“حجر الصبر”: فيلم من عالمنا.. بين البوح والشعر
أمير العمري
من أهم الأفلام التي عرضت في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بالدورة السادسة من مهرحان أبوظبي السينمائي فيلم “حجر الصبر” للمخرج الأفغاني عتيق رحيمي. هذا الفيلم شاركت في إنتاجه ست جهات إنتاجية من فرنسا وألمانيا وأفغانستان، وإن كان الفيلم يحمل جنسية مخرجه، وجاء ناطقا بالفارسية وليس بلغة الأفغان، كونه يعتمد بالدرجة الأساسية، على البطولة المطلقة للممثلة الإيرانية المتألقة جولشيفه فرحاني التي سبق أن تألقت في فيلم “عن إيلي” للمخرج أصغر فرهادي الذى حقق نجاحا كبيرا على الصعيد العالمي.
الفيلم هو العمل الثاني لعتيق رحيمي، الكاتب الأفغاني الذي يستوحي أعماله الأدبية من أجواء الفوضي السياسية ودمار الحرب الأفغانية في كتاباته. وقد أخرج رحيمي فيلمه الأول “أرض ورماد” عن رواية له بالعنوان نفسه عام 2004. رحيمي غادر إيران عام 1984 بعد دخول القوات السوفيتية إلى أراضي بلاده، ولجأ إلى فرنسا التي يقيم لها حتى اليوم شأنه في هذا شأن بطلته فرحاني التي غادرت إيران إلى فرنسا.
أرض ورماد
في “أرض ورماد” يروي رحيمي- على لسان رجل يدعي “داستاجير”، كيف دمرت القوات السوفيتية قريته بالكامل انتقاما لمقتل عدد من جنودها، وقتلت جميع أفراد أسرته، لم يبق منهم سوى حفيده “ياسين” الذي فقد السمع بفعل أصوات انفجارات القنابل، ونرى كيف يرحل الاثنان معا متجهين إلى حيث يعمل “مراد”، والد ياسين وابن داستاجير، الذي يعمل في منجم بعيد. فلابد من إخباره بما وقع من مقتل زوجته وجميع أفراد أسرته فيما عدا ياسين الذي يحاول أن يستوعب حقيقة ما وقع من مأساة إنسانية لاشك أنها ستترك تأثيرها على حياته حتى النهاية.
ويعتمد الفيلم على تصوير هواجس داستاجير طوال الرحلة، وقلقه الشديد من مواجهة ابنه، وعلاقته الجديدة مع حفيده الذي لم يعد يسمع.

أسلوب رحيمي السينمائي قد يبدو للبعض أسلوبا “أدبيا”، أي يعتمد على الحوار كما على لأداء التمثيلي بدرجة أساسية. لكن مع التأمل الأكثر عمقا في فيلمه الجديد “حجر الصبر” ندرك أنه يستخدم أسلوبا سينمائيا شديد الحيوية يقترب من الشعر السينمائي في أرقى صوره. فهو يكشف تدريجيا في كل لقطة، عن بعد جديد من أبعاد الموقف- الحدث- الشخصية. وهو لا يعتمد على إثارة الخيال من خلال “الحبكة” كما في “الحبل” لهيتشوك مثلا، لكنه يجعل من حركة الشخصية في المحيط- المكان- الديكور- الفضاء، تعبيرا عن ذلك القلق الداخلي الذي يدفعها إلى التعبير باللغة وبحركة الجسد، بالعلاقة مع ما هو موجود في المحيط، وبالعلاقة مع الذات، مع الدفين الذي يتبدى وينفحر فجأة. إن الإثارة هنا ذهنية تماما، تدفع إلى التأمل أكثر مما تجعلنا نترقب ما يحدث في المشهد التالي.
يقول عتيق رحيمي إنه استلهم موضوع روايته- فيلمه عندما كان مدعوا إلى مؤتمر أدبي في كابول في 2005، إلا أن المؤتمر ألغي فجأة بعد إعلان مقتل شاعرة أفغانية قتلها زوجها بسبب ما كتبته في ديوانها الشعري الذي يحمل اسم “الأزهار الحمراء الميتة” في خضم نوبة من الغضب الشديد اجتاحته وهو يقرأ الأشعار. وقد اعتقل الرجل وسجن، ثم سقط مريضا في السجن ونقل إلى المستشفى حيث دخل في غيبوبة طويلة.
حالة إنسانية
فيلم “حجر الصبر” لا يروي قصة، لكنه يلخص حالة إنسانية كاملة، ولا يعرض لصراع خارجي بين شخصيات، لكنه يختصر صراعا داخليا هائلا، يأتي انعكاسا لمضاعفات صراع خارجي شرس.
