“المهدي بن بركة: اللغز”

دراما الديمقراطية بالمغرب

محمد اشويكة

-1-
يتابع المخرج المغربي محمد بلحاج نَبْشَهُ في التاريخ السياسي المعاصر للشعوب العربية من خلال إنجازه لسلسة من الأفلام الوثائقية التي تتناول بالمتابعة والتشريح والمساءلة بعض الأسئلة الغائرة في الجرح العربي، خاصة تلك القضايا التي يلفها النسيان أو تحيط بها السرية نظرا لحساسيتها المفرطة بالنسبة للأنظمة.. فقد بَحَثَ في سِيَر كل من: “عبد الكريم الخطابي” [فيلم ” أسطورة الريف”]، مصطفى العقاد [فيلم: “هل تستمر الرسالة؟”]، و”أحمد الشقيري” [فيلم: “من جذور فلسطين: أحمد الشقيري”]، و”المهدي بنبركة” [فيلم “المهدي بن بركة: اللغز”].. محاولا تتبع مسارات رجال أَثَّرُوا تدريجيا في محيطهم الوطني والإقليمي والدولي، فاختلفت مصائرهم، وتفاوتت نهايات مشاريعهم بشكل درامي.. انزاحت اختيارات المخرج نحو ذلك التوجه بغاية ملامسة مكامن الجرح والعطب في الذات العربية التي كلما ظهرت فيها بوادر الوعي إلا وتتكالب عليها الظروف لكي تتهاوى بسرعة تراجيدية!
إن اختيار تلك الشخصيات كموضوعات وثائقية يضع المتلقي في قلب تلك الدراما، بل ويؤجج في دواخله فجائعية المواقف، ويساعده على استحضار نضالات تلك الرموز بشكل مركب: طموح الحُلم، ومآل الحَالِم…

وتلك حكاية الديمقراطية في بلداننا…

-2-
عالج المخرج محمد بلحاج في فيلم ” بن بركة اللغز” قضية المناضل الأممي المغربي المهدي بنبركة، ولعل السؤال الذي يتبادر إلى ذهن المواكب لمسار الرجل، وملف “موته/اختفائه” الذي لم يَزِدْه التقادم إلا توهجا ودواما؛ هو: ما الذي سيضيفه هذا الفيلم إلى الأفلام الروائية والوثائقية التي تناولت قضيته؟
قبل الخوض في التفاصيل، لا بد من التذكير بأن المهدي بن بركة كان من المناضلين القلائل الذين آمنوا بضرورة التوثيق السمعي – البصري للحركات النضالية والقومية، وتدوين كافة أشكال المقاومة الإنسانية التواقة إلى التحرر.. لذلك، فلا غرابة في أن تقوده قناعاته النضالية، وحبه الدفين للفن إلى ذلك المصير المجهول الذي ستستوحيه السينما – انطلاقا من لقاء سينمائي مُفَبْرَك – لتخمين مسارات تخييلية سيصبح المهدي بن بركة وَقُودًا لها… وفيما يلي عناوين أهم الأفلام الروائية والوثائقية التي قاربت كليا أو جزئيا قضية المهدي بنبركة وحَوَّلَتْهَا إلى موضوع سينمائي:
– الأفلام الروائية: فيلم “المطعم الكبير” (Le Grand Restaurant) [1966] للمخرج جاك بيسنار “Jacques Besnard”؛ فيلم (صُنِعَ بالولايات المتحدة الأمريكية) “Made in USA” [1966] للمخرج جون لوك گودرا “Jean-Luc Godard”؛ فيلم (الاغتيال) “L’Attentat” [1972] للمخرج إي? بواسي “Yves Boisset”؛ فيلم (مغامرات ربيع جاكوب) “Les Aventures de Rabbi Jacob” [1973] للمخرج جيرار أوري “Gérard Oury”؛ فيلم (رأيتهم يقتلون بن بركة) “J’ai vu tuer Ben Barka” [2005] للمخرجين سيرج لوبِّيرون وسعيد السميحي “Serge Le Péron et Said Smihi”؛ فيلم (قضية بنبركة) “L’Affaire Ben Barka” [تلفزيوني من إنتاج سنة 2007] للمخرج جون بيير سينابي “Jean-Pierre Sinapi”…
– الأفلام الوثائقية والروبورتاجات السِّجَالِيَّة: فيلم (بنبركة: المعادلة المغربية) “Ben Barka: L’Équation Marocaine” [2002] للمخرجة سيمون بيتون “Simone Bitton”؛ ربورتاج “تحقيق حول اختفاء المهدي بنبركة” (Enquête sur la disparition de Mehdi Ben Barka) من إنجاز الصحافي “Lebrun Bernard”؛ ربورتاج حواري بثته القناة الفرنسية الخامسة سنة 2010 تحت عنوان “محققو التاريخ: من ساهم في اختفاء بنبركة؟” (Les détectives de l’histoire: Qui a fait disparaître Ben Barka?)…
يستند المتن الفيلمي المستوحى من قضية اختطاف المهدي بن بركة على نفس الحكاية.. فما الذي تتقاسمه تلك الأفلام فيما بينها؟ ما هو سقفها؟

