المهرجانات بين القاعات الشاغرة والمتخصصين والجمهور

صفاء الليثي
كانت بداية ارتباطي بالمهرجانات حين حضرت إلى مهرجان القاهرة المونتيرة السورية أنطوانيت عازرية وهى زميلة تختة المعهد العالي للسينما قسم المونتاج ورفيقة النضال الاشتراكى والروح الثورية.
 كانت مع فيلم ” ليال ابن آوى ” للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد وكان مهرجان القاهرة يقام في قاعة المؤتمرات بمدينة نصر فى ظل قيادة سعد الدين وهبة، شدني الحنين للسينما – وكنت متفرغة لرعاية الأولاد وقتها- وللمهرجانات بشكل خاص، كنا نذهب معا أنا والمونتيرة الكبيرة نادية شكري بسيارتها اللادا الصفراء نتقابل فى مجمع المونتاج، تحيي زملاءها قائلة ” احنا رايحين نتثقف ” كانت دعابة لم أفهمها فى حينها حيث تعنى الثقافة فى أوساط السينمائيين مشاهدة أفلام لم يمر عليها مقص الرقيب. ثم انضمت إلينا المونتيرة عنايات السايس وكنا ثلاثة مونتيرات متعطشات للأفلام رفيعة المستوى التي كان ينتقيها يوسف شريف رزق الله ورفيق الصبان بذوقهما الرفيع. بسبب حضور المهرجانات نما الحس النقدى لدى وكنت أنقد شفاهة حتى ردد أصدقاء “انت لازم تكتبي” ، وبالفعل بدأت فى كتابة مقالات تتعلق بالمونتاج ثم مقالات عامة.
 لم يستمر المهرجان فى قاعة المؤتمرات بمدينة نصر وانتقل إلى دار الأوبرا حيث اشتكى الصحفيون من بعد المؤتمرات عن مقار جرائدهم – فى وسط البلد غالبا – وأصبح يقام فى ساحة الأوبرا واكتسب جمهورا أوسع، نذكر جميعا الدعابة ” الفيلم صورة ولا مناظر ” كان الجمهور العادي يزاحم لمشاهدة أفلام بها مشاهد عارية، وكان أصحاب دور العرض يمارسون نصبا بالإعلان عن هذه المشاهد ويقبل الجمهور من ذكور المصريين غالبا عليها وغالبا تكون خديعة فالأفلام غير تجارية وليس بها مناظر إلا قليلا. تغيرت الدنيا وظهرت الشبكة الدولية- النت- وهجر الباحثون عن المناظر قاعات مهرجان القاهرة وبقى فقط المتخصصون ممن يبحثون عن سينما غير سائدة، وعن سينما غير أمريكية ليتمتعوا برقيها.
 قبل سنوات أيضا لم تكن الأفلام مترجمة إلى العربية وكانت اللغة عائقا أمام جمهور محب للسينما وأمام كثير من الصحفيين والنقاد ممن لا يجيدون لغات أجنبية و ندر أن تجد تزاحما على دور عرض أفلام المهرجان وتقلصت العروض لتصبح شبه مقصورة على الصحفيين والنقاد.

