جان فيغو : الصورة الوثائقية من صنع الممثل أيضا

حقق المخرج الفرنسي الشاب جان فيغو “ 1905 – 1934 “ في حياته القصيرة أربعة أفلام فقط. فيلمان وثائقيان : “ حول نيس  “ 1929 – و” تاريس “ 1931 ، وبالطبع هناك فيلماه الروائيين “ صفر على السلوك “ 1932 – و” أتلانتا “ 1934. أربعة أفلام و” مجد ” حياة قصيرة كأنها اقتطعت خلسة من شمس الغيب، ولم تنذر صاحبها بقرب أفولها أو انشطارها بين ماهو جحيم أرضي مفترض، ولعنات لا تفارقه، شأنه شأن مواطنه جان أرثر رامبو، إن أردنا أن نبحث عن سميّه، ونسميه، في قاموس الفن الخالد. أربعة أفلام كانت كافية لتحجز له مكانا رفيعا تحت قبة الفن السابع. مات شابا مبكرا وهو لم ينتظر من حياته الآفلة مبكرا سعادة الاعتراف به. لم يذق هذا الطعم في أيامه الشقية التي عاشها مكربا وتعسا وقلقا بالكاد يجد ساعة هناء واحدة ليغمض فيها له جفن متعب وقلق لا يلبث يحوم في ساعات الليل والنهار من حوله . أفلامه  أصبحت معروفة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أخذ السينماتيك الفرنسي على عاتقه مهمة البحث والتحقيق في نتاجات سينما ما قبل الحرب. وكانت قد تحملت حكم الزمن دون رحمة، وهي حفظت ذلك الجزء المنير الخفي لجان فيغو، الذي لم تسمح أوضاعه الحياتية من أن تظهره مرة واحدة.
في بداية ثلاثينات القرن الماضي التي وصفت بالسنوات العجاف في السينما الفرنسية كان يكفي ظهور فيلم ليصبح حديث الأوساط الفنية والثقافية والسينمائية، ويتم الاعتراف به وتتويجه بوصفه حدثا غير مسبوق. نتاجات جان فيغو تحفل بأسلوبية “ المراقبة المستمرة “، وهو صاحب نظرة حادة في التمعن بالفروقات الاجتماعية، حتى أن أحدا من رجالات السلطة أو الأغنياء في ذلك الزمن الصعب لم يسلم من الشرر المتطاير من هذه النظرة، فهو لم يوفر أحدا إطلاقا. ما دفع بهؤلاء إلى محاولات إخماد صوت هذا الفنان في المهد، وربما نجحوا إلى حد ما في تغييب أفلامه فترة من الزمن قبل أن يبدأ الناس تدريجيا بالتعرف إليها في النوادي السينمائية.

فيلم أتلانتا

ولد جان فيغو عام 1904 في عائلة تعود إلى الفوضوي المتمرد المعروف باسم ألميريدا. وهو قد عارض الحرب ومات ميتة تراجيدية في السجن. وعرف فيغو الابن الشقاء والعوز والحرمان كما لم يعرفهم طفل في مثل سنه. وقد ظهرت ذكرياته الأليمة عن تلك الفترة في أول فيلم له، ما دفع النقاد والمؤرخين إلى الحديث عن تناقضات وشروخ نفسية حادة يعاني منها فيغو جراء الاضطهاد الذي لحق به. في كتابه الأشهر “ تاريخ السينما في العالم “ قال جورج سادول إن فيلم “ حول نيس “ هو قوة تهديمية ضخمة غير مسبوقة، وأول فيلم وثائقي ذي صبغة اجتماعية، ولم يشكل بروتوكولا سينمائيا جديدا وحسب، بل ظهر بوصفه تغطية مثيرة لما يحدث حول فيغو، فهو لم يتورع من تكريس التناقضات في عمله هذا : الزيارات الكرنفالية، والتراسات المشمسة بالمقارنة مع الفقر المرعب في المدينة القديمة. وقد وجد الشاب فيغو في قدرة الكاميرا على التوثيق إمكانية هائلة في كشف هذه التناقضات في الوضع الاجتماعي القائم آنذاك. وقد تمكن بحذق من أن يظهر الحياة دون تنميق أو تزويق وبفنية محلقة صانعا من اللغة السينماتوغرافية الخاصة به “ الأنا العليا “ التي تتحكم في رمزية هذا الزمن، وقد أخذ على عاتقه أن يرويه لنا في أفلامه، كما لو أنه محض مطابقة له مع تصوراتنا عنه في أسلوبية سينمائية رفعت من سوية المنتج الفني الذي يقدمه  فيغو هنا . ولو أردنا أن نبحث عن دليل يقوي من هذا الكلام، فإنه يتوجب علينا أن نختار مقدمة  فيلم “ صفر على السلوك “. يسافر مواطنان عائدين من قضاء عطلتهما، وما يفعله فيغو معهما هو تحديد الحالة الاجتماعية الخاصة بهما منذ اللقطات الأولى عند أعلى مستوى. وفي هذه الوضعية السينمائية الخاصة يظهر تدريجيا عنصر الغموض والفانتازيا في الحكاية. المسافران لديهما قدر فجائعي يحاكمان الأشياء من خلاله، فيما بقية المسافرين، وهم فتيان يدخنون السجائر ويتحدثون عن ألعابهم. الوضع من حول الجميع يزداد تعقيدا، وتفقد الموضوعات أهميتها الواقعية بالتدريج. أما النظرات الجانبية للأولاد، فإنها تتحول إلى نظرات جوانية. هذا لم يعد العالم الذي يحيط بهم، وانما تصوراتهم عنه. هنا يكمن جوهر أسلوب فيغو في الثقة المحضة بين تأهيل للفانتازيا والواقعية في توحيد بليغ لما يمكن أن يقدم عليه هذا المخرج صاحب الأسلوب الغامض والمدهش.
بعض مؤرخي السينما يعتقدون أن فيلم “ سلوك على الصفر “ يعكس طفولة جان فيغو المعذبة. وهو يغص بذكريات حيّة عن الإجحاف والاضطهاد الذي لقيه في المدرسة من المدرسين والخوف الدائم من العقوبة وقلة الطعام يغذيها نزوع طفولي نحو تمرد فوضوي. هنا فيغو كان يتحرك على حد السكين، ويتأرجح بين التوثيق الواقعي الحي والسوريالية المحضة، ولم يكن يشعر بالامتلاء من كلتا الحالتين، فدائما كان يغير من وجهة نظر الكاميرا حتى في عز انشداه إلى أسلوبية تقع بينهما. هذه هي حياة جان فيغو يعكسها من خلال وجهات نظر الأطفال الذين يظهرون في ملامح فانتازية محكمة. كل ما سيحدث في الصور التالية سيضيف أفعالا غرائبية على مجرى الأحداث: قمصان بيض للطلاب، وقطن أبيض يتطاير من المخدات مثل الثلج الأبيض.” صفر على السلوك ” يقف ضد النظام التعليمي الفاسد وسلطة الدولة، وهو فيلم بمحتوى جديد يظل جديدا طالما أنه يصبح مجهولا بين الفينة والأخرى، وهذه لا تصح إلا في حالة فيغو نفسه.

