ايام مهرجان الاسماعلية في عمان

مناورات الروح في تجاوز تصدعها الداخلي

رانية حداد
هل ثمة فاصل بين تلك الارواح التي صدحت اصواتها بألم وغضب في شوارع عمان والمحافظات احتجاجا على رفع الاسعار، وتلك التي- بآن- صدحت بألم على شاشة الهيئة الملكية للافلام، ضمن تظاهرة ايام مهرجان الاسماعيلة في عمان؟  
 الالم  يوحد الانسان، ويُسقط جميع الحدود الجغرافية بين ارواح شخصيات الافلام التسجيلية والقصيرة المعروضة، وبين ارواح شخصيات الفيلم التسجيلي الحي الذي شهدته شوارع الاردن.

  “الطريق الى الاخر”
عنوان حملته الدورة الخامسة عشرة من مهرجان الاسماعيلية الدولي للافلام التسجيلية والقصيرة، كذلك النسخة الثالثة من ايام مهرجان الاسماعيلية في عمان (12-15 تشرين ثاني)، والتي هي ثمرة توأمة بين المهرجان والهيئة الملكية للافلام، يتم وفقها وبشكل دوري انتقاء عددا من افلام المهرجان التسجيلية، والروائية والتحريك القصيرة، وعرضها على الجمهور الاردني، وهذه السنة كانت بحضور الناقد السينمائي المصري رامي عبد الرازق، لمناقشة الأفلام بعد عرضها مع الجمهور.
في الطريق الى الاخر، طريق للتعرف على تجارب انسانية مغايرة، لم يسبق لاغلبنا ان اختبرها، وفي الطريق ايضا، ثمة اساليب ومعالجات سينمائية متنوعة، من شأنها ان تضيف معرفيا للمتلقي الاردني، ويمكن للمرء ان يلمس التفاوت بسوية وبراعة توظيف الاساليب بين الافلام القصيرة الروائية العربية المعروضة؛ البحريني “سكون”، اللبناني”خلف النافذه”، التونسي ” الطياب”، وبين نظيرتها الاوروبية، على وجه الخصوص تلك القادمة من جنوب شرق اوروبا كـ: رومانيا، وكرواتيا، والتي فرضت نفسها في الاونة الاخيرة، وحققت حضورا مميزا على الساحة السينمائية الاوروبية والدولية، حضور يتسم بالنضج، والبحث عن اساليب جديدة تحمل ملامح هوية خاصة.
غلب الحضور الاوروبي على هوية افلام التظاهرة، حيث من مجمل 20 فيلما، عرض 14 فيلما من اوروبا (رومانيا2، كرواتيا5، استونيا2، بلاروسيا1، ايرلندا2، النمسا1، اسبانيا1) سواء تسجيلي او روائي وتحريك قصير، مقابل 5 افلام روائية قصيرة عربية، وفيلم روائي قصير تركي.
 
عبثية الحرب والموت

ثمة تجارب لا تمضي دون ان تترك اثرا عميقا في حياة المرء، تقسم حياته بعدها الى ما قبل، وما بعد، الموت والحرب احد اقسى هذه التجارب، وهي ثيمة تغلب على افلام التظاهرة ابرزها واهمها، الفيلم التركي الروائي القصير “اربعة جدران”، فحرب البوسنة والهرسك افقدت البطل ميرزا  توازنه وسلامه النفسي، وتركته يعيش اسير ذعره وهلواساته، وهي الجدران التي تحتجزه داخلها، معتقدا ان الحرب ما زالت تستعر خارجا رغم انتهائها، ورواية الاحداث من وجهة نظر البطل، يعد اختيارا موفقا من قبل المخرج، ساهم في مضاعفة الاحساس بالمأساة، وبتعميق رسالة الفيلم التي تدين الحرب.  
تجربة سيلفستر كولباس، مخرج الفيلم الكرواتي التسجيلي الطويل “المراسل الحربي” ، لا تبتعد كثيرا عن تجربة ميرزا من حيث معاينة الذعر والموت، واكتشاف عبثية الحرب اثناء حرب كرواتيا من اجل الاستقلال، كولباس قادته الظروف للانتقال من التصوير الفوتوغرافي، ومن الاحتفاء بالحياة عبر لقطات ثابتة حاول من خلالها تجميد لحظات الجمال، الى مصور حربي ليكتشف بكاميرته الفيديوية فداحة الموت وبشاعة الحرب التي نخرت روحه، ليحاول من خلال فيلمه هذا -الذي هو بمثابة سيرة ذاتية- ان يعيد التوازن الى نفسه، وان يرأب صدع روحه، وان يعيد ترميم علاقته بالحياة، يحفل الفيلم بثنائيات منحته بعدا فلسفيا: الحياة والموت، الجمال والبشاعة، السكون والحركة، وساهم في تعميق هذا البعد التوظيف والتوليف المميز للصور الفوتوغرافية وشرائط الفيديو. 
اذ كانت تجربة بطلي الفيلمين السابقين مبنية على تماس مباشر مع الحرب والموت، فان تجربة ابطال الفيلم البيلاروسي التسجيلي القصير “الارض” على العكس  تقف على مسافة عقود من الحرب العالمية الثانية والموت الذي خلفته، وتتعامل مع بقايا عظام متحللة لجنود مجهولي الهوية طمرتهم طبقات التراب، فاراد مجموعة من المتطوعين الشباب التنقيب عن رفاة هؤلاء الجنود واعادة دفنهم بطريقة لائقة، كانت هذه الاستعادة بمثابة مرثية شعرية بصرية، كان لاستخدام المادة الارشيفية لجنود مقاتلين في ذات المواقع التي يتم التنقيب فيها قيمة اضافية للفيلم، وهنا يمكننا ان نقارن التوظيف المختلف والمتميز للمادة الارشيفية عن الحرب في كلا الفيلمين: “الارض”، و”المراسل الحربي”، توظيف للسكون او الحركة في محاولة لاستعادة الحياة او اللحظات الجميلة، فقد حاول فيكتور اسليوك مخرج “الارض” ان يستعيد من حركة الجنود في شريط الفيديو الارشيفي، لحظات حياتهم التي لم يبقَ منها سوى بضع عظام تدل عليها، اذن هي محاولة لاحياء تلك الاجساد، ولكن ما تكاد تلك الاجساد ان تومض وتتحرك حتى تختفي، في الوقت الذي عمل كولباس في “المراسل الحربي” العكس تماما، فاستخدم لقطات فوتوغرافية ثابتة في محاولة يائسة لاستعادة لحظات الحياة الجميلة، ولان تلك اللحظات لا يمكن استعادتها جعل ارتباطها باللقطات الثابتة، بالسكون، والموت.
 
