قراءة في الفيلم التركي “وراء التل”
تراجيديا عائلية عن العداء بين”الذات” و”الأنا”
رامي عبد الرازق
ثلاثة عشرة فيلما هي حصيلة الأفلام المشاركة في مسابقة آفاق جديدة احد اهم فعاليات مهرجان ابو ظبي السينمائي في دورته السادسة(11- 20 أكتوبر) انها المسابقة التي تضم اعمالا اولى وثانية في الفيلم الروائي الطويل وتعتبر أحد مناجم اكتشاف المواهب السينمائية في العالم كله وليس على مستوى الوطن العربي فقط.
تحمل الأعمال الأولى سمات مشتركة كثيرة لكنها بالنسبة للناقد او المتخصص تحمل ايضا جينات السينما التي تأتي منها, قد لا يكون المخرج في عمله الأول او الثاني صاحب خبرة سينمائية عريضة او واسعة لكنه في النهاية ابن السينما التي ولد من رحمها, بل انك تستطيع ان تتبين حجم التطور الذي يحدث لاي من سينمات العالم بدراسة الاعمال الاولى للمخرجين الجدد لانها أولا: تحمل رغبتهم في تطوير سينماهم.
وثانيا: العناصر التي يتمردون عليها او يستبعدونها سواء على المستوى البصري او الدرامي. ثالثا: مدى تأثرهم بالسينمات الأخرى في المنطقة او العالم.
رابعا: حجم التجديد والمغامرة التي تحمله تجاربهم والتي يمكن ان يحتملوا فشلها بحكم كونهم لا يزالوا في طور التشكل ومراكمة الخبرة, على عكس الكبار اصحاب الأسماء الثقيلة التي تخشى اهتزاز مكانتها فتقدم ما تتصور انه مضمون الاثر او تعيد انتاج ما تراه صاحب فضل عليها.
التاريخ والسينما

البير امين هو مخرج تركي شاب درس التاريخ الحديث وقدم عدة تجارب روائية قصيرة قبل ان يصنع فيلمه الطويل الاول”وراء التل”, والسؤال هو هل هناك علاقة ما بين دراسة المخرج للتاريخ وبين تلك الدراما العائلية ذات الطابع الشكسبيري التي قدمها؟
الأجابة هي نعم لان فيلم البير لا يتكور داخل حدود تجربة الدراما العائلية ذات الطابع النفسي التراجيدي ولكنه يحاول عبر لغة سينمائية مكثفة وخشنة ان يتصل مع واقع تركيا وتاريخها الحديث بشكل يجعل الفيلم متعدد المستويات سياسيا وانسانيا على حد سواء.
نحن امام عائلة تركية مكونة من الجد فايق الموظف المتقاعد الذي يقضي وقته في متابعة ارضه الزراعية ومراعيه في الاناضول وذلك بصحبة احد العاملات في الأرض وابنيها, إلى جانب ابنه الأكبر, وفي صباح يوم اناضولي مشمس يأتي إليه ابنه الأصغر بصحبه حفيديه, احدهم شاب يعاني من حالة نفسية بسبب اشتراكه في الحرب(والحرب هنا مجردة فلا ندري اي من حروب تركيا التي يقصدها المخرج) والأبن الأخر مراهق يحاول اثبات ذاته والأستمتاع بوقته على حساب اي ظروف او معوقات.
في البداية تبدو الأسرة طبيعية سعيدة حانية مترابطة, يتحدث الجد عن البدو/ الخصم والعدو المجهول الكائن وراء التل والذي لا نراه ابدا طوال الفيلم, انه العدو الأبدي الذي نلقي عليه كل اسباب مشاكلنا وقلقنا وخوفنا المبهم من ترصده بنا.
من هنا يتخذ اسم الفيلم اولى دلالاته الدرامية, ان العدو يكمن وراء التل , من هو العدو؟ هل هو البدو؟ وما هو التل؟ هل هو مجرد كيان صخري ضخم يحول بيننا وبينه ويجعلنا عرضه لهجومه!
مع تصاعد الاحداث ببطء شديد يتخذ كل من العدو وظرف المكان(وراء) ابعادا جديدة تكشف لنا عن جوهر التجربة.
ثلاثة اجيال
يذكرنا بناء الفيلم الأجتماعي بالأجيال الثلاثة التي قدمها يوسف شاهين في ملحمته العائلية الشهيرة”عودة الأبن الضال”, الجد والأبناء والاحفاد, انه تشريح مجتمعي قبل ان يكون مجرد تكوين اسري, المزرعة الأناضولية الخضراء لا تعكس فقط مجرد بيئة الاحداث انما هي جزء من عملية اخفاء الاسرار, هذا الجمال الآخاذ الذي يستعرضه المخرج في لقطات بانورامية تجعل الفيلم مصور بنسبة مشهد داخلي إلى عشرة خارجي وهو جزء من تشكيل الصراع النفسي للشخصيات سواء بينها وبين نفسها او بينها وبين بعضها البعض, اللقطات البعيدة والمتوسطة التي يلتقطها المخرج تشبه النظر إلى خارج النفوس وليس إلى داخلها وتدريجيا تتكشف الأسرار.