 تركزت فائدة المهرجان فى تعرف المتخصصين على الاتجاهات الجديدة للسينما فى كل بلدان العالم تقريبا، ولم يصل الدعم الثقافي لدافعي الضرائب من المصريين ولم يتغير ذوقهم واستمر الإقبال على الأفلام التجارية مصرية وأمريكية.
وإذا كان هذا حال السينما الروائية الطويلة فما بالنا بالروائية القصيرة والتسجيلية التى أصبح لها منفذا هاما عبر مهرجان الإسماعيلية السينمائي الدولي الذى بدأ محليا ثم دوليا عندما أعاده المخرج والباحث الكبير محمد كامل القليوبي فى دورة تخلى عنها ورأسها الناقد الكبير على أبو شادي واستعان بالناقد أمير العمرى فى الإدارة الفنية لهذه الدورة التى كانت بحق دورة كبيرة بعروض فى القاعة الكبرى لقصر ثقافة الإسماعيلية وعروض موازية وندوات بقاعة الندوات فى القصر . وبجهد الفنان الكبير صلاح مرعى بدأ المهرجان راسخا بأسس علمية وكأنه مؤتمر سينمائي وليس مهرجانا للنجوم والسجادة الحمراء وبالطبع خال من المناظر ليس قصدا ولكن لأن الاهتمام كان منصبا على قضايا كبرى لا يحفل بها فقط القسم التسجيلي بل ظهرت فى أفلام التحريك رفيعة المستوى التى خاطبت الكبار فى قضايا كونية حول الوجود والخلق . كان جمهور المهرجان هم ضيوفه المدعويين للمشاركة من القاهرة مع بعض الزملاء العرب والأجانب، ورغم ما سمى بالعروض الخارجية فى المقاهي والمدارس وأحيانا الكليات، ظل المهرجان بعيدا عن جمهور الإسماعيلية لا يحضره سوى نفر قليل يعدون على أصابع اليدين، تصورنا أن السبب عدم ترجمة الأفلام للعربية. ولكن عندما بدأت بانوراما الفيلم الأوروبى التى حرصت  فيها ماريان خورى على ترجمة الأفلام إلى العربية لم يتغير الأمر، بقيت سينما المهرجانات للصفوة يجافيها حتى الصحفيون بحجة أو بأخرى.
 ومع مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوربية الذي عقد مؤخرا فى الفترة من 17-22 سبتمبر 2012  وعرضت فيه  الأفلام كلها طويلها وقصيرها مترجمة إلى العربية، ظلت القاعات بلا جمهور، مما يجعل التفكير يتجه إلى احتمال عدم تعود الجمهور على ارتياد السينما إلا مع تلك الأفلام التى بها نجم يعرفونه ،وهو ما حدث بالفعل من إقبال الجمهور الأقصري على الفيلم الإنجليزي ” صيد السلمون فى اليمن” المترجم للعربية ومن بطولة النجم المصري عمرو واكد فى عرضه بالهواء الطلق. أتصور أنه ما لم يعود النشاط إلى الثقافة الجماهيرية – التى تسمى الآن الهيئة العامة لقصور الثقافة- وينشأ من بين أهلنا فى الأقاليم ناشطين ثقافيين يعملون بجهودهم الذاتية على تنشيط مراكز الثقافة فسوف يظل الحال هكذا، مهرجانات تخدم  المتخصصين فقط ولا تقوم بدورها المنشود فى رفع درجة الوعى بالسينما الفنية الراقية.
فى اليوم الأخير لعروض الأفلام القصيرة بمهرجان الأقصر وفى الثانية عشر والربع دخل مركز الثقافة خمسة من الصبية بالزي المدرسي، وبعد تعرفي عليهم ووجدتهم فى الصف الأول والثاني قام موظف بالقصر بتوبيخهم وردهم، تدخلت وأبقيتهم وأدرت حوارا جانبيا معهم. بدأت الأفلام بحضور لجنة التحكيم وظهرت مشاكل تقنية فى النسخ المترجمة إلى العربية فتوقف العرض واستبدلت الاسطوانات بالأخرى غير المترجمة وكانت بلا مشاكل، انسحب الأطفال ولا يمكن لومهم فالأفلام بلغة أجنبية بدأوا فقط بتعلمها فى مدارسهم منذ أيام. أتصور أن إقامة عروض متصلة بعد انتهاء المهرجان فى المدينة التى يقام بها وفى المدن الأخرى بعرض مختارات من هذه الأفلام ، بالطبع بعد أخذ موافقة جهات التوزيع والجهات المانحة تخلق تعودا لدى أهالينا لمتابعة السينما الفنية والمختلفة وتمهد لإقبال معقول على الدورات التالية.