-3-
تتبنى الأفلام الروائية خطا سرديا واحدا مع تنويعات بسيطة على مستوى المقاربة الفنية واختلاف زوايا النظر، أما الأفلام الوثائقية فتعتمد على نفس الوثائق مما يجعل طرائق “السرد الوثائقي” تختلف بحسب أساليب المعالجة ونوعية الشهادات التي تستند عليها…
نلاحظ أن فيلم “المهدي بن بركة: اللغز” للمخرج محمد بلحاج لم يشرع في طرح قضية الاختفاء كجريمة سياسية إلا بعد أن قَدَّمَ – من منظوره – أهم المحطات/المنجزات التي شكلت العلامات البارزة في حياة الزعيم المهدي بن بركة، وذلك ابتداء بمرحلة الطفولة التي لم تكن عادية لأن ولوج المدرسة لم يكن سهلا مما قاده إلى النبوغ في موادها وخاصة في مادة الرياضيات التي قادته إلى ولوج عوالم القصر حيث سيشتغل في خدمته وفق رؤية وطنية تسعى إلى التطوير والتحرر والانعتاق من ربقة المستعمر.. فالرجل قد أشرف على تنظيم الزيارة التاريخية التي قام بها الملك محمد الخامس إلى طنجة حين كانت ترزح تحت ثقل التقسيم الدولي، كما انتُخِبَ كأول رئيس للمجلس الوطني الاستشاري الذي كان بمثابة المشتل التجريبي لتعميق الممارسة الديمقراطية التي سرعان ما انتهت فصولها حين تَمَّ حَلُّ المجلس سنة 1950. بعد ذلك جاء ورش طريق الوحدة الذي كان الغرض منه تجميع عدد مهم من الشباب للتربية على المواطنة والتعلم، وربط شمال المغرب بجنوبه المُوزَّعِ بين فكي الاستعمار الإسباني ونظيره الفرنسي…
يشبه المهدي بن بركة الاستعمار بالشجرة التي تغطي أشياءَ أخرى سلبية، يقول: “ولكن ماذا نعني بمهامنا ضد الاستعمار في المجال الداخلي؟ إنها تتلخص في تصفية مخلفات السيطرة الأجنبية، وإنهاء تبعيتنا في الميادين الاقتصادية والمالية والثقافية” ، وهذا ما يعني إحداث القطيعة مع التبعية، والتحرر من المنطق الكولونيالي الذي خَطَّطَ لأن تُمَارَس السلطة في المغرب وفق رؤيته ومخططاته، فيتأخر المغرب في توجهاته “نحو بناء مجتمع جديد”  يزوده بالطاقة اللازمة للاستمرار في تحمل “مسؤوليات”  ما بعد الاستعمار.
وُضِعَت قناعات المهدي بن بركة على المحك حين حُلَّت الجمعية الوطنية التي كان يرأسها، ثم تلتها إقالة حكومة عبد الله إبراهيم بتاريخ 20 ماي 1960 ليبدأ مسلسل الخلاف فيما بينه وبين الملك الحسن الثاني حول دستور 1962 الممنوح.. شَكَّل ذلك الصراع بداية التخطيط لاغتيال المهدي بن بركة – حسب الشهادات التي بثها الفيلم – انطلاقا من حادثة سير مُدَبَّرَة، قادته للجوء إلى القاهرة، والاشتغال بمنظمة التضامن الإفريقي الآسيوي التي تَرَأَّسَ لجنةَ دعمِ حركاتِ التحررِ فيها، ومن هناك بدأ الرجل يعمق امتداده العربي والإفريقي آملا تحقيق حلم الولايات الإفريقية المتحدة على طريقة الزعماء التحرريين والأمميين الكبار الذين التقاهم وتقاسم معهم فلسفة التحرر: هوشي منه، جمال عبد الناصر، فيديل كاسترو…

