أيام قرطاج السينمائية: المنظور الغائم
وسيم القربي – تونس
تستعد العاصمة التونسية لاحتضان أيام قرطاج السينمائية التي تعتبر حدثا بارزا ليس في الساحة السينمائية التونسية فحسب بل في إفريقيا والعالم العربي ككل. لا يمكن الحديث عن هذه الأيام دون التزام الكلمات بحنين خاص وشاعرية تعبق رائحتها من خلال فيض الأحاسيس وحُرقة العشق السينمائي.
أيام قرطاج السينمائية: المشروع الفكري الحلم
إذا كان استنبات الفن السينمائي القادم من الغرب في حقبة كولونيالية شهدت الإقتحام العسكري والسياسي والإقحام الثقافي، فإنّ استثمار الصورة السينمائية من قبل المبدعين المحليين قد طال انتظاره ليتمّ التأقلم مع هذا الجنس الإبداعي الجديد. كان الفضل في تونس لفريق الأخوين لوميير وألبرت شمامة شيكلي وبعض الرعايا الأجانب في بداية نشر الفن السينمائي بغاية استغلال الفضاء التونسي كديكور بخفايا إيديولوجية يقودها المستعمر إلى حين مبادرة الراحل الطاهر شريعة بتأسيس أندية سينمائية ومن ثمّ الجامعة التونسية لنوادي السينما سنة 1950. وفي حين امتدّ الانتشار السينمائي إلى دول عربية أخرى، كانت تونس السبّاقة عربيا وإفريقيا بتأسيس أول مهرجان يهتمّ بسينمات الجنوب سنة 1966 ببادرة من الطاهر شريعة وإشراف وزارة الثقافة: أيام قرطاج السينمائية.

لقد ساهم التنافس بين المبدعين الأفارقة والعرب في هذه التظاهرة العريقة في إنماء الثقافة السينمائية وإرساء منافسة شريفة جعلت هذه الأيام احتفاء بالسينما وعرسا يجتمع فيه المخرجون والتقنيون والنقاد وعشاق السينما ليتبادلوا الأفكار والخبرات والآراء، وقد تمّ تأسيس مهرجانات أخرى نسجت على نفس المنوال مثل مهرجان واقادوقو ببوركينا فاسو ومهرجان السينما الإفريقية بخريبكة… وقد ساهمت أيام قرطاج في خلق حركة سينمائية لمهرجان أصبح مرجعا لسينمائيي الجنوب، حيث شارك العديد من المخرجين الذين وسموا تاريخ السينما ببصماتهم مثل يوسف شاهين وتوفيق صالح ومرزاق علواش ومحمد ملص والنوري بوزيد وسليمان سيسي وغيرهم. لقد كانت هذه الأيام مشروعا فكريا بامتياز حيث كان بداية توجه إبداعي لسينما تونسية وعربية وإفريقية بالرغم من الهزات والهنات في بعض السنوات العجاف.
أيام قرطاج السينمائية من 16 إلى 24 نوفمبر:
تفتتح الأيام بفيلم “ارحل” للمخرج التونسي محمد الزرن في قاعة الكوليزي وتختتم بفيلم “ماما أفريكا” لميكا كاوريس ماكي وهو إنتاج ألماني جنوب إفريقي فنلندي، حيث يشارك في المسابقة الرسمية 19 فيلم من 13 دولة عربية وإفريقية منها “مملكة النمل” لشوقي الماجري و”التائب” لمرزاق علواش و”بعد الموقعة” ليسري نصر الله. ويترأس لجنة التحكيم التونسي علي اللواتي في ما يتكوّن أعضاؤها من أحمد عبد الله من مصر وإيف بواسي من فرنسا وجون بيار أوباما من الكامرون وكارول كاراميرا من رواندا ورضا مير كريمي من إيران وليانا بدر من فلسطين. كما تضمّ هذه الدورة مسابقة دولية خاصة بالأشرطة الوثائقية تشارك فيها عدة أفلام من لبنان والأردن ومصر وسوريا وتونس والسينغال والكونغو ومالي… ويتولى رئاسة لجنة التحكيم الإيطالي رونزو روسيليني ويكون أعضاؤها من الصديق جدي وكمال عبد العزيز وكيتا توري وقيس زبيدي. أما مسابقة الأفلام القصيرة فستشهد مشاركة 23 فيلما من ضمن 16 دولة، ويترأس لجنة التحكيم الفلسطيني رشيد مشهراوي وتضم اللجنة في عضويتها كلا من رجاء بن عمار وعبد الحكيم مزياني ومحمود رضا ساني وزليخا سوزلاي.
