التجريد في المشهد السينمائي الفرنسي المُعاصر(2)

رافائيل باسان
ترجمة : صلاح سرميني
فيليب كوت

منذ عام 1998 يُمارس “فيليب كوت”، وبطريقةٍ عفوية، شكلاً من أشكال التجريب الغنائيّ، والمُتعدد المعاني، Sédiments (2004) هو أكثر فيلم يُقرّبه من “دومنيك لانج” : سلسلة صور مأخوذة من العالم الخارجي (ماء، أرض، سماء) تختلط في مادةٍ كثيفة، ومع ذلك، حتى وإن تعرّفنا أحياناً على بعض المواد، فإننا لا نلاحظ مسيرةً بحثية كما نُدركها في (Romance d’automne)، الصور موجودة مسبقاً، وقد تمّ تصويرها أولاً بشريطٍ من مقاس سوبر 8 مللي، ومن ثمّ أُعيد أفلمتها مرةً أخرى، والعمل عليها بشريطٍ من مقاس 16 مللي.
فيEther  (2003) الصور التي أصبحت ضبابية، تدور، وتتداخل، ولم تعدّ العين تستطيع السيطرة على الأشكال التي تحولت طبيعتها، وأصبحت حزمةً من الألوان، هنا، يعمد السينمائيّ إلى تدقيق، وتشريح، الصور، وفي بعض الأحيان، عناصر جسده.
فيFigure  (2004)، أوRepli  (2005)، يصبح هو نفسه المادة الأساسية للعمل : نشاهد وجهه في لقطاتٍ كبيرة جداً تمّ تشريحه سينمائياً باللجوء إلى سرعاتٍ متنوعة في التصوير، يشارك، ويغذي الخطّ المحوريّ البصريّ للمشروع.
في عام 1998 بدأ “فيليب كوت” ينجز أفلاماً مرسومة مباشرةً على شرائط شفافة، وعلى طولها، وبدون الأخذ بعين الإعتبار إطارات الشريط، كان الأهمّ، بالنسبة له، إكتشاف الحصيلة النهائية.

فيÉmergences 1 (1999-2003) يعمد الفنان إلى إعادة تصوير بقايا من شرائطه المرسومة، وهكذا، يمنح تدفق الشريط الزاخر بالمادة توهجاً خارقاً لعموم تكويناته، ويبدو بأنها تجربةٌ لا تمتلك صلات قرابة، إنها، وبشكلٍ متناقض، فيلم من بدايات السينماتوغراف.
في Dissolution(2001)، يقدم الفنان خلاصته الشعرية الحقيقية : مواد طبيعية، عناصر جسدية، شريطاً مرسوماً تندمج فيه تركيبة بالغة الثراء.

بيب شودروف

مع Charlemagne 2: Piltzer (2002)، وعن طريق الإستعانة بمادةٍ بصرية مدتها خمسة دقائق تمّ تصويرها بشريطٍ من مقاس 8 مللي، وسرعة 9 صور في الثانية، وتسجيل صوتي بمدة 22 دقيقة تمّ تسجيل الإثنين خلال حفلة “شارلمان بلاستين” عام 1998 في باريس، يقدم “بيب شودروف” مساهمةً عالية في التجريب المُعاصر، حيث يُنشئ تقسيماً بصرياً مترجماً الموسيقى، بطريقةٍ إصطناعية، نوطةً نوطة، وبتمديد زمن اللقطات.
هو، بالآن ذاته، يمنح تكريماً لحظياً لهذا الفنان المُهتم بالموسيقى المُتكررة، ويُثير الأفكار حول التجريد كعملٍ شكليّ بنيويّ.
يستخدم “شودروف” عموم الـ 6945 نوطة المُسجلة خلال الحفل، وتقريباً جميع الكادرات التي صوّرها، يترجم تأثير النوطات البصرية، ومونتاج الصور، حيث السالبة، والموجبة، بالأبيض، والأسود، الأزرق، الأصفر، الأحمر، الأخضر، الومضات، ومسحات الألوان، تستذكر من جديدٍ كلّ أنساق الصورة التجريدية المُتحركة من بدايات السينما حتى يومنا هذا.
بمنهجيةٍ، يعرض السينمائي طريقة عمله، شارحاً بأنّ سرعة عازف البيانو تنجم من الحالة المُتسارعة لتدفق الصور، وبأنه وجد معادلاتٍ بصرية للنماذج المختلفة للنوطات، والتوافقات، والسلالم الموسيقية، والإيقاعات المُقترحة عن طريق الفنان التبسيطيّ.

هوغو فيرلاند

“هوغو فيرلاند”، بالنسبة له، يمتلك تكويناً دراسياً مزدوجاً، هو بالآن ذاته، مصورٌ، ودارسٌ للرياضيات، تتوجه ميوله نحو أعمال “الأخوين وايتيني”، والتجريد المُبرمج، ولا يدّعي بأنه مصممٌ عن طريق الكمبيوتر، ولكن، سينمائيّ، في أعماله التي أنجزها عن طريق الكمبيوترAldébaran (2001)، Géminga (2003)، Bételgeuse (2004) يُوسّع تساؤلات السينما التجريبية حول عدم تجانس الملامس، والمواد .