المكان غير محدد.. قرية في دولة قريبة من منطقتنا التي يدعونها (الشرق الأوسط).. دولة إسلامية بالتأكيد، لكن الحرب والاشتباكات المسلحة العنيفة الدائرة والملابس، توضح أنها أفغانستان. الشخصية الرئيسية هي شخصية تلك المرأة الشابة (لا إسم لها أيضا) التي يرقد زوجها في غيبوبة بعد أن أصيب بطلق ناري في رقبته. هو ممدد على فراش بدائي في البيت، وهي تقوم بتمريضه عن طريق إعطائه الماء بواسطة أنبوبة بلاستيكية متصلة بفمه. عيناه مفتوحتان وكأنه يرى، لكنه لا يرى ولا يسمع.
الزوجة الشابة تركها زوجها الذي كان يقاتل في صفوف إحدى الجماعات المسلحة، ولم يهتم أحد من رفاقه بأمرهما بعد ما وقع، أبعدت طفلتيها إلى منزل أمها، وأصبحت تلجأ أحيانا إلى خالتها وهي امرأة في منتصف العمر، بائعة هوى سابقة متأنقة، تقول لها “إن الرجاال الذين يلجأون إلى الحرب، لا يعرفون كيف يمارسون الحب”. وتنصحها بأن تلجأ إلى مناجاة “حجر الصبر”- وهو جزء من أسطورة فارسية حول ذلك الحجر الذي يلجأ إليه أصحاب المواجع لكي يبثونه لواعج قلوبهم وهمومهم الذاتية وهواجسهم، يطلعونه على ما يخفونه من أسرار لعل هذا البوح يخفف عنهم الحزن والأسى والتمزق، وعندما لا يمكن لذلك الحجر أن يتحمل بعد أن يمتليء بكل تلك القصص والحكايات المأساوية التي تقص عليه، فإنه ينفجر ويتفتت!
تطبق المرأة النصيحة فتبدأ تقص على زوجها الممدد تقلبات حياتها منذ الطفولة، كيف نشأت، وكيف كانت ترى حياتها معه وهو الغائب العاجز المثير للقرف والتقزز، الذي أهملها فشعرت بالوحدة، لدرجة أنها كانت أحيانا تتحسس جسدها في الليل، بحثا عن لحظات متعة زائلة مسروقة، محرمة، وكيف كانت اتهامات أمه لها بالعقم، وضغوطها على ابنها لكي يتزوج غيرها بسبب ما كانت تظنه عجزا أصيلا لديها عن الإنجاب، سببا في مضاعفة عذابها، وكيف أنها ذهبت لطلب نصيحة رجل.. ممن يقال إنهم أصحاب علم ومعرفة قام بترتيب لقاء لها مع رجل دخل عليها وهو معصوب العينين، لم تر وجهه أبدا في ظلام غرفة باردة حقيرة، إلى أن حملت وأنجبت طفليها.
هذه الاعترافات المثيرة تأتي مصحوبة باللعنة، بذلك الإحساس الأنثوي الدفين الذي ينفجر فجأة ليلعن كل تلك الحياة التي كانت، مع ذلك الرجل- السيد- المستبد- البطريريك، العاجز عن ممارسة الحب، المشغول أكثر بالقتال، والأحمق الذي يفقد حياته تقريبا ويدخل ذلك النفق المظلم بعد محاولته الثأر لكرامته المهدرة بعد أن أهانه أحدهم، وسب والدته سبا مقذعا!
هذا “المونولوج” الطويل الممتد، يقطعه اقتحام المسلحين للمنزل. يبحثون عن فريسة لهم. المرأة ضعيفة في مواجهتم. ترجوهم أن يتركوها لحال سبيلها، تخشى أن يقوموا باغتصابها، تضطر لأن تدعي أنها “بائعة هوى” تبيع جسدها لكي تنفق على طفليها. الرجال الذين يدعون الشرف والتدين، ينفرون منها ويصبون عليها اللعنات. إنها في نظرهم “فاجرة”. أما هي فتقول معلقة على الموقف إنها فعلت ذلك إيثارا للسلامة لأن هؤلاء الوحوش يتقززون من مضاجعة امرأة ضاجعها مئات الرجال من قبل. إنهم يفضلون إغتضاب العذارى!
