مقدمات لسينما إسلامية
عدنان مدانات
بعد أن أفرزت الإنتفاضة الشعبية العربية حكومات وبرلمانات جديدة في مصر و تونس والمغرب ترتبط بالتيار الإسلامي الذي تبينت قوته الجماهيرية بوضوح، تحول الحديث عن مستقبل السينما العربية بالعلاقة مع الربيع العربي، نحو السؤال حول مستقبل السينما العربية في ظل تسيد هذا التيار سدة الحكم في أكثر من بلد عربي مع توقعات مبررة بتشديد قبضة الرقابة الحكومية والشعبية على مضامين و مواضيع الأفلام بخاصة من حيث المشاهد التي تتضمن قدرا ما من التعبير الجنسي. لكن الحديث حول الرقابة لم يكن الوحيد في هذا المجال بل ترافق مع بروز سؤال حول إمكانية نشوء سينما عربية إسلامية.

في السابق، وقبل عدة عقود من الزمن، كانت الإشكالية التي تتمحور حول السينما بالعلاقة مع الإسلام تتخلص بالسؤال حول هل السينما حرام أم حلال. غير أن هذه الإشكالية لم تعمّر طويلا فقد فرض وجود السينما نفسه كواقع لا يمكن تجاهله، وربما ساهم في تغييب هذا السؤال إنتاج بضعة أفلام تعالج مواضيع دينية عربية كان أبرزها فيلم” الرسالة” للمخرج الراحل مصطفى العقاد الذي أخرجه في بدايات السبعينيات من القرن الماضي بعد أن نال عليه موافقات من عدة مراجع دينية، ومع ذلك لم ينج من غضب بعض الأنظمة المتشددة.
تعيدني عودة الحديث حول إمكانية نشوء سينما إسلامية عربية إلى تذكر أول تجربة عملية لي مع هذه الإشكالية، وكان ذلك في العام 1993، حيث تلقيت دعوة للمشاركة في مؤتمر حول السينما الإسلامية يقام في العاصمة الإيرانية طهران بالترافق مع مهرجان السينما الإيراني” فجر” الذي شاركت فيه لأول مرة أفلام عربية وأفلام من الجمهوريات الآسيوية ذات الأصول الإسلامية التي كانت من ضمن الاتحاد السوفييتي. علما بأن موضوع السينما الأسلامية كان يتجاوز فكرة الاكتفاء بأفلام تعالج مواضيع دينية وتلتزم بكل المحرمات وعلى رأسها المحرم الجنسي، فالسينما هي انعكاس للواقع ووسيلة أساسية للتعبير عنه وعن تنوع مشاكله، ولهذا يفترض في السينما الإسلامية أن لا تكتفي بالمواضيع الدينية، بل وأن تعالج مختلف المواضيع الدنيوية إنما ببنية سينمائية إسلامية يجب التفك��ر فيها والبحث عنها والأخذ بعين الاعتبار عدم تكرار نموذج المسلسلات الدينية المستهلك وغير الناجح، وإنجاز هذه المهمة أمر مستحيل.

جرى افتتاح أعمال المؤتمر في يوم جمعة برعاية وزير الثقافة الإيراني آنذاك، وهو كان في الأصل أستاذا للفلسفة في الجامعة وكان كما قيل لي متخصصا في الفلسفة الوجودية. ألقى هذا الأستاذ الوزير كلمة افتتاحية قال فيها مستشهدا بأحد الفلاسفة الوجوديين ما معناه أن المشكلة الرئيسية في عصرنا الحالي الذي يحتاج إلى الكثير من التفكير أننا لا نفكر كفاية. وتطرق بعد ذلك إلى الحديث حول موضوع المؤتمر فأكد أنه لا يعرف ما هي السينما الإسلامية لكنه يعتبر أنها “موضوع للتفكير” وأن المطلوب من المشاركين في المؤتمر التفكير في هذا الموضوع. لم يتوصل المشاركون في ذلك المؤتمر إلى إية إجابة شافية، بل في الحقيقة، ما من أحد منهم أمعن التفكير أوعالج هذا الموضوع، بل اكتفى كل واحد منهم بقراءة تقرير معد مسبقا حول أوضاع الإنتاج السينمائي في بلده. غير ان أجواء المؤتمر ترافقت مع حالة إرباك وغضب نتجت عن منع إدارة المهرجان عرض فيلمين أحدهما فيلم سوري تسجيلي قصير والثاني فيلم روائي طويل من أوزبكستان كان مخرجه حاضرا بين الوفود. يصور الفيلم التسجيلي السوري مشاهد من لحظات الوداع والاستقبال بين المعارف والأقارب في مطار دمشق كما يصور وقائع عرس في إحدى القرى السورية لأحد العائدين من الغربة. ومن بين ما يصوره من لحظات الوداع واللقاء في المطار لقطات تظهر رجلا و امراة يتعانقان( ربما أم وابنها أو أبن و ابنته أو زوج و زوجته)، في حالة وداع أو استقبال. وكانت هذه اللقطات كافية لمنع عرض الفيلم. بعد أن قام أعضاء الوفود الأجانب بالاحتجاج على منع عرض الفيلم، نظمت إدارة المهرجان عرضا خاصا سريا للفيلم حضره المشاركون الأجانب وحدهم دون المشاركين الإيرانيين الذين منعوا من دخول صالة العرض. لم يعرض الفيلم الأوزبكستاني، وقد علمت من مخرج الفيلم وهو يعلن لي عن خيبة أمله أن الفيلم لا يتضمن أي مشهد له علاقة بالجنس وأن ما سبّب منعه هو لقطة ختامية في نهاية الفيلم يظهر فيها بطلا الفيلم العاشقان على شاطئ البحر وهما يتماسكان بالأيدي ويدوران حول نفسهما في حالة رقص مليئة بالبهجة، وهو ما اعتبرته إدارة المهرجان مشهدا جنسيا. وأذكر ان المخرج قال لي أنه إذا كانت هذه هي السينما الإسلامية فهو لا يريدها، هذا مع أنه جاء متحمسا و متشوقا للتعرف على هذا الفكر الجديد الذي بدأ ينتشر في بلاده بعد خروجها من مظلة الاتحاد السوفييتي.
ينتمي المخرج الأوزبيكي إلى تقاليد و خبرات ومفاهيم سينمائية مختلفة. الأمر نفسه يمكن قوله فيما يخص السينمائيين العرب، خاصة منهم سينمائيو دول مصر وتونس والمغرب، فالسينمائيون في مصر ينتمون إلى السينما السائدة التي غالبا ما ظلت تتحدى موانع الرقابات على أنواعها، والسينمائيون في تونس والمغرب متأثرون بالمرجعيات الثقافية والسينمائية الأوروبية، وهم جميعا يضعون حرية التعبير بكافة أشكاله هدفا لهم و لا يبالون في سبيل ذلك بما قد يتعرضون له من احكام رقابية على تنوع جهات إصدارها.