منذ عام 1989 بدأ “فيرلاند” يُنجز أبجدياتٍ بطول 10 ثواني (تتابع صور من الكمبيوتر إنطلاقاً من نموذج رياضيّ واحد)، وفيما بعد، يُصور هذه الجدائل البصرية صورةً صورة بكاميرا 16 مللي، وهو عن طريق هذه الخطوة، يرغب بأن يُرتب مكانياً عناصر هذه الأبجدية التي إبتدعها، ويتبيّن له، بأنه عندما يعرضها على سطح آخر غير الشاشة، وبالتحديد، جسد راقصة، يحصل على مشهديةٍ بصرية تشكيلية جذابة جداً.
في كلّ واحدٍ من الأفلام الثلاثة المُشار إليها أعلاه، يستخدم جزءاً مختلفاً من الجسد.
يقول “فيرلاند” :
(في هذه السلسلة من الأفلام، يتوجه طموحي نحو إعادة النظر بالجسد عن طريق الصور المُتحركة، وإكتشاف فكرة الجسد من جديد في شكلٍ أكثر إنسيابية) (17) .
في Géminga ، الجسد الذي تمّ إستخدامه بدل الشاشة، أصبح مكان إستقبالٍ من أجل عرض أنماطٍ تمّ تشكيلها رياضياً، أو من أحبار مختلفة، نادراً ما تكون مرئية .
اليدان، عادةً بمفردهما، تظهران في بعض الأحيان مثل خطوط ضوئية بارقة لأجزاء تشريحية من الجسد، قطع من نسيج تلفت الأنظار.
الأنماط الناجمة عن طريق الضوء، أشكالٌ بصرية ملونة، تحظى على تشكيليةٍ مبهرة، وتتخلى عن برودتها الأصلية كي تصبح حية تقريباً، مثيرة بما يكفي.
لا يفكر “فيرلاند” بالجسد الحاضر ـ الغائب من خلال منظورٍ بنيويّ عن طريق التنظيم الذي وضعه، هنا، يتعلق الأمر بإبداعٍ حرّ بين أبجديةٍ إلكترونية جديدة تتقاطع مع تشكيلية جسد، الكلّ يُولد مساحةً من عضوياتٍ صغيرة جداً، تتكاثر بإستمرار.
يؤكد “فيرلاند” :
(بالنسبة لي، لا تنفصل فكرة التجريد عن مفهوم اللغة، يتعلق الأمر بتحديد مفرادتٍ مناسبة من الأشكال، وإنشاء تعبير شعوريّ بدءاً من إتقان هذه اللغة .
تتوجه فكرتي نحو بناء التجريد بدءاً من لغةٍ رياضية، أفكر بمفهوم المكان، والبرمجة عن طريق الكمبيوتر ملتمساً حدوداً جديدة لهذه المغامرة الروحية التي بدأها الرسامون) (18).
رافائيل باسان
نوفمبر 2005- يناير 2007

هوامش المُؤلف :

(17) ـ مقاطع من حوارٍ نُشر في مجلة  Bref العدد 70(يناير – فبراير 2005).
(18) ـ مقاطع من حوارٍ نُشر في مجلة  Bref العدد 70(يناير – فبراير 2005).

هوامش المُترجم :

Raphaël Bassan
 
وُلد “رافائيل باسان” عام 1948 في بلغاريا، وهو مخرجٌ، وناقدٌ سينمائيٌّ فرنسيّ، متخصصٌ في السينما التجريبية.
في البداية، توجهت إهتماماته نحو مسيرة أدبية، حيث أصدر مع “هوبير حداد” عام 1970 مجلة متخصصة بالشعر (Point d’être)، بينما أخرج أول أفلامه القصيرة في عام 1969.
“جان بول بورر”، وكان واحداً من أعضاء المجلة الشعرية، إستعاد ذكريات تلك السنوات في صفحات سيرته الذاتية (محاربو الحلم)، وأشار إلى “رافائيل باسان” بصفته شاعراً، وسينمائياً.
منذ ذلك الحين، بدأ “رافائيل باسان”  يكرسّ نشاطه للكتابة عن السينما بشكلٍ عام، والتجريبية خاصةً، تلك التي كان يتجاهلها معظم زملائه، وكتب مقالاته السينمائية في صحفٍ، ومجلاتٍ متعددة، وأصبح صحفياً محترفاً.
من جهةٍ أخرى، يعتبر واحداً من المجموعة التي أسّست في عام 1971 تعاونية التوزيع المُستقلة المُسمّاة “جماعة السينما الشابة” التي تُواصل نشاطها حتى اليوم.
خلال الفترة 2000-2010 تعاون “رافائيل باسان” كناقد سينمائي مع مجلاتٍ أخرى، ومواقع فرنسية، وأوسترالية متخصصة، وشارك في تحرير بعض المقالات في “الأنسكلوبيديا العالمية”(من موقع ويكيبيديا).


إعلان