الابن الشاب يعاني من جنون الحرب وهلوسات القتال انه يتوقف عن تناول الدواء الخاص به في الاجازة فتبدأ الهلوسات تهاجمه ليرى فرقته العسكرية تجوب المنطقة وتستعد لعملية حربية رغم كل الأجواء المسالمة التي نراها حوله, وكرد فعل عكسي على ويلات الحرب التي شهدها ينخرط الابن في علاقة نفسية شديدة الحميمية مع الماعز رمز البراءة والطبيعية والذي يصبح الضحية الأساسية في صراع الجد مع البدو الحاضرين الغائبين.
الحفيد الأصغر في المقابل يريد ان يتمرن على اطلاق النار ويدخل في صدام غير مباشر مع ابن السيدة راعي الغنم التي تقيم بالمزرعة مع الجد.
راعي الغنم يبدو اشبه بمتصوف يعبد الوجود والطبيعة ويعيش حياة بريئة جدا ومنعزلة وسط الأغنام بينما يحاول الحفيد المراهق الذي ينتمي لنفس الشريحة العمرية ان يثبت رجولته في تنافس ضمني معه, فيطلق عليه النار من بعيد ثم يعود ليقتل كلبه عندما يهاجمه, ويصبح مقتل الكلب بداية النهاية, ان الحفيد مثل بقية العائلة متواطئ يرفض الاعتراف انه قتل الكلب خوفا منه فيظن الجد ان البدو هم الذي قتلوه كتهديد منهم للعائلة.
الأبن الاكبر للجد يعيش مع والده في المرزعة لكنه يكرهها وبما انه يخشى مفاتحة الاب في كرهه للمكان نجد متواطئ مثل بقية الأسرة, يقوم بإخراج شحنة الكره والرفض في شكل عملية تقطيع هستيرية لأشجار المرزعة تنفسيا عن كرهه وغضبه الداخلي من ذاته لانه ينصاع لأمر والده/الجد ولا يغادر هذا المكان المنعزل الكئيب.
يتصور الأب ان البدو هم من يقومون بتقطيع الأشجار ويصبح هذا جزء من التراكم العدائي ضدهم وتبدأ ملامح الخصومة تتشكل في داخله والعداء يظهر جليا.
الابن الأخر للأب/الجد يعاني من فراغ عاطفي طوال السنوات الماضية بسبب وفاة زوجته, يحاول ابيه ان يقنعه بالزواج من اجل ان يجد امرأة تعتني بالشاب المريض والمراهق الفائر لكنه يرفض, وفي النهاية نكتشف انه يحب الأرملة التي تعيش في مزرعة والده, يدخل عليها عنوة ولا نراه وهو يضاجعها لكننا ندرك ما حدث, هي ايضا تتواطئ وتستسلم ربما بحكم الحرمان او الخضوع.
في الصباح – والفيلم باكمله يدور في يومين بليلة واحدة- يتم اطلاق النار على هذا الرجل في ساقه , نرى النتيجة ولا نرى السبب نعلم ضمنيا ان من اطلق عليه النار هو راعي الغنم ابن السيدة ولكن المُخرج ينجح ان يضمنا نحن الاخرين إلى زمرة المتواطئين الصامتين, ويتصور الجد الذي يمثل هنا السلطة الحاكمة ان البدو قد كشفوا عن وجه عدائهم السافر وصاروا تهديدا يجب ردعه بالقوة.
يقوم الجد بحشد الجميع ويتجهون للمراعي, نسمع صوت اطلاق النار وعودة المجموعة ظافرة بعد ان قتلت ستة من ماعز البدو, يصاب الشاب المجنون بحالة هستيرية تدفعه للتماهي مع الماعز المقتول رمز البراءة المغتالة بسبب النفوس الضعيفة المشوهة, نراه وهو يحمل فروة المعزة التي اخذها الجد عنوة من البدو وذبحها تحرشا بهم كي لا يجتازوا ارضه مرة أخرى.
يرد البدو لأول مرة منذ بداية الفيلم فيطلقون النار على قطيع الجد, يصيبون العنزات البريئات ولكنهم ايضا يصيبون شخصا لم يكن يتوقع احد ان يصاب بهذه الطريقة, الأبن المجنون الذي تماهى مع الماعز رغبة منه في التخلص من دموية البشر فإذ به يرتدي جلد الماعز المذبوح فيقتله البدو ظنا منهم انه احد خراف القطيع.
التل البصري
ما هو موقع هذا الفيلم من السينما التركية الجديدة على مستوى التكنيك والاسلوب؟

في الحقيقة يبدو هذا الفيلم احد الاشارت الهامة على طريق استيعاب السينما التركية الجديدة التي اسست لها تجارب فاتح اكين واوغلو وسيلان, الاعتماد على حبكة مخفية داخل علاقات الشخصيات ببعضها, التصوير الخارجي داخل مساحات الاناضول الشاسعة التي تستدرج المتلقي نحو الهاء جمالي يجبره على شحذ حواسه لاكتشاف الأسرار وراء هذه المناظر الطبيعية المبهرة.
