الوثائقي والهواة والثورة

الراحل الطاهر شريعة

المهرجان الدّولي لفيلم الهواة بقليبية “أقدم المهرجانات العربية. بدأ سنة 1966 محتشما وهاهو يعقد دورته السادسة والعشرين من 3 إلى 10 سبتمبر 2011. ودورته هذه هي أوّل دورة يعقدها المهرجان بعد ثورة 14 جانفي التي كامت فجر الربيع العربي.
 تشرف على المهرجان أعرق جمعية أهلية للسينمائيين الهواة في إفريقيا والوطن العربي وهي الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة المتناثرة نواديها عبر البلاد. ومما يميز هذه الجامعة وهذا المهرجان  هو الاستقلالية والحرية في التعبير وتخطي الحواجز حتى أن المهرجان يعرض أفلامه دون المرور بمصلحة الرقابة على الأفلام وذلك يشكل تقليدا أرساه الشاذلي القلبي أول وزير ثقافة في تونس المستقلة الذي كان يرى في السينما أداة فنية فاعلة وقد أكد ذلك في مقال شهير أتى كافتتاحية العدد الثاني من المجلة السينمائية “المسرح والسينما” التي أسسها المرحوم الطاهر الشريعة أب السينما التونسية.
ويعتبر المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية كسوق عكاظ بصري تتقارع فيه تجارب الهواة الباحثين على طرق تعبيرية حرّة وبديلة… وها هو اليوم يعقد دورته الأولى بعد الثورة التي شارك فيها في يوم  14 جانفي أمام وزارة الداخلية جلّ أعضاء الجامعة التي كان مقرها مقابل الوزارة الرمز ـ رمز القمع والمنع والفساد.
وانفتح المهرجان منذ عدّة سنوات إلى جانب المسابقة الوطنية والمسابقة الدولية على مسابقة خاصة بأفلام المدارس.
كان كاتب هذه السطور ينظم دوما ورشة تدريب على الوثائقي منذ25 سنة و يبحث دوما في المهرجان عن مخيال الشباب الذين مرّوا عبر تلك الورشة وكانت كل سنة النتيجة مفرحة. لكن ولا ندري عند مشاهدتنا لأفلام هذه الدّورة لماذا كانت هذه المفارقة لما بدت أفلام هذه السنة، أقصد الوثائقية ، وكأنها  تاركة نوعا من الحسرة إلا في ما قل وندر.
كانت هذه الأفلام كما يلي:
الأرواح المحترقة ـ  إخراج جهاد بن حسين (40’26 د)،  الثورة في عيون الأطفال ـ إخراج شكري العرفاوي ونجوى خشيمي (5د) ، الأرضية التحتية ـ إخراج زياد ليتيم (20’9د) ، على الطريق ـ إخراج عدنان المدّب (8د) ، شوشة أغنية المخيم ـ محمد خامس شاود(45’10) ، ولد حومتي ـ إخراج هدفه بن يوسف (5د)  ، الطريق ـ إخراج أيمن عيسى (11’12) كما تم عرض فيلم محترف وهو من لمخرج سينماتي ورجل تلفزيون عمل السنوات في قناة أوربيت وهو فيلم “الصور المتحشرجة” إخراج الحبيب المستيري (5د) عن تاريخ هواة السينما.
ماذا قدّمت هذه الأفلام؟

