“المحقق البنغالي”.. رجل نادر الوجود!

وثائقي عن ذوات متفردة تتقاسم الحلاوة والمرارة

قيس قاسم ـ السويد

المحقق البنغالي الخاص، راجيش جي، رجل خاص، كائن مجبول على الحب ومساعدة الناس، يتوفر على قدرة في التعبير عن مشاعره بصدق وحرية لا تتوفران في كثير من البشر، ناهيك طبعاً عن عدم توفرهما في المشتغلين بمهنة خطرة تتطلب على الدوام  صرامة وقسوة قلب. العثور على رجل بهذة المواصفات بالنسبة لمخرج سينمائي يفكر في عمل وثائقي عن المحققين الخاصين في مدينة كلكتا الهندية مثل العثور على جوهرة بين كومة فحم! ليس هذا فحسب، فثمة خصال وتجارب شخصية مؤلمة ستجعل من مرافقة هذا الكائن اكتشافاً لذوات متفردة تتقاسم في اللحظة الواحدة؛ الفرح والحزن، الحلاوة والمرارة.

يدخل المخرج البريطاني فيليب كوكس وفريقه عالم راجيش جي من بوابة مهنته كمحقق خاص في مدينة كلكتا، عاصمة ولاية البنغال الغربي، بملاينها الخمسة، ومن خلالها أيضا، يدخل الى عالم المدينة السفلي والذي قلما يُسلط الضوء عليه، حيث الجريمة منتشرة وأجهزة الشرطة وبيروقراطيتها عاجزة عن الحد منها، ولهذا فمهنته مبنية أصلاً على ضعف دور تلك المؤسسات وانعدام ثقة الناس بها، واضطرارهم بسببها الذهاب الى المحققين الخاصين بدلاً عنهم. لتأمين رزقه اليومي يقبل راجيش بأنواع المهمات؛ من البحث عن مرتكبي جرائم القتل الى كشف الخيانات الزوجية مروراً بملاحقة المتجارين بالبضائع المغشوشة. بطبيعة المهنة الخطيرة ومحاولة تسجيل ثلاث حالات تولى المحقق البنغالي وفريقه الصغير الكشف عنها، إضطر مصورو الوثائقي البريطاني البنغالي المشترك الى التخلي عن كامراتهم أثناء إقترابهم من “الأهداف الخطرة” مكتفين بالصغيرة المخفية منها، وقد أدت عملها بشكل رائع وأسهمت في توفير عناصر التشويق فيه. 
من المفارقات، التي ظللت فيلم “المحقق البنغالي” بظلال الكوميديا، على ما فيه من سوداوية كافية، أن فريق عمله كثيراً ما كان يخفق في تنفيذ مهامه، ومع هذا ظل يعاملهم كأصدقاء، يعرف جيداً أن سبب فشلهم غالباً ما يكون؛ حماستهم الزائدة وقلة درايتهم وإحترافيتهم، وبالنسبة اليه هم في النهاية أعضاء فرقته الفنية التي أقنعهم بالانضمام اليها للمشاركة في إحدى مسابقات العروض التفزيونية مع كل جهلهم بالرقص والغناء. مجاراتهم له كانت تعبيراً عن امتنان وحب، ومشاركة في تحقيق حلم “فني” قد يعوضه نفسياً عن خسارته الشخصية ويخفف قليلاً حزنه العميق على مرض زوجته التي أحبها وظل مخلصاً لها رغم الخراب الذي بدأ ينتشر في جسدها بعد أيام قليلة على زواجهما. لقد ابتلت الزوجة بمرض السكري الحاد وبدأت وظائف جسدها بالتلكأ والعجز شيئاً فشيئاً، حتى أصيب بالعمى الكامل وعجز في الكليتين، وكما في الأفلام الرومانسية الهندية، وهذة المرة في الواقع، ظل يحبها ويعمل المستحيل من أجل شفائها، فخسارتها كانت تعني له خسارة عالمه الرومانسي الجميل، وترك آثار حزينة على حياة ابنه الصغير، الذي أراد له حياة أحسن من حياته وأكثر سعادة.

