“صمت صفر”.. الثورات العربية بعيون سويدية
معرفتهم ومتابعتهم للأوضاع في منطقتنا، وقبل انطلاق ثوراتها، مكنت صناع “صمت صفر” من انجاز فيلم وثائقي فيه الكثير من عناصر التميّز عن أخرى وثقت الثورات العربية وغلب عليها طابع العجالة، مع أهميتها. فالمقابلات والأحداث سجلت ما بين الأعوام 2009 الى 2011، أي قبل اندلاع الثورات في تونس ومصر وبعدها، وبهذا أسس المخرجون السويديون لفيلمهم قاعدة “تسجيلية” مهمة لفهم الخلفية التأريخية للحدث، وبالتالي إعانة المشاهد على متابعة تطوره الزمني، ومعرفة عوامله الموضوعية، وساهم الكم الجيد من ساعات التسجيل الى جانب المقابلات الحية مع عدد من الشخصيات، التي ساهمت في التعجيل وإنضاج تلك الثورات، في تمتين بنيته التسجيلية.
العنصر الإضافي في هذا الوثائقي الذي قام به: جوني فون فالستروم، جعفرية رضوي والكسندرا ساندلز يتمثل في فهمهم لفكرة الثورة أو عملية التغيير الاجتماعي، والتي تتجاوز فعل، إسقاط الأنظمة المستبدة، الى تغيير عقلية المجتمع نفسه وأسلوب تعامله مع مشكلاته، وأولها قبوله بمبدأ حق البشر في التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم، ومن هنا كانت أهمية ذهابه الى لبنان لتلمس الحراك الناشيء هناك مع أن أغلب

التركيز “الإعلامي” إنصب على الدول التي بدأت شعوبها برفض الواقع السائد فيها. في لبنان، قدمت الناشطة الحقوقية والكاتبة الشابة ربيكا سعدة صورة عن واقع مجتمعها وسبب تأخره في إحداث التغيير المنشود، خاصة وأن الناس فيه تعاني من مشكلات عديدة، وفي مقدمتها التركيبة الطائفية للمجتمع أو النظام القبلي السياسي كما وصفته سعدة، بالعائق الحقيقي لنهوض لبنان، الذي يحتاج بدوره، وبسبب هذه التركيبة المعقدة، الى عدة ثورات وليس لثورة واحدة فقط. في الجزء اللبناني يسجل “صمت صفر” حالة كسر حاجز الصمت وإتحاد الكثير من اللبنانيين على مشتركات بعيدة عن انتمائتهم الطائفية، وبروز الإحساس بالحاجة الى جرعة “غيرة” من بقية الثورات العربية وفهم حقيقي لحقوق الإنسان، تَجسد عبر ما سجلته الكاميرا لجزء من يوميات الكاتبة ونشاطها المرتبط بسلسلة من العلاقات تكشف كلها عن وجود حراك حقيقي ما زالت ناره خفية مع أن المُقدم أمامنا يشي ببروز جزء منه على السطح.
الشباب يصنع ثورته
ثمة إجماع بين معظم الناشطين في حقل نشر المعلومات عن الثورات العربية، على أن الشباب هم من أشعلها وليست وسائل الاتصال الحديثة، فالأخيرة تبقى وسيلة تقنية بدون الدور البشري لا قيمة لها. ومع توزع قصص الوثائقي في أكثر من مكان وعلى أكثر من شخص يبقى الدور الريادي للإحتجاجات الجماهيرية، والتي جاءت كنتيجة منطقية لقمع وعسف وقهر اجتماعي طال عقود، هو الأساس، فيما ظل دور وسائل الاتصال تكميليا، وفي التجربة التونسية ك نجد كل هذه الدلائل كما قالت الصحفية والمدافعة عن حقوق الإنسان ليلى وسلاتي: لقد ألهم الشباب العرب بعضهم بعضا، وكانت مطالبهم تنطلق من شعورهم بالحيف ورغبتهم في إقامة مجتمعات يعيش فيها الإنسان بكامل كرامته.