افراغ شريط الصوت إلا من الاصوات الطبيعية والصمت والتأثر بتلك التعاليم الخارقة التي اسس لها كبار السينمائيين الفرنسيين امثال روبير بريسون الذي قال”ان السينما الناطقة اخترعت الصمت” و”ان السينمائي عليه ان يتعلم كيف يوظف موسيقى الأشياء”ولا يلجأ إلى الموسيقى التصويرية إلا عند الضرورة.
في”وراء التل”نلمح هذا الألتزام الصارم بتلك النصائح, شريط الصوت يخلو من الموسيقى تماما بأستثناء المشهد الاخير حيث تدخل موسيقى مارش عسكري عندما تتوجه الأسرة بعد مقتل الأبن المتخفي في جلد المعزة إلى ما وراء التل لتقاتل البدو انتقاما للأبن, بينما هم انفسهم قتلة الابن هنا يضع المخرج موسيقى المارش العسكري سخرية منه من تلك الأسرة التركية التي يجب ان تحاكم وتقاتل نفسها لا الأخر الذي وراء التل.
انهم قتلة الابن كما تجمعهم تلك اللقطة الرائعة في النهاية فوق الجثة وكلهم ينظرون إلى الكاميرا في زاوية سفلية هي زاوية الجثة وكأن المخرج يقول لنا هؤلاء هم الخصوم انها العائلة المسمومة التي تنهش بعضها بالتواطئ والأفكار السرية الهدامة.
المارش العسكري في النهاية يمنح صعودهم التل لونا من الكوميديا السوداء التي تصل لتخوم التراجيديا وتؤسس لتلك العلاقة الجدلية بين المجتمع التركي بكل متناقضاته وفساده النفسي والاجتماعي من وجهة نظر المخرج وبين سياسته الخارجية التي تعتمد على التباهي العسكري ضد اعداء بدائيين كالبدو الذي يذكروننا بأكراد شمال تركيا.
لدينا حركة كاميرا شحيحة جدا في مقابل انتقالات مونتاجية تعتمد على القطع فقط دون اظلام او مزج, الانتقال من مكان لمكان او من زاوية لزاوية يعتمد على القطع, التكوينات جمالية لكنها لا تخلو من حضور العنصر البشري في موقفه من الطبيعة ومن الأخر.
حضور المرأة في الفيلم حضور هامشي مقصود, نحن امام مجتمع ذكوري رغم ادعائه التفتح, المرأة الوحيدة في الفيلم تقبع في البيت طوال الوقت لتخدم الرجال تطبخ لهم وتعد الشاي ولا تنام تقريبا, وعندما يريد احدهم ان يضاجعها فإنه يأخذها عنوة واغتصابا, لا تخرج المراة من البيت إلا مع غياب الرجال في الحرب مع البدو, تنتظر عودتهم وترعى ابنتها الصغيرة رمز امتدادها المستقبلي والتي يتماهى معها الأبن المجنون كما يتماهى مع الماعز في بحثه عن البراءة المفقودة والسلام النفسي الضائع.
الحجاب الذي يغطي رأسها رمز موقف الدين منها كما يراه الرجال, لا يحول الحجاب والتحشم من اغتصابها رغم كونها عجفاء قليلة الجمال, لا شئ مبهر فيها لكنها في النهاية امراة, قطعة من اللحم يجب ان تمضغها افواه الرجال وقتما لسعهم جوع الشهوة.
زواية الكاميرا لا تتغير في اغلب المشاهد التي تعرض لنا موقف المرأة من المزرعة وسكانها, دائما امام الموقد تعد الطعام كأنما جزء من اثاث البيت, لا نراها وهي تضاجع ولا تفصح هي عما حدث انها جزء من الصمت الكامل لهذا العالم العفن.
يطبق المخرج مبدأ حضور النتيجة قبل السبب تاركا لنا التفسير والبحث, ومجبرا ايانا على التواطئ في بعض الأحيان, النتيجة دائما ما تبدأ صوتية في هذا العالم, صوت طلقات رصاص يقطع الصمت الجميل ويشوه غناء العصافير وحفيف الشجر, من هنا لا يبدو الشح الموسيقى مجرد حلية شكلية بل منهج اسلوبي في الطرح, انه يفرغ شريط الصوت مما من شأنه ان يعيق السرد الصوتي والبصري للفيلم.
وحتى على مستوى الصورة نحن نرى نظرة العين في البداية ثم نرى إلى ما تنظر, انها ليست محاولة للأثارة ولكنها نصيحة خالدة قالها شاعر السينما الفرنسية بريسون(قدم النتيجة على السبب تحقق اثرا اكبر في نفسية المشاهد)تجعله يسأل ويتساءل ويحاول التكهن قبل ان يفاجأ وتسقط دفاعاته الذهنية ليستسلم لما تمنحه له من افكار ومشاعر.