مناورات الروح


اجساد تنوء بأوجاع روحها، وأخرى فقدت بوصلتها الى الروح، بين هذه وتلك تتحرك أغلب شخصيات افلام التحريك القصيرة – المعروضة في ايام المهرجان- باحثة عن خلاصها، الحرفية السينمائية العالية التي صنعت بها اغلب تلك الافلام، مكنت شخصياتها الكرتونية من ملامسة وجدان المتلقي، كما لو انها من لحم ودم، ففي الفيلم الكرواتي “حلاوة الروح” مثلا، وهو رحلة فتاة في البحث عن توأم روحها، لكن ما ان تجده حتى يغادرها ويمضي لتتكسر روحها على العتبة، تبدو الحبكة مألوفة، لكنها تتميز بمعالجة سينمائية رقيقة ومغايرة للمألوف، فعملت المخرجة ايرينا جوكيتش على ايجاد معادل بصري مادي مبتكر، لتجسيد ما هو غير مادي، وغير مرئي؛ كروح وافكار الشخصيات، والتحدي ان لا تستخدم اللغة او الكتابة، فالفيلم صامت، لذا عملت ايرينا على خلق لكل شخصية في الفيلم ظل يرافقها، وكل ظل يحمل زخرفته الخاصة التي تمثل هوية روحه وشكل افكاره،  فالارواح المتوافقة تتحد زخارفها وتمتزج ببعض برقة، ومن اجمل تلك المشاهد ذاك الذي يغادر فيه الحبيب الفتاة، فيتشظى نسيج زخرفتها الشبيه بالدانتيل، التي هي روحها الجميلة المكلومة. 
على النقيض من “حلاوة الروح” يقف الفيلم الاستوني “تصدع داخلي”،  فالروح تسقط من حسابات الجمال بالنسبة لانسان العصر الحديث المعتد بقوة جسده، فيتحرك بزهو، كما لو ان لا جمال يعلو على الكمال الجسماني، الذي شكّل في العصر الكلاسيكي ومن بعده النهضة، موضوعا محوريا تم تجسيده في فنون تلك الحقب، لنكتشف في النهاية خواء تلك الاجساد المفرغة من الروح والجمال، وكتعبير عن هذا التشوه والتصدع الداخلي جعل المخرج هاردي فولمر شخصيات فيلمه تتحرك في فضاء يمتلئ بالمنحوتات الفنية الكلاسيكية المعروفة  لكن المشوهة هنا.
 
نظرة الى الماضي

جميل ان يطلع المهتمون على التجارب الاولى لمخرجين، اصبحوا فيما بعد من اهم مخرجي السينما المصرية، اطلاع يخدم التعرف ومقارنة هذه البدايات بتجاربهم التالية، من ثم رصد كيف تطورت لغتهم السينما لاحقا، لذا كان لكلاسيكيات السينما المصرية نصيب في ايام المهرجان، ووقفة تكريم باستعادة عرض فيلمين مصريين روائيين قصيرين، لمخرجين من اهم مخرجي السينما الواقعية المصرية، وان كان كل منهما ينتمي الى جيل مختلف، وهما؛ صلاح ابو زيد، ومحمد خان.  
شكل فيلم “نمرة 6” انتاج 1942، البدايات الاولى للمخرج صلاح ابو سيف، وهو يختلف عن الاسلوب الواقعي الذي انتهجه ابو سيف لاحقا. “نمرة 6” فيلم كوميدي يقوم فيه ثلاثة لصوص ظرفاء بعملية نصب على رواد المقاهي يمثل احدهم الموت، ليتمكن الاخرين من جمع النقود من الناس لدفنه، الى ان تكشف حيلتهم. 
اما فيلم”البطيخة” انتاج عام 1973، شكل البدايات الاولى للمخرج محمد خان، والذي يمكن للمرء ان  يرصد من خلاله بعض المفرادت البصرية والاهتمام بالتفاصيل والاسلوب السينمائي الواقعي الذي سينتهجه خان في افلامه اللاحقة. “البطيخة” يوم من حياة موظف بسيط، تبدأ من مكان العمل، مرورا بالشارع، وتنتهي في البيت، رحلة قصيرة لكنهاغنية بما تعكس من هموم وهواجس المواطن المصري البسيط.

 
   


إعلان