أفلام وثائقية في الأسبوع الأول من مهرجان فنيسيا

 ليس مهرجان فنيسيا بالمهرجان المتخصص في أي نوع، لكنه يحتوي كل عام على عدد ولو محدود من الأفلام الوثائقية والتسجيلية وأخرى كرتونية وتجريبية. والمتابع للأسبوع الأول من هذه الأفلام يلاحظ تنوّع المواد والنصوص والأساليب والأهداف على نحو يجعل المراقب يعيش عالماً بانورامياً شبـــه كامل.

نحو الهاوية: حكاية موت، حكاية حياة.

فيلم “نحو الهاوية”

Into the Abyss: A Tale of Death, a Tale of Life

المخرج الألماني ?رنر هرتزوغ مخرجان في واحد. نصفه روائي والنصف الآخر غير روائي. النصف الأول والثاني يتلاقيان بالطبع في صفات فنية وتقنية عدّة، لكن أعمال هرتزوغ غير الروائية ليس عليها أن تسبر غور الحقيقة بإعادة ترتيبها ذلك لأنها هي الحقيقة. بالتالي لا تبحث عن الحقيقة كشأن العديد من مخرجي الأفلام الوثائقية والتسجيلية، بل تتبنى الحقيقة كما يراها المخرج الذي يعتبر أعماله، بالضرورة، انطلاقا نحو آفاق تتجاوز الموضوع المباشر لأفلامه.
هنا في فيلم أنجزه قبل بضعة شهور وقدّمه أوّلاً في مهرجان سندانس مطلع العام الماضي والآن هنا في فنيسيا، يتابع هرتزوغ موضوعاً يعني البعض كونه يتّصل بموضوع مطروح منذ عقود حول صواب أو خطأ تنفيذ أحكام الإعدام. ويعني سواهم لأن المخرج يطرح ما ورائيات هذا الموضوع  مسألة الموت والحياة كمعادلة من حق الفرد تقريرها حتى ولو كان مجرماً.
لتحقيق هذه الغاية، ينتقل إلى سجن بلدة تكساسية اسمها كونرو ويقابل المساجين طارحاً عليهم أسئلة حول ماهية القاتل والقتل.؟ متى يرتكب القاتل جريمته؟ في أية لحظة من انفعاله ومتى يفقد صوابه أو رزانته هل يحدث ذلك تدريجاً أو على نحو مفاجئ ؟؟..  وبالتالي يبتعد هرتزوغ عن طرح المسألة عبر استجواب فريق كبير من المدنيين والإداريين والمعنيين ومعرفة آرائهم. إنهم لا يعنونه. يدخل السجن ��لا يخرج منه إلا ومعه مواد تتحدّث عن فعل القتل ذاته كيف يُرتكب ولماذا ؟ في أحد المشاهد يقول لسجين “أنا لست هنا لكي أكون لطيفاً معك”، وهذا صحيح، لأن هرتزوغ لا يريد تقديم شخصيات تثير العطف والتعاطف… لكن هذا العزوف هو بحد ذاته مشكلة، حيث لا تتحقق الفائدة المرجو من المخرج، وهي مناهضة قانون الإعدام.
 ما يقوم به المخرج الألماني، هو الطريق الصعب لإقناع المشاهد بأن قانون الإعدام لا يجب أن يطبّق بعد اليوم فهو يوفّر المجرمين بلا أعذار، لكنه يصر على أن لا شيء مما قاموا به تم بمحض إرادة شريرة. وهذه المسألة هي بحد ذاتها مسألة تدعو للنقاش

