بين منجم سامي تليلي ومنجم باربرا كوبل
بداهة، إذا ما كانت الجائزة الأولى (جائزة اللؤلؤة السوداء) لمهرجان أبوظبي السينمائي في القسم التسجيلي ?ذهبت إلى فيلم «عالم ليس لنا» لمهدي فليفل، كيف يمكن تبرير جائزة “أفضل فيلم من العالم العربي” التي مُنحت إلى «يلعن أبو الفوسفاط» لسامي تليلي؟ ?
أو إقلب السؤال: إذا كان «يلعن أبو الفوسفاط» لسامي تليلي أفضل فيلم عربي تسجيلي، فكيف يفوز «عالم ليس لنا» بجائزة أفضل فيلم؟
كلاهما جيّد ومؤلّـف من تحقيق يجريه كل فيلم لموضوعه، لكن العمل الذي هو أشد التصاقاً بموضوع آني هو «يلعن أبو الفسفاط» في مقابل موضوع مستمر منذ أجيال فلسطينية ولبنانية كثيرة تعيش حالة الضنك والعبث الإجتماعي والإقتصادي الضارب أطنابه في كل صباح ومساء. فيلم سامي التليلي هو الأهدأ منوالاً وأسلوباً. شيء مهم في المعالجة التي اختارها هذا المخرج لموضوعه يقرّبه من قضايا أخرى طرحتها أفلام غربية سابقة تحدّثت عن موضوع العمّـال والحقوق المهدورة وتأثير ذلك على المجتمع العمّالي والمدني بشكل عام يحضرني منها الفيلم السويدي 31 Adalen والأميركي «هارلن كاونتي، الولايات المتحدة الأميركية.» Harlan County?,? USA?
«يلعن أبو الفوسفاط» يؤسس موضوعه سريعاً: الكاميرا تجوب المكان والوضع المعيشي الذي هو لبّ الموضوع. مناجم الرديف والحوض المنجمي التونسي كما كان وضعها سابقاً ولا يزال: فرصة استثمار وإثراء للقلّـة على حساب الغالبية. لقد تم تشكيل الكيان الإقتصادي القابض على هذه المصلحة: الخيرات هي للمستثمرين والعمل المضني والحياة المتقشّفة والعناء والمخاطر والفقر هي ما يجنيه العاملون في ذلك المنجم من أبناء البلدة والمنطقة.
يبحث الفيلم بعد تأسيس ذلك الواقع في حوادث العام 2008 كيف انطلقت. ما الذي دعا إليها؟ من الذي خاضها؟ وكيف ووجهت؟، وإذ تتلقّف، سمعاً وبصراً حقائق على الأرض تثير النقمة- أو على الأقل- السؤال حول كيف يمكن لمثل هذا الوضع أن يستشري ويخرج من طوره الإنساني سريعاً ليصبح وصمة إجتماعية على جبين أي من المتسببين به، تكتشف سريعاً أن المسألة لم تكن، في ذلك العام الحاسم التي انطلقت فيه التظاهرات الشعبية معادية للوضع السائد، مشكلة قائمة بين مالك ومملوك، صاحب عمل وعمّال، او أثرياء وفقراء، مكتفين ومحتاجين، بل سريعاً ما تدخّـلت فيه حكومة بن علي لتضرب بكل قوّتها المتظاهرين ولتبطش بقضيّتهم.

يكشف لك ذلك المخرج سامي التليلي من قام بمقابلتهم من الذين اشتركوا في المظاهرات، بعضهم قُـبض عليه والبعض الآخر هرب إلى الجبال يحتمي فيها من ذلك البطش. خلال ذلك، وحتى من قبل أن يعلن الفيلم، على لسان بعض متحدّثيه أن الثورة التي خلعت حكم الرئيس التونسي السابق لم تبدأ سنة 2011 بل وُلدت في ذلك المكان والزمان الذي يبحث فيه «يلعن أبو الفوسفاط». حينها أخمدت السلطة النار أو هكذا اعتقدت، لكن ما أخمدته هو ما ظهر منها وليس ما بقي مستعرا.ً
في هذا الفيلم تكتشف أيضاً موهبة مخرج يعرف ألفبائيات الأسلوب البحثي الصحيح للفيلم التسجيلي. تتكاثر الشخصيات التي تتولّى الحديث، لكن الفيلم لا يضيع بينها ولا تتزاحم المواقف بحيث يستطيع الفيلم أن يأخذ منها موقفاً حيادياً. نعم هو فيلم بأجندة سياسية كما يجب أن يكون وكما كان قبله عدد من الأفلام أهمها- على صعيد المقارنة على الأقل- فيلم باربرا كوبل «مقاطعة هارلن، الولايات المتحدة الأميركية.”