الوثائقي يحتل نهائيا مكانته
كانت الأفلام الوثائقية مستبعدة من مهرجان قليبية ومن مخيلة الهواة وذلك لعدّة سنوات ومرجع ذلك هو أن السينمائيين الهواة كانوا تواقين إلى التجريبية وإلى خطاب سينمائي مخالف للمحترفين وبديل عن السائد وربما ترجع نزعة الهروب من الوثائقي لما كانت للأفلام الوثائقية في الستينات والسبعينات من وجهة دعائية وتلميع صورة الدولة.
غير أنه في عام 1973، عندما كان صاحب هذا المقال عضوا بلجنة التحكيم في هذا المهرجان  دافع على فلم عنوانه الغربال وهو من إخراج شاب هو اليوم تحت العدالة أعني المهدي مليكة ابن أخت زين العابدين بن علي وكانت تمثل فيه أم الرئيس التونسي المخلوع ولم نكن يومها نتصور ما سيحدث بتونس منذ 1987 وهذا في حدّ ذاته موضوع فلم وثائقي وقد دافعت على ذلك الفلم بإيماني بالوثائقي… وها هو اليوم يصبح نصف إنتاج الهواة وثائقيا وهذه السنة جله حول ثورة 14 جانفي .
وهذا نصر في حدّ ذاته لأنّ أجمل مخزون للتراث عن طريق البصريات لا يمرّ إلاّ عبر عيون الشباب الخصبة وأساسا عن طريق الوثائقي.

الوثائقي الفائز بثلاث جوائز

حسرة … وانتظار
من بين هذه الأفلام ما هو مكتمل ومنها المتحشرج ومنها البسيط والسهل الممتنع وكلها تصب في ساقية واحدة وهي ساقية البحث عن متحف افتراضي للثورة عن طريق الصورة وهذا في حدّ ذاته مكسب.
فيلم على الطريق وهما اثنان ألأول لعدنان المؤدّب أتي بسيطا متعثرا وغير مكتمل وكأنه مجموعة من اللقطات بدون فكرة ولا منهج بل يعتمد  كما أتى في فيلم المحترف حاتم بن الشيخ لا خوف بعد اليوم الذي يعرض اليوم في شاشات باريس،  يشبه نوعا من الانقضاض على الثورة بصريا.
أما الفلم الثاني على الطريق لمخرجه الشاب أيمن بلحسين فقد أتى فيه من الغضاضة والرهافة ما جعله يتميز لأنه نابع من تجربة لأن المخرج كان يعمل ضمن جمعية تجمع القوت والغذاء للعائلات التي كانت تأوي المهاجرين الليبيين بالجنوب وصاحب عملية نقل المعونات من تونس إلى المدينة الصامدة  ذهيبة على الحدود التونسية الليبية وصور أكثر من عشر ساعات واختار منها بعض الدقائق الحلوة ـ المرّة التي أتت وكأنها “صوناتا” جميلة ومتواضعة وكل ذالك بصفر من المليمات. طوبى لهذا النوع من المخرجين الشبان.
وانفرد فيلم الثورة في عيون الأطفال إخراج شكري العرفاوي ونجوى خشيمي بفكرة بسيطة وذكية وهي التحوّل إلى مدينة الرقاب، إحدى معاقل الثورة، والقيام باستجواب الأطفال فكانت الكلمات متعة في العذوبة ولمحة من فلسفة الأطفال.
وإن كانت الأفلام الأخرى تتأرجح  بين العادي أو التجريبي الساذج فإن فيلم الأرواح الملتهبة لمخرجه جهاد بن سليمان بدا تحفة وعملا متكاملا أدى بالفلم للحصول على ثلاث جوائز (الجائزة الثانية للمسابقة الدولية، وجائزة النقاد وجائزة قدامى الهواة)
والفلم بكل بساطة يسجل لهفة مواطني مدينة حمام الأغزاز أين يوجد النادي الذي أنتج الفلم لإطفاء حريق شب بغابة دار شيشو المجاورة التي كانت بمكانة كارثة في الوطن القبلي وقد كان الفريق  يطفئ النار بيد ويصور النّاس يحاربون النار باليد الأخرى.
 الفيلم قطعة ثمينة من الصدق والصدقية وما يجب أن يكون عليه الوثائقي،  فيلم جدير بأن يعرض على كل القنوات العربية لو ساعدته إحداها على تمويل إعادة التركيب وإثراءه.

هذا هو المشهد الوثائقي في مهرجان قليبية الدولي لفيلم الهواة.. تموقع في التاريخ وصدق في الأداء وبحث عن تعبيرية طازجة.


إعلان