في إجلاء تشابك العلائق المجاورة للشخصية المركزية، يعطي فيليب كوكس مساحة كافية لفساد مؤسسة الشرطة البنغالية وعلاقتها بالمتنفذين من رجال الأعمال والأثرياء، مع تسجيل سريع للتشوه الاجتماعي الحاصل نتيجة الميل الحاد لمسايرة التغيير الاقتصادي الموعود في الهند. في المقابل وإخلاصاً لوظيفته يجد الرجل النادر نفسه موزعاً بين تعاطفه مع من يلاحقهم أحياناً وبين آخرين لا يمكن له مجاراتهم، وقصة صاحب المتجر الصغير، التي سجلها الوثائقي وظل يتابع تفاصيلها، تزيح اللثام عن إشكالية المجتمع الهندي المتصارع داخلياً، من خلال واحدة من عملياتهم الناجحة والتي تمكنوا فيها من ضبط كميات كبيرة من شامبو لتنظيف الشعر مستنسخ عن آخر أصلي، كلفتهم الشركة المنتجة له بالكشف عن عمليات بيعه غير الشرعية. قُدم صاحب المحل إثرها الى المحكمة وسجن تاركاً وراءه عائلة كبيرة دون معيل كما تُرك الموزعون الكبار، الذين باعوا له الشامبو المغشوش، أحراراً ودون حساب. وعلى مستوى العلاقة بين الناس أنفسهم تشير طلبات زبائنه الى اتساع عالم الجريمة بينهم والميل الى العنف كحل لمشاكلهم على عكس ما يشاع ظاهراً من سيادة روح التسامح الإجتماعي والديني، لدرجة يبدو فيها تعاطف المحقق وحماسته مع ضحاياها كنوع من “الرهبنة” أقرب منه الى سلوك رجل تحريات خاص يتعامل كما يفترض بتجرد عاطفي. وفي تَبايّن نظرة أعضاء فريقه لكل حالة وقضية تتكشف سعة الإختلافات الثقافية والخلل الحاد، بشكل خاص، في العلاقة بين الرجل والمرأة، والتي غالباً ما تكون الأخيرة ضحية لثقافة تؤسس بقوة وتبرر استغلالها، ومن هذة الناحية تبدو علاقة راجيش جي بعائلته كنموذج متفرد قليل التكرار في مجتمع ينتج  موضوعياً لفقره وكثرة مشاكله الأخرى عينات نمطية، تنحو نحو خلاص ذاتي مبطن بورع ديني وقبول بالمكتوب الإلهي، وربما كان واحداً من الدوافع القوية لإختياره “بطلاً ” للوثائقي هي تلك الخصال الحميدة والروح الطيبة الكامنة داخله!
تزامن وفاة زوجة راجيش مع زمن تصويره، أعطى شحنة درامية قوية للوثائقي ودفع كوكس للبقاء وتسجيل ما تبقى من حياة الرجل الذي خسر زوجته وخسر أيضاً مسابقة الرقص. لم يبق له سوى ولده اليتيم. سوف نرى الأب وولده سوية في كل المشاهد الأخيرة من “المحقق البنغالي”. سنراه وهو يلاعبه ويساعده في اتمام وظائفه المدرسية ويخرج معه في المتنزهات وفي مشاوير نهرية كان يوماً ما يقضي مثلها أسعد الأوقات مع حبيبته! لم يبق للرجل الضحوك سوى ابتسامة معتادة وابن يمضي معه بقية العمر. ونحن لبرهة تقاسمنا معه العيش، وتذوقنا معه طعم الفرح والحزن سوية، وفي النهاية تركناه يكمل مشواره حيث لا أحد يعرف ما تخبأ له الأقدار.


إعلان