Wilde Salome

فيلم “وايلد سالومي

هذا فيلم مستوحى من نص الكاتب أوسكار وايلد “سالومي” ومن هنا العنوان  أخذ عنوان “وايلد سالومي”. هو فيلم يتناول مراحل تصوير فيلم يتم تصويره عن مسرحية. في الوقت ذاته هو بحث متعدد الاتجاهات تتقصّد المزج بين ما هو روائي وبين ما هو تسجيلي من دون أن يكون الفيلم مائة بالمائة روائياً أو مئة بالمائة تسجيلياً.
آل باتشينو، مخرج هذا الفيلم، يصف عمله بأنه رحلة ذات أكثر من اتجاه. وهذا حقيقي تماماً. الفيلم يعمل في ثلاثة اتجاهات:  الأول هو تقديم العمل المسرحي الذي يتم تجهيزه. إنه المسرحية الماثلة التي تتوالى طوال خمسة أيام والتي يعالجها المخرج باتشينو كحالة إنتاجية أوّلاً، ثم، وفي ثلاثة أرباع الساعة الأخيرة، كنص. هنا يعمد إلى ذلك الفصل الذي يدور حول سالومي (جسيكا شستَين) وهي ترقص لزوج أمّها حيرود (آل باتشينو) رقصة فاتنة حسب النص الإنجيلي المعروف.
الاتجاه الثالث يتبلور عن اهتمام باتشينو المخرج  بأوسكار وايلد الكاتب، حيث يوفّر باتشينو هنا بحثه الخاص للكاتب الذي مات باكراً (عن 47 سنة) والذي وصف نفسه قائلاً بأن شهوته العاطفية هي التي أدّت به إلى تدمير حياته. وهو بذلك يتحدّث عن علاقته بشاب تحوّلت إلى أسباب المحاكمة التي تعرّض وايلد إليها في العصر  الفكتوري والتي انتهت بالحكم عليه عامين سجنا.
الاتجاه الثالث: هو بحث ذاتي وهذا البحث ينقسم إلى قسمين:  واحد ينهل من النص الأصلي ومن الشخصية التي يؤديها ما يرسم به حياته الخاصّة مقترحاً (وليس محدداً) بأن مثلية الكاتب قد تكون في داخل باتشينو من دون أن يمارسها ومؤدياً شخصية حيرود في المسرحية على نحو قد يعكس أيضاً وضعاً جنسياً معيّناً (Bi- Sexual) ألزمه وايلد به.  القسم الآخر هو الذي يبدأ باتشينو به وينتهي: فنان لا يزال يبحث عن هويّته العامّة وعن دوره الكامل في الحياة.
هناك مشهد نرى فيه باتشينو يأكل وجبة سريعة. بعض الطعام  يبقى على ركن شفته  قبل أن يلعقه ويستمر، لكنه بعد قليل يسأل من حوله: “أليست هناك مناشف؟”. السؤال ما مر، بلا ريب، على غالبية المشاهدين من دون تعليق، لكن المقصود منه، ومن المشهد بأسره واضح ويحتاج إلى وقفة: باتشينو هنا يصف وضعه اليوم: نجم من الأمس، مضطر في أحيان كثيرة ليمثل أفلاماً استهلاكية لا تعني له ولعشّاقه ولفنّه أي شيء، وحين يجد الفرصة لتحقيق فيلم يعنيه كهذا الفيلم، فإنه لا يُعامل كنجم ولا يحظى بالاهتمام نفسه. إنه كما لو كان يشكو وضعاً لفنان يضمحل.
في النهاية، ها هو باتشينو يرتدي غطاء رأس قد يكون شبيهاً بغطاء رأس الملك حيرود فوق بذلة عصرية ويمشي في صحراء ماهو?ي في كاليفورنيا وقد قرر أن شيئاً لا يزال ينقص الفيلم (كما يقول لمنتجيه في المشهد السابق). ما يفعله هذا المشهد هو أنه يعيد لمن شاهد فيلم باتشينو السابق “البحث عن رتشارد” يلاحظ ما يتفاعل في ذات هذا الفنان من أهمية البحث عن نفسه ودوره. رسالة نجدها في أكثر من فيلم أو نسمعها معلنة من أكثر من مخرج هذه الأيام.

فيلم “دايانا فريلاند”

دايانا فريلاند: العين عليها أن تُسافر
Diana Vreeland: The Eye Has to Travel

دايانا فريلاند هي رئيسة تحرير مجلة “هاربرز بازار” النسائية  لخمس وعشرين سنة قبل أن تنتقل إلى مجلة “فوغ” لسنوات عديدة أخرى. وقفت وراء نجاح المجلّتين نجاحاً كبيراً من الثلاثينات، وهذا النجاح ليس مجرد أرقام توزيع بل أيضاً صرح للمرأة لكي تجد لنفسها الأسلوب الخاص بها في زمن كانت المرأة فيه لا زالت محافظة، طوعاً أو اختياراً، على أركان اجتماعية تقليدية قلّما خرجت منها.
فيلم حفيدتها ليزا إموردينو فرلاند هو سيرة بيوغرافية عن المرأة التي تركت بصمتها على فترة زمنية ما عادت بيننا الآن. فترة كان المرء يجد بين غلافي المجلة كل ما يبحث عنه بالإضافة إلى مفهوم احترافي كامل  يتعرّض اليوم لاهتزاز شديد بسبب انتشار المواقع المختلفة على الإنترنت.
ومع أن الفيلم ليس عملاً فنيّاً من مستوى معيّن، إلا أنه سلس ومفيد في اتجاهاته. عليك أن تكون صحافياً لكي يُثير اهتمامك، وأن ترغب في معرفة الناس الذين تركوا بصمات على الزمن الذي كنت تترعرع فيه حتى يبقى في بالك.  هنا ينجح الفيلم في تكوين الصورة الكاملة عن موضوعه ويواصل البحث عما آلت إليه دايانا من شهرة واحترام الأوساط الفنية والإعلامية لدرجة أنها حين أقالتها مجلة “فوغ” سارع متحف الفن النيويوركي إلى تعيينها مسؤولة المتحف. وهي ردّت المعروف بأضعافه محدثة ثورة في عالم التصميم. وكان أحد عناصر التغيير الذي أحدثته هو العودة إلى حبّها الأول: الملابس وفن تصميمها جاعلة من بعض التصاميم التاريخية سبباً آخر لزيارة ذلك المتحف.


إعلان