جماليات الإنسان الأرضي في السينما التسجيلية
عدنان مدانات
” جماليات الإنسان الأرضي- دراسات في السينما الوثائقية” هو الإصدار الجديد للمخرج والناقد السينمائي فجر يعقوب، وهو صدر من سلسة” الفن السابع” ضمن منشورات المؤسسة العامة للسينما بدمشق و تتراوح مواضيع الكتاب ما بين القديم والجديد في السينما الوثائقية، حيث يبدأ الكتاب بفصلين هامين يعرفان باثنين من مؤسسي أهم تيارين رئيسيين في تاريخ السينما الوثائقية( أو التسجيلية)، وهما دزيغا فيرتوف( الذي يصفه المؤلف بأنه الملهم الأول، وهو صاحب الفيلم الشهير” الرجل والكاميرا السينمائية” والنظرية المؤسسة حول ” العين السينمائية” و” الحقيقة السينمائية”)، و روبرت فلاهرتي( مخرج الفيلم الوثائقي الطويل الرائد الشهير” نانوك من الشمال”)، حيث قامت نظرية وممارسة الأول الإخراجية، على بناء الفيلم من خلال الحلول المونتاجية لمواد الواقع التي جرى تصويرها، في حين قامت ممارسة الثاني، على بناء الفيلم عبر تصوير مادة الواقع من خلال المراقبة الدقيقة لتفاصيله والتقليل ما أمكن من الحلول المونتاجية.
هذان التياران هما ما اعتبرهما لاحقا الناقد الفرنسي أندريه بازان طبعا تطور السينما بعامة، وليس فقط السينما الوثائقية، بطابعهما، حيث قسّم تاريخ السينما إلى تيار يؤمن بالصورة( المونتاج)، وتيار يؤمن بالواقع.
إضافة إلى فصل نظري التوجه تحت عنوان مركّب:” الفيلم الوثائقي الجديد: مراقبة المجال العمومي” وفيه يبحث عن التطورات الجديدة في حقل السينما الوثائقية والتي أدت إلى”عولمة الصورة والمشهد” ومقالات أخرى متنوعة، تبحث بعض الفصول في تجارب وثائقية لمخرجين سينمائيين عرب معاصرين، ومنهم المصرية ناديا كامل مخرجة الفيلم المثير للجدل” سلطة بلدي” و المخرجة المصرية تهاني راشد( مخرجة الفيلمين” البنات دول” و جيران”) و اللبناني جان شمعون مع شريكته و زوجته المخرجة الفلسطينية مي المصري واللذان اخرجا مجموعة أفلام هامة حول لبنان وفلسطين، وكذلك المخرج السينمائي السوري الراحل عمر اميرلاي مخرج فيلم” الحياة اليومية في قرية سورية.”
ما أثار انتباهي بشكل خاص في هذا الكتاب الفصل المعنون” الانفجار الرقمي والاتجاهات الجديدة: رهانات الكاميرا” الرقمية” الخفية”، والذي يبحث فيه تأثير التطورات الرقمية في حركة النقد السينمائي بخاصة باعتبار أن هذه التطورات التي بدأت تخلق واقعا جديدا في السينما باتت تلغي، أو تقلل من، دور الخبرات النظرية النقدية القديمة التي اعتمدت على، أو انطلقت من، دراسة السينما وفق تقنياتها القديمة.

يكتب فجر يعقوب:”… الطقس الرقمي الجديد سيفرض قوالب جديدة في الكتابة لم تكن معروفة”.
و يضيف لاحقا:” لذلك فإنه من المشكوك به وجود نظرية جمالية خاصة في الأمداء المنظورة ذلك أن التكيف مع الواقع الافتراضي يقود بالضرورة إلى الانشغال المضني بمعرفة أوجه التشابه والافتراق ودرجات الاقتراب باعتبار أنه يغير من زاوية النظر إلى الواقع الحقيقي و يعيد إنتاجه بحسب مقتضيات الخاصية الرقمية والآثار المترتبة عنها”. و يعتبر تاليا أن القول النقدي الجديد لن يعود مهتما كثيرا بالمسائل الأخلاقية والجمالية، وإنما” بالمسائل التقنية الصرفة ودرجة قياس المشاعر والانفعالات الناشئة عنها”.
ويعتبر المؤلف تبعا لذلك أن ما سيميز الناقد الجديد في عمله أنه سيتخلى طائعا عن شبكة المعارف القديمة لحساب شبكة من المحددات والمثيرات الافتراضية التي لا تنفع معها الحسابات القديمة التي سبقت مرحلة فيلم( أفاتار) والتي ترافقت، حسب قوله، مع انعطافة جذرية في طقس المشاهدة السينمائية.
من المفيد هنا أن نلاحظ أن هذه الإشكالية المرتبطة بمستجدات النقد السينمائي بالعلاقة مع التقنيات الرقمية المعاصرة أمر مقتصر على المجال السينمائي وحده ولا يطال مجالات النقد في الفروع الأدبية والفنية الأخرى، لأن السينما وحدها، دون بقية الفنون والآداب، مرتهنة لما يستجد فيها من تطورات تقنية، وأن التطورات التقنية الرقمية المتسارعة الواسعة القفزات خرقت الأساس الذي كانت تقوم عليه السينما التقليدية، وهو الإمكانية غير المسبوقة التي كانت تتمتع بها لعكس صور الواقع الحي مباشرة، باتجاه قيامها على الاعتماد على الواقع الافتراضي الذي يتشكل عبر البرمجية الرقمية.
ومع أن هذه البرمجة الرقمية والتي تنشأ أساسا من فكرة وتخيل في عقل المبرمج لتتحقق عبر واقع افتراضي لا تزال حتى الآن تعتمد على مرجعية واقعية، إذ أن المبرمج هو في النهاية مجرد إنسان محكوم بالواقع الذي يعيش فيه( فلا ننسى هنا أن أبطال” آفاتار” ورغم أنهم كائنات فضائية إلا أن أشكالهم ذات مرجعية أرضية واقعية، فلهم عيون وآذان وأيد وأرجل ويتصلون فيما بينهم عبر اللغة المحكية، كما أن الصورة ثلاثية الأبعاد بحد ذاتها ذات مرجعية واقعية)، إلا أن المستقبل قد يحمل مفاجآت في حقل مرجعية الخيال والتفكير البشريين تتلاءم مع الإمكانيات الرقمية في خلق وتعميم الواقع الافتراضي والأشكال التي تعبر عنه ويتجسد من خلالها والتي قد لا يمكن التنبؤ بها في الوقت الراهن( وهذا الانفصال عن المرجعية الواقعية هو ما يمكن ملاحظته جزئيا في الفيلم الأمريكي الحديث” شجرة الحياة” للمخرج تيرانس مالك، والذي يعبر في أحد فصوله عن نشأة الكون من خلال تكوينات لونية بصرية تجريدية.)
على كل حال، لا تقتصر الإشكالية المطروحة على المجال النقدي السينمائي فهي تشمل أيضا المجال المتعلق بطبيعة وسيلة التعبير السينمائية حيث تقترح التقنيات الرقمية أشكالا جديدة وحلولا جديدة لتركيب وتوليف( مونتاج) الصورة السينمائية وبالتالي لطرق الإخراج السينمائي وعلاقته بصور الواقع والتعبير عنه ، والذي بات ممكن التحقيق، وبالتالي معبرا عن الواقع، لا من خلال صوره المباشرة، بل تحديدا من خلال صور الواقع الافتراضي القابلة للتطور إلى درجة الانفصال النهائي عن المرجعية الواقعية.