الاحتفاء برائد السينما السياسية

عدنان مدانات
بعد أن قارب المخرج الإيطالي فرانشيسكو روزي التسعين من عمره، وبعد أن أنجز عددا كبيرا من الأفلام الهامة، منحه مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي جائزته التكريمية لهذا العام، وهي جائزة الأسد الذهبي التذكاري. منح هذه الجائزة تقليد سنوي لتكريم مجمل أعمال مخرج سينمائي. هذا الجائزة ليست الأولى التي يحصل عليها روزي من مهرجان فينيسيا فقد سبق له أن فاز بجائزة الأسد الذهبي في العام1963 عن فيلمه الشهير” الأيدي فوق المدينة”، كما كان فيلم فرانشيسكو رزوي  الأول” التحدي”(1958) قد ترشح لنيل تلك الجائزة التي لم يحصل عليها في حينه لكنه بالمقابل نال إعجاب الجمهور والنقاد الذين اعتبروا انه أعاد الإيمان مجددا بالسينما الإيطالية.
جاءت أفلام فرانشيسكو روزي الأولى مباشرة بعد موجة الواقعية الإيطالية الجديدة التي اعتبرت إنجازا مهما على صعيد الإخراج الذي نقل الأفلام الروائية من العالم المصطنع للأستوديو إلى العالم الواقعي بكل ما يمثله ذلك من تغيير في طبيعة المواضيع وأساليب السرد وحتى استخدام الممثلين الذين لم يجري اختيارهم من بين الممثلين المحترفين بل من عامة الناس، كما كان عليه الأمر بالنسبة للفيلم الأشهر بين أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة” سارق الدراجة”(1945)، الذي اختار المخرج فيتوريو دي سيكا لبطولته عاملا عاطلا عن العمل ليمثل دور عامل عاطل عن العمل.
تأثر فيلم فرانشيسكو روزي” الأيدي فوق المدينة” بالواقعية الإيطالية الجديدة، لكنه أيضا تجاوزها باتجاه التأسيس لنمط جديد من السينما، او منهج جديد، هو ما اطلق عليه صفة” السينما السياسية”. هنا لا بد من توضيح ما هو المقصود بالسينما السياسية، إذ غالبا ما يعتبر الناس و منهم النقاد أن كل فيلم هو سياسي بالضرورة وذلك انطلاقا من أن كل فيلم وإن لم يعالج موضوعا سياسيا، وبسبب من بنية مؤسسات الصناعة السينمائية، خاصة الأمريكية، والموقف الطبقي للقائمين عليها، يحمل، ولو بين السطور، رسالة فكرية لا تخلو في نهاية المطاف من مرجعية سياسية، غير ان روزي في فيلمه هذا تجاوز هذه الطروحات العامة وتمكن من التوصل إلى شكل خاص بالفيلم السياسي يمنحه هذه الصفة عن حق.

                  المخرج الإيطالي فرانشيسكو

يعالج روزي في فيلمه” الأيدي فوق المدينة” شركات البناء في إيطاليا والتي تهيمن عليها عصابة المافيا بالتنسيق مع كبار المسؤولين في السلطة الحاكمة. الموضوع إذن، سياسي بالدرجة الأولى، لكنه موضوع لا يعتمد على الحكاية فقط، بل يستند إلى الوقائع وتحديدا، يستند إلى الوئائق التي يستخدمها المخرج ضمن البنية الأساسية للفيلم، بحيث يزاوج الفيلم بين الدراما الروائية عبر الحكاية والمنهج التسجيلي عبر الوثائق. هذا الشكل من بنية الفيلم صار متداولا فيما بعد من قبل العديد من سينمائيي العالم، لكن سبق الريادة يعود لفيلم فرانشيسكو روزي هذا. تأكيدا من روزي على منهجه في فيلمه هذا يستعير من فيلم” سارق الدراجة” فكرة استخدام ممثل من عامة الناس غير محترف لكنه يطورها مضيفا إليها قيمة سياسية مباشرة وذلك عندما يعطي الدور الرئيسي في الفيلم لشخصية معروفة هوعضو في البرلمان، ممثلا عن الحزب الشيوعي الإيطالي، ليؤدي دور نائب في البرلمان يجري التحقيقات حول شركات البناء و يتصدى أثناء المناقشات الجارية في البرلمان لفضح العلاقة بين شركات البناء و المافيا وأركان السلطة الحاكمة.
طور فرانشيسكو روزي لاحقا في منهج” الفيلم السياسي” و ذلك من خلال فيلم” قضية ماتيه”(1973)، الذي يعالج فيه قضية احتكارات النفط العالمية وعلاقتها الاستغلالية للدول المنتجة للنفط، خاصة العربية، ونموذجها في الفيلم ليبيا. تنطلق حكاية الفيلم من حادثة سقوط طائرة رئيس شركة النفط ( أو الميتان) الإيطالية “ماتيه”حيث لاقى حتفه، وهي حادثة ثارت حولها الشكوك في انها متعمدة. كان ماتيه قد سعى جاهدا لبناء علاقة جديدة بين الدول المنتجة للنفط و بين الدول المستهلكة تقوم على إنصاف الدول المنتجة وتخليصها من هيمنة الاحتكارات العالمية المدعومة من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مما تسبب في حقدها عليه. في سبيل تجميع أكبر قدر من الحقائق و الوثائق حول حادثة سقوط الطائرة كلّف روزي أحد الصحافيين اليساريين بالتقصي وجمع المعلومات، لكن هذا الصحفي وبعد أن نجح في الحصول على الكثير من المعلومات تعرض بدوره للإغتيال. لا يقدم روزي في فيلمه هذا الذي يحتوي على إتهام صريح للسي آي إيه بالضلوع في حادثة سقوط الطائرة، دليلا موثقا يؤكد اتهامه، لكنه يقدم الكثير من الوقائع الت تدعم وجهة نظره التي سعى لأن تكون موضوعية. تأكيدا منه على موضوعية منهجه يظهر فرانشيسكو روزي بنفسه في الفيلم وهو يقوم بمتابعة تقصي المعلومات ويجري المقابلات مع الشهود ليستكمل ما حصل عليه من معلومات من الصحفي الذي تعرض للاغتيال.
أخرج فراشيسكو روزي مجموعة متنوعة من الأفلام بلغ عددها 15 فيلما، كان آخرها فيلم” الهدنة” في العام 1997، وكان الهم الذي تعالجه معظم الأفلام هو تأثير المافيا على الحياة السياسية والاجتماعية في إيطاليا، لكن هذا لم يمنعه من إخراج أفلام أخرى مختلفة مثل فيلمه الهام” المسيح توقف في إيبولي” أو الفيلم الغنائي” كارمين”.


إعلان