الحقيقة والخيال
من بين هؤلاء الرجال شاب، نعرف فيما بعد أنه وحيد، يتيم، يسيء الرجال معاملته ويسخرون منه. هذا الشاب يعود إلى بطلتنا يلقي إليها حفنة من الأوراق المالية ويطلب أن يضاجعها. أليست عاهرة محترفة ترضخ لمن يدفع؟
المرأة تشفق عليه، خصوصا وأنه عديم الخبرة، متلعثم في كلامه، متردد، فاقد الثقة بنفسه. تقوم بتعليمه وإرشاده إلى طرق إرضائها جسديا. إنها تسعى لكي تعوض ما فقدته مع زوجها. وتدريجيا تنمو علاقة إنسانية بينهما. إنها تبدو وكأنها أصبحت أما له.. ولم يعد ممكنا أن يتخلى هو عنها. فيعود ليراها مرة ومرات. في الوقت نفسه تستمر أحاديث المرأة إلى “حجر الصبر”.. ذلك الزوج الذي يرقد فاقدا وعيه تماما. مفاجأة تنتظرنا في نهاية الفيلم. فعندما تعترف له المرأة بما لجأت إليه من حيلة لكي تنجب، وبأن طفليهما ليسا من صلبه، تمتد يد الرجل فجأة تقبض على رقبتها، يخنقها تدريجيا بكل قسوة. لقد عاد الوعي إليه فجأة. تقول هي في تشف وكراهية واضحة: الآن أعدتك إلى الحياة. تمتد يدها إلى الخنجر الذي كان دائما قريبا منها وتطعنه طعنة الموت.

هل كان هذا حقيقة أم خيال؟ يتركنا الفيلم ونحن نقف في تلك المنطقة الرمادية بين العالمين فنحن حقا أمام قصة واقعية لكنها واقعية شعرية، والشعر يقبل كل التفسيرات، وكل الاحتمالات.
العذاب
إنها قصة ذلك العذاب الأنثوي في مجتمع ذكوري يحتفي بالحرب، ويدين الحب. إن بطلتنا المعذبة تسمح لنفسها أخيرا مع استمرارها في البوح الذي لم يكن ممكنا من قبل، بأن تتحسس زوجها وتقبله على نحو لم تكن تجرؤ أن تفعله من قبل. إنه فاقد للوعي، جريح، لكنها هي التي تدفع الثمن، فهو لا يشعر بشيء في حين أن إصابته تفجر فيها كل تداعيات المعاناة القديمة طوال عشر سنوات معه.
لا يكشف الفيلم بشكل مباشر عن “رسالة” تدين أو تشجب، بل يكتفي بالبوح الذي يخفي أكثر مما يكشف لكنه يشير إلى الكثير مما يحدث في مجتمع مغلق.. متشدد، يتستر بالدين لتبرير كل الموبقات.
رواية عتيق رحيمي حصلت على جائزة جونكور، أرفع جائزة أدبية في فرنسا. ولم يكن ممكنا أن تأتي صياغتها في سيناريو سينمائي رفيع المستوى كهذا سوى من خلال تعاون كاتب مرموق هو جان كلود كاريير (الذي اشترك في كتابة السيناريو لأهم أفلام لوي بونويل وعدد من أهم الأفلام الفرنسية). ولاشك في وضوح بصمة كاريير على الفيلم، فالشخصية تكشف عن أبعادها تدريجيا، ويتحول الصمت إلى مونولوج بعد تمهيد مناسب، والتداخل بين العام والخاص منسوج ببراعة. ففي أحد المشاهد التي يقتحم فيها المسلحون البيت، يعثرون على جسد الرجل الجريح. يتوقف أحدهم أمامه ويتساءل: إنني أعرف هذا الرجل.
حركة الكاميرا رصينة في انتقالاتها المحسوبة، من الداخل إلى الخارج، ومن النور إلى الظلام. والانتقال من اللقطات القريبة إلى اللقطات المتوسطة والبعيدة محسوب بدقة. والزمن الإجمالي للفيلم لا يحتوي على زيادة وليس فيه نقصان.
ولم يكن ممكنا أن يأتي الفيلم على كل هذا النحو من الجمال والسحر والرونق والتأثير إلا بفضل قيام ممثلة بموهبة الإيرانية جولشيفه فرحاني بالدور الرئيسي. إنها تعبر بثبات وقوة تأثير مذهلة في كل المشاهد، بل وتحمل الفيلم على كتفها وحدها، وتنتقل ببراعة وعفوية مليئة بالصدق، من النفور إلى الفرح، ومن الكآبة، إلى المرح، ومن الصمت إلى الكلام، ومن المقت والكراهية إلى الرقة والتأمل والحزن النبيل. هذه ممثلة ولدت لكي تقوم بهذا الدور، وكافحت من أجل إقناع رحيمي بإسناده إليها، ونجحت لحسن الحظ.
فيلم “حجر الصبر” متعة للعين وللاذن، للفكر وللفن.