مهرجان سينما الموبيل


هذا عن المهرجانات التقليدية التى تعرض بقاعات تتسع لمئات الأشخاص فى طقس للمشاهدة يتأثر فيه كل واحد بالجموع فيشعر بجمال الفيلم أو ينصرف عنه تبعا للهمهمات، أو الصمت الذى يعكس الاندماج والاحترام أو عبر الضحكات والتعليقات. ولكن هناك مهرجانات أخرى يتم فيها التحكم عبر الشبكة الاجتماعية كما حدث فى مهرجان سينما الموبيل الذى تم تحت رعاية الشركة العربية وإسعاد يونس وكان مديره الفني المخرج أمير رمسيس. دخلنا إذن فى اختبار آخر حيث جمهور يتعامل مع النت، يعلق أو يصوت دون أن يتشارك بالضرورة فى مكان واحد، لم نعد فى هذا الطريق نتساءل أين الجمهور فنبضه واضح من عدد زوار الموقع وحجم “لايك” والتعليقات. وهكذا قبل أن نكون قد حللنا مشكلة التسرب من القاعات   يتجاوزنا الزمن وتظهر وسائل أخرى للتواصل الاجتماعي لا يتطلب منك أن تحرك ساكنا أو تخرج من بيتك أو تغادر مقعدك. هذا ما خبرناه مع مهرجان سيني موبيل الذى أقيم تحت رعاية الشركة العربية للإنتاج والتوزيع وموبي نيل واليوم السابع . الأفلام عرضت على موقع على الشبكة الدولية وعلى اليوتيوب، حيث تسجل أعداد الزائرين للصفحة، ولكل فيلم، والأجهزة دقيقة لا تكذب ولا تتهرب من الضرائب بتغيير أعداد المشاهدين كما يحدث مع تذاكر السينما. فى حفل توزيع الجوائز ففقط تجمع أصحاب الأفلام ولجنة التحكيم والمنظمين وضيوف من السينمائيين والنقاد والصحفيين، بالتصويت على النت حصل فيلم ” ذكر مسلم أعزب” الذى شاهده ما يقارب ثلاثة آلاف شخص،  زائر 2,871 على جائزة الجمهور، بينما منحت لجنة التحكيم المكونة من مدير التصوير سامح سليم ومن المخرجة مريم أبو عوف والسيناريست مريم نعوم والممثلة بسمة والممثل إياد نصار فيلم ” مساحة ” جائزتها الأولى. وبمتابعتي للأفلام التسعة التى تتسابق أختار فيلم ” فكر” الذى قدمه مخرجه بدون تعليق وبأسلوب الإعلانات حاملا معنى مباشر عن ملاحقة أعمال الفرد له كظله بأسلوب المجاز لا يخلو من طرافة فتجد نفسك ملاحقا بكل فوارغ البيبسي التى شربتها وبقايا أكياس الشبس التى ألقيتها فى الشارع و الفيلم شاهده 1,269 زائر.
   يتشكل منذ فترة جمهور آخر بديل من مستخدمي التقنيات الحديثة المرتبطة أكثر بالشباب والمتاحة فقط لمتعلمي الكومبيوتر، فهل ننادى الآن لمحو أمية الكومبيوتر كما نادينا سابقا بمحو أمية التعلم وفشلنا فشلا ذريعا أدى بنا لتسميتها نحو الأمية بالنون.
تحول خطير يحدث، فهناك طقس جمعي ولكنه متخيل وغير ملموس، يسمح لنا باختيار من يهمنا التواجد معهم وبمسح من لا نريده، يسمح لنا بتبادل التعليقات أو بتجاهل بعضها. مكنتنا الشبكة الاجتماعية من الجمع بين حريتنا فى الانفراد فقط مع جهاز، وفى نفس الوقت بالتواجد مع أصدقاء بيننا وبينهم مسافات تقطع بالطائرات فى ساعات أو أيام. نشرق معهم ونغرب كما أجدني فاعلة الآن بادئة بتتبع تطور العلاقة مع المهرجانات السينمائية ومنتهية بتأمل ظاهرة مهرجانات الموبيل التى جعلت شاشة عرضها ممتدة عبر شبكة التواصل الاجتماعي الجبارة، دون استغناء عن طقس لحفل ختام وزعت فيه الجوائز على مسرح يعود بنا لتقاليد التواصل القديمة.
ومهما ابتكرنا من وسائل وأساليب سنظل محتاجين لحميمية التواجد معا بأجسادنا ، شاعرين بنبض وأنفاس المنتصرين والخاسرين والمراقبين لحدث خاص يجمعنا على حب السينما.


إعلان