الأفلام الخارجة عن الأطر التقليدية، هي بالنسبة لي “ربيعٌ سينمائيّ عربي”.

تعود “ماري كلود بهنا” إلى متابعة حديثها :

 سلسلة أفلام “شنكبوت” تقدم لنا “زورو” عربي يؤمن بالديمقراطية، والعدالة، هذه الشخصية التي تجول لبنان على دراجة لتوصيل الطلبات، تكشف خبايا المجتمع اللبناني، وأسراره، ويعتبر هذا العمل أول “ويب دراما” عربي.

فيلم تحرير لستيفانو سافونا

* ولكنّ هذه الأفلام، والأشرطة متوفرة للمُشاهد عن طريق الأنترنت، لماذا تريدون نقلها إلى الشاشة الكبيرة ؟
يرد “جيوفاني ريزو” :

حتى الآن لا أحد يعرف عنها شيئاً، ونحن نقدمها هنا في فرنسا، ونترجمها، “حكاية ثورة” لا يمتلك نفس القيمة في الأنترنت، لقد أخرجناه من الكمبيوتر، ووضعناه على شاشةٍ كبيرة، وهي خطوة اعتراف، وتكريم لهذا الفيلم، وأعمال أخرى مشابهة.
من خلال التظاهرة نساهم بفتح الحدود بين الوسائط المختلفة، وهي خطوةٌ خطرةٌ لا نعرف نتائجها، والتظاهرة كلها ترتكز على فكرة المُجازفة، وهي جوهر فكرة “ربيع السينما العربية”.

هوامش:
الأفلام من اختيار هدى إبراهيم، ماري كلود بهنا، جيوفاني ريزو .


إعلان