رفض المهدي بن بركة حرب الرمال بين الجزائر والمغرب واعتبرها ضد “التوجهات الاشتراكية” للجزائر، وضد مبدأ العدالة والسلام، فزاد من رفع مستويات الحملة ضده سيما وأنه قد أجهر بمواقفه المعادية للإمبريالية والتوسع الأمريكي، وساند القضية الفلسطينية كواحدة من قضايا حركات التحرير العالمية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقاد المصالحة بين عبد الناصر وحزب البعث السوري.. وعليه، فقد تحول من عدو للنظام المغربي إلى عدو للمستعمر ولأمريكا وإسرائيل كما بَيَّنَ ذلك الشريط الوثائقي من خلال الشهادات والوثائق.

-4-
اعتمد المخرج محمد بلحاج في نسج خيوط السيناريو، وتدبير عملية الإخراج على أسلوب الأفلام التحقيقية، ووثائقيات الجرائم السياسية، ومحاضر الاستنطاقات البوليسية.. التي تنبني على الوثائق المكتوبة، والأرشيف المصور، واستعادة الأحداث والوقائع بناء على محنة العائلة: شَكَّلَ استجواب البشير بن بركة (ابن الفقيد)، والسيد عثمان بناني (صهر المهدي بن بركة)، العمود الفقري للفيلم، واعتمد على دعم أقوالهما بشهادات أخرى تنوعت بين محامي العائلة موريس بيتان Maurice Buttin، والمؤرخ والكاتب روني گاليسو “René Gallissot”، وبعض المناضلين الذين عايشوا المهدي بن بركة كعبد اللطيف جبرو وبنسعيد آيت إيدر وعبد الرحمان بن عمرو وغيرهم.. حاول المخرج، أيضا، أن يصور، ولو بشكل جزئي، بعض الأمكنة التي كانت مسرحا لاختطاف المهدي بن بركة كمقهى لِيبْ “Brasserie LIPP”، وشارع سان جيرمان وبعض الفضاءات القريبة من الدائرة الجغرافية للجريمة، إضافة إلى مبنى ال?يلا المتواجدة بضاحية “Fontonay le Vicomte” القريبة من باريس، كما وَظَّفَ بعض اللقطات المُصَوَّرَة بمدينة الرباط حيث ناوب بين الأبيض والأسود والألوان، واستعان بتقنيات الدمج بين صُوَرِ الأماكن ذات الصلة بالقضية لإضفاء المعقولية التخييلية على الوقائع خاصة وأن تسلسل الأحداث الدرامية وتلاحقها، ومأساوية الشعور بها، مسائلٌ لن تفسح المجال لأي تحليل قد يَنْدَسُّ – لسبب من الأسباب – خلف إثارة الأحاسيس الشاعريةِ اللهم إذا أردنا أن نُشَعْرِن الفاجعة والاغتيال والاختطاف أسوة بشاعرية القبور والجثث وغيرها من المَشَاهِد المُعَاكِسَة للحياة!
اختار المخرج منذ بداية الفيلم إطارا كان يضع فيه بعض الصور الفوتوغرافية الدَّالة والمؤثرة في مسار المهدي بن بركة، وهو الإطار نفسه الذي ستتعاقب عليه صورُ المتهمين أو المتورطين في اختطافه واختفائه، لينتهي الفيلم بسلسلة من الإطارات السوداء الفارغة كدلالة على استمرار الغموض والسواد وامتداد الفاجعة.. تفيد لعبة استخدام الإطار داخل الإطار “Le cadre dans le cadre” من الناحية الفنية في تعميق التبئير والتركيز على الحدث الفيلمي وترسيخه، لذلك تناوب على الظهور في نطاقه المناضل المهدي بن بركة وخصومه السياسيين والمتورطين في قضيته. كان الإطار بمثابة الخطوط التي تجعلنا نحصر النظر وتدعونا لتأمل من يتمركز بداخله، وبذلك فقد شَكَّلَ بحق إضافة فنية ساهمت في تكسير التوتر النفسي الذي قد يعتري البعض فضلا عن إثارة الانتباه إلى حجم الضرر الذي لحق المهدي بن بركة وعائلته جراء مكابدتهم لمحنة الاختطاف وويلاتها…