وتقول: لم ننقل تجربتنا لأحد الكل كان يشعر بسوء أوضاعة، لكن الشرارة الأولى شجعت البقية على الثورة. تفاصيل النشاط التحريضي في تونس يدهش المشاهد خاصة في ضوء المعطيات التي قدمها المشاركون عن طبيعة النظام البوليسي وكيف تحولت الساحة المقابلة الى وزارة الداخلية كنقطة مواجهة صريحة مع النظام مع إشارة ليلى الى دورها وبقية الشباب في نشر المعلومات ومقاومة الرقابة الحكومية الصارمة والمطالبة دون كلل بحرية التعبير. لقد انصب دورها على تصوير كل مظاهر التعذيب والقمع ونشرها عبر “شبكة الانترنيت” وحين اندلعت الثورة كان عليها نقلها الى العالم كله.

وفي مصر كانت قاعدة نشر المعلومات تتشكل بهدوء على أيدي شباب شجعان قبل سنين من الثورة، و”صمت صفر” يسجل ذلك بروية عبر ملاحقته لبعض الناشطين في مجال نقل المعلومات ودورهم في تكوين شبكات الاتصال الأولى والتي أخافت رجال السلطة المصرية، فقامت بملاحقتهم، ومع هذا أستمروا في عملهم والتحموا فيما بعد في ساحة التحرير مع أخوانهم في تجربة غنية ومثيرة كانت الكاميرا تسجل تفاصيلها منذ عام 2009 حين دخلت بيت الصحفي حسام الحملاوي الذي كان من أوائل الناشطين في الكتابة الألكترونية المحدودة الانتشار في بدايتها: لقد إستخدمت في باديء الأمر إسما سريا في مراسلاتي على (بلوغ) وكنت أصور بنفسي كل ما أكتشفه من ممارسات قمعية للسلطة وأقوم بإرسالها فورا، ولكن ومع الوقت سأمت السرية فقمت بكتابة اسمي صريحا، فلم يعد الصمت مقبولا! ولم أعد الوحيد الذي يقوم بهذا الدور الاعلامي التي توسع ليشمل الكتابة في الفيس بوك والتويتر وغيرها. ويشدد بدوره: هذه ثورة شعب وليست ثورة أنترنيت و”ساحة الميدان” كانت مركزها الحقيقي.
أمهات بطلات وموسيقى
دون لبس يظهر ميل صناع الفيلم نحو إبراز دور المرأة في الثورات العربية الى جانب الموسيقى كوسيلة مؤثرة من وسائل التعبير عن مشاعر الناس ومكنوناتهم النفسية. فوالدة ربيكا اللبنانية تتفهم نشاط إبنتها وتتحمس له وتعلن أمام الكاميرا بأن بلدها بحاجة الى تغيير والمرأة لا بد لها من لعب دور أكبر مما هو عليه الآن. وفي ساحة التحرير أعلنت والدة الناشط وائل عباس عن افتخارها بعمل إبنها والنصر الذي تحقق لهما في النهاية: لقد تعذب كثيرا وأنا فخورة به. لقد تحقق لي حلمي أخيرا وسعادتي بمشاركته والشعب هذه اللحظة لا توصف، لقد كان بيني وبين النظام ثأر بدأ حين حين قال لي رجال مبارك يوما: إذا لم يعجبكم الحال اخرجوا من مصر!. اليوم أنا أقف على أرض وطني ومعي ابني، أما مبارك ونظامه فقد رحلا! بينما كانت الأم الشجاعة تتحدث بفرح، كانت الموسيقى تصدح بالقرب منها فنسمع صوت آلاف المصريين وهم يرددون أغنية “الجدع جدع والجبان جبان”.
وفي لبنان يتخذ الشباب الموسيقى وسيلة للتعبير عن كراهيتهم للطائفية وحلمهم في بلد خال منها، أما في تونس فالثورة قد تحققت والموسيقى لعبت دورا فيها وأحد مبدعيها مغني الراب محمد بن سالم يغني بلهجته المحببة أمام الكاميرا وتعبيرا عن رفض الناس لمبدأ الصمت عن الظلم: “ساعات نخاف.. نخاف من ربي.. خاطرني سنين ساكت على حقي”. ولم يعد الناس ساكتين عن حهمق كما جاء في مقدمة “صمت صفر”: “لأن، بعد كل هذا لم يعد الصمت خيارا”.