بالطبع أعيد اكتشاف الفيلم الروائي الآخر “ أتلانتا “ بعد الشقاء الذي حلّ بـ “ صفر على السلوك“، فقد وافق فيغو على تحقيق سيناريو مستلهم من أدب الرصيف. جولييتا زوجة  شابة لقبطان ترافقه على متن مركبه، وهو يريد أن يأسرها في عالمه البحري، وبالرغم من أن مظهره ليس جميلا، وهو فظ وخشن وأحيانا يجن من تصرفاتها، ولكنه صاحب قلب طيب لا يريد منها سوى الانتصار لعالمه، ولكنها لا تحتمل، فعند أول فرصة سانحة تغادر البحر إلى أضواء باريس وتغرق فيها مع أول شاب تصادفه بعيدا عن عوالم  جول. السيناريو سمح لفيغو بالبحث في جوهر سينما “الأفانغارد”، وبالرغم من  رغبة السيناريست في أن يعكس الفيلم المحتوى الاجتماعي للحكاية، حوّله المخرج إلى وثيقة حقيقية عن المجتمع والزمن، وظهرت الملامح الخاصة بأبطاله ممتلئة ودقيقة، وظهرت وجوهم قوية بما يكفي للقول إن علاقة فيغو بممثليه كانت تعكس أسلوبية جديدة في كيفية التعامل مع الممثلين من خلال تعاطيهم مع رموز واقعية محضة، وبرؤيا أقل ما يقال فيها إنها رمزية بحتة.

من فيلم صفر على السلوك

يمكن القول إن فيغو آمن بالمشاعر الطيبة للناس العاديين، وفي عزلتهم من الحياة نفسها، واستطاع أن يكتشف واعيا “شعرنة” الحياة اليومية من خلال مراكمة القسوة في التفاصيل، وتمكن من رسم صور قاتمة  للعاطلين عن العمل الذي كان يصورهم أحيانا بكاميرا خفية. لقد تمكن فيغو من تصوير عالم الرغبات بين حدي الواقع والخيال، وخلط كل ذلك في وحدة شاعرية وجمال روحي يخفي وراءه وجوه البسطاء والناس العاديين فقط. ولا يمكن القول إن أفلامه قطعت خيوطها مع التوجهات الجمالية للأفانغارد في عشرينيات القرن الماضي. بل وجاء المحتوى الاجتماعي لأفلامه غارقا في بحر من التناقضات الحادة، وهذا دفعه أكثر للغرق في الهام شاعري ونظرة غنائية حارقة، لايبزها سوى تعقيدات التوثيق الفانتازي والتفضيلات السوريالية التي كانت تعكس إشارات مقلقة وتمرد فوضوي وشعور عارم بعدم الرضا.
ظل جان فيغو منغلقا على ذاته أكثر من أي مخرج فرنسي آخر. لم يكن في وضعية مفرحة ليبتسم ويراوغ مشاهديه. ربما لم يهتم بكل تلك الوضعيات التي ينشدها المخرجون الآخرون من تملق هؤلاء المشاهدين، كتلك التي بحث عنها مثلا رينيه كلير في كوميدياته، فيما ظل هو يغرق في “سلام” رعب داخلي، والشيء الوحيد الذي يجب أن يقوم به مشاهد أفلام هذا الشاب التعس هو تملك إحساسه العظيم بالسينما، فهو لم يوفر طريقة  للغرق في واقع مرتبك وقاس وعنيف ومتوحش عن طريق الإحساس الشاعري الملهم بقوة الصورة الوثائقية حتى حين تكون من صنع ممثلين وممثلات.


إعلان