بالإضافة إلى المسابقات الرسمية تزخر هذه الأيام بتفرعات أخرى منها قسم “شاشات الآتي” و”بانوراما السينما التونسية”، وستشهد الأيام احتفاء بالسينما الجزائرية وتكريما للطيب الوحيشي وتوفيق صالح وسليمان سيسي، بالإضافة إلى ندوات ودروس في السينما يؤمنها ثلة من المخرجين.
المنظور الغائم في زمان الانتظار:
على أبواب الشتاء القارس، لم يتزين شارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة تونس كعادته مثل ما دأب عليه. وفقدان الزينة ليس حدادا على الراحل الطاهر شريعة مؤسس الأيام السينمائية الذي فارقنا إثر نهاية دورة 2010، ولا حدادا على ثورة تونس بل هو غياب افتراضي لمقتضيات الزينة باعتبار سحب الملصق الرسمي نظرا لفوضى ثقافية وحراك تجريبي تشهده جميع القطاعات. الكتابة عن المهرجانات لا تقتضي المجاملة إلزاما في كل الأزمان بل إنّ مصداقية الواقع تفرض نفسها حسب سيرورة الأحداث. فأيام قرطاج

السينمائية حاولت بالمجهودات الصادقة لمديرها المسرحي محمد المديوني وفريقه المنظم، غير أنّ أولى المفاجآت كانت بإعلان ملصق المهرجان الذي غابت فيه الإبداعية واقتصر على شراء صورة من الأنترنيت ببضعة دولارات واتخاذها كمعلقة رسمية بعد إضافة اسم الأيام وزمن التظاهرة قبل أن يتمّ سحبها نهائيا بعد ضجّة كبرى في الشارع التونسي باعتبار غياب الإبداعية في حين يزخر المصممون التونسيون ومدارس الفنون بطاقات شابة تستطيع تصميم معلقة بعيدة كل البعد عن ذلك الاقتصاد الإبداعي الذي هو تحطيم لقيمة المبدع التونسي بالأساس. كما وقع التخلي عن المسابقة الوطنية للأفلام القصيرة بتعلّة تأسيس مهرجان وطني في فيفري القادم في حين سيتمّ عرض الأفلام المنتقاة في قسم أطلق عليه قسم البانوراما وسط تناقض عجيب، فما ضرّ لو تمّ الإبقاء على مسابقة تشجّع الشباب الحالم؟ إنّ هذا القرار الجائر بقطع النظر عن التعلات هو قرار محبط للعزائم، كما أنّ تركيبة اللجان “المستقلة” هي لجان معتمة لا يعلم عنها شيئا ما عدى بعض المقربين، ولا يوجد مقياس اختيار واضح مما يترك باب التأويلات مفتوحا على مصراعيه في حين تزخر الساحة التونسية بالكفاءات المحترفة والجامعيين المختصين. أيام قرطاج السينمائية هي انعكاس لفوضى وتجريب على غرار الساحة السياسية، وهي تخمة فيلمية برّرها المسؤولون عن المهرجان بنقص الدعم المالي، غير أنّ ما وجب أن يعيه المسؤولون في بهو الوزارة هو أنّ الاعتياد على دعم القنوات التلفزيونية الأجنبية والفرنسية تحديدا وبعض الشخصيات الفرنسية الفاعلة قد انتهى وولّى بعد الثورة وبالتالي لا بدّ من تحقيق هوية الذات وتسيير المهرجان بأموال تونسية أوبشراكات إفريقية وعربية واستثمار ثورة الكرامة عبر استرداد الكرامة الحقيقية. ستكون أيام قرطاج السينمائية كعادتها من خلال حضور محبي السينما وملئ القاعات غير أنّها تبقى انتظارات ورؤى في انتظار اتضاح الرؤية وانتظار الأيام وزمان الحرية، لكن ذلك مرتبط بشروط تغيير عقلية المؤسسة الرسمية ككل حتى تبقى تونس رائدة في الحركة الفنية والثقافية بعد أن عطّلت السياسة البائدة والعقليات المتكلسة مسارات الإبداع طيلة عقود من الزمن من خلال إرساء ثقافة الأطماع ومرتزقة الفن في شوارع الفكر. وبالتالي فإنّ تحييد الفردانية وسياسة التعيين الفوقي من خلال البقاء للأجدر ومراجعة المنظومة الثقافية والكراسي المؤبدة باتت بمثابة الضرورة الملحة كي تنقشع الغيوم وتتضح الرؤية، لتكون بقرطاج مراسم احتفال حقيقي تطمس به أفق الانتظار.