هذا الفيلم، الذي صوّرته المخرجة على سنوات، بدءًا من العام 1972، وخرج للعروض سنة 1976، وهي السنة التي نال فيها الأوسكار كأفضل فيلم تسجيلي، يدور حول وضع مماثل في لبّه: عاملو المناجم في مقاطعة هارلان، في ولاية كنتاكي قاموا بإضراب امتد ثلاثة عشر شهراً طلباً لأجور أفضل وسعياً للانضمام إلى اتحاد عمال المناجم. خلال هذه الفترة، وما سبقها من مسببات ثم ما تلاها من نتائج، نتابع مخرجة مؤمنة بدورها بالقضيّة التي تثيرها كما بعمّال ليس لديهم ما يخسرونه فوق ما خسروه من أوضاع معيشية. ولأن السُـلطة وأصحاب المؤسسات الإقتصادية عادة ما يتكاتفون في مواجهة أي وضع يهدد مصالح تلك المؤسسات، فإن المضربين عن العمل واجهوا هجوماً شرساً من قِـبل رجال الشرطة ومن قِـبل أزلام (او شبّيحة كما هو دارج القول هذه الأيام) أصحاب المنجم لتفريق المتظاهرين بالقوّة دافع فيها المضربون عن أنفسهم وبعضهم أبلى بلاء جيّداً، لكن التجربة كانت مريرة وبعد مقتل عامل هدد موته بتوسيع رقعة هذه الحرب بين الفرقاء، قامت السلطات الفدرالية بالضغط على أصحاب المنجم لتسوية الأمور سلمياً ورفع أجور العاملين.
باربرا كوبل، التي التقيت بها قبل نحو عشرين سنة في مهرجان اسطنبول السينمائي، لم ترتد بدورها إلى الوراء وتخفف من موقفها المتضامن حتى ولو تم تلوين الفيلم سياسياً به. ما هو مثير للإعجاب في كلا الفيلمين، التونسي والأميركي، هو أن درجة التضامن من قبل مخرجيهما لا تعلوان فوق حسن تحقيق وإخراج العملين بوعي سينمائي تنفيذي يصب في مكانه. إنهما عملان فنيّان مبهران في الوقت الذي يؤدّيان فيه الرسالة الإجتماعية على أفضل وجه.
على المنحى ذاته، إنما بمزج بين الدراما والتسجيلي قام المخرج السويدي بو وايدربيرغ سنة 1969 بإنجاز فيلم بعنوان «أدالين 31» حفل بتحيّـة سياسية لعمال مصنع قاموا في الثاني عشر من أيار/ مايو سنة 1931 بالتظاهر مطالبين أصحاب المصنع برفع أجورهم وتحسين أحوالهم المهنية خلال العمل. فما كان من صاحب المصنع (اسمه جيرارد فرستيج) الا أن استعان بستين رجلا لتفريق المتظاهرين المسالمين بالقوّة. هذا قبل أن يستعين مجلس المقاطعة الحكومي بالجيش نفسه لتفريق المتظاهرين وإخماد الإحتجاج، وهذا عمد سريعاً، في الرابع عشر، ومن دون تبرير فعلي، لفتح النار على المتظاهرين الذين كانوا حاصروا أزلام المصنع المسلّحين، فسقط من المتظاهرين خمسة قتلى وخمسة جرحى. التحقيق لاحقاً في الحادث أدان الجنود الذين فتحوا النار كون الفعل لم يكن له ما يبرره.
لم يكن المخرج بو وايدربيرغ قادراً على الإستعانة بالمواد المصوّرة لأنها لم تكن متوفّرة، لكنه صاغ مما توفّر له من وثائق وصور فوتوغرافية وتقارير صحافية عملاً متيناً في صياغته الأسلوبية يتناول الحدث ليخرج منه بصورة شاملة عن صراع قوى وثورة حقوق بين فريقين عادة ما تتضارب مصالحهما، واحد لا يمانع في الإستغلال وآخر يطالب بما يوازي جهده المبذول في سبيل منح الفريق الأول كل ثرائه واستقرار وضعه.