-5-
ليس عبثا أن يحظى حادث اختطاف المهدي بن بركة باهتمام السينمائيين والروائيين ، بل إن الذريعة التي اختلقها مختطفوه لاستدراجه إلى باريس كانت تخييلية سينمائية، فقد صَدَّقَ الرجل الحبكة التي نسجتها له المخابرات، سيما وأن المخرج الشهير جورج فرونجي “Georges Franju” سيتكفل بإخراج الفيلم الذي ستتصور تفاصيله الكاتبة اللامعة مارغريت ديراس “Marguerite Duras”.. فما الذي سيجعل “الضحية” يمتنع عن مناقشة مشروع الفيلم الذي سيكون مستشارا تاريخيا وسياسيا له، وذلك بعد أن ضبط لقاءه مع الصحافي بيرنيي “Bernier” والمنتج السينمائي فيگو “Figon”؟ ثم ما الذي سيعوزه، وهو الحركي المقدام، عن المساهمة الفعلية في التأريخ للحركات الثورية ما دام منخرطا فيها ومُبَلْوِرًا لطموحاتها؟
كانت نهاية “بطل” الفيلم تراجيدية لأن أطوار اختفائه شبيهة من حيث ملابساتها بقتل الرئيس الأمريكي كينيدي يوم 22 نوفمبر 1963 (رغم بعض الفوارق التفصيلية)، لتتوالى – بعد ذلك – سلسلةُ موتِ جل الأسماء التي لها صلة بالحادثة:
– موت فيگو برصاصة في الرأس وهو الذي نسبت إليه مجلة “L’express” الفرنسية في يناير 1969 جملته الشهيرة: “J’ai vu tuer Benbarka” (رأيتهم يقتلون بن بركة)…
– موت الشاهد التهامي مشنوقا…

– موت أوفقير والماحي والدليمي والمتورطين الفرنسيين…
– اعتبار الجنرال دوغول – في تصريحه التمويهي – بأن القضية ثانوية…
– البحث عن جثة المهدي بن بركة في مستنقعات “الإيستون”!
– الحديث عن تذويب  جثة المهدي بن بركة في مستحضر كيماوي خاص…
أليست تلك نهاياتٌ مفترضةٌ لفيلمٍ تراجيدي يمزج بين الأسلوب الواقعي والسوريالي قصد تنويع جرعات التمويه؟
يظهر أن ملف هذه القضية سيظل مفتوحا ما دامت الجثة مفقودة…
رغم المؤاخذات التي يمكن أن نسجلها عن الفيلم من حيث التأطير السياسي والتاريخي والنضالي للقضية (سجن المهدي بن بركة وخروجه منه سنة 1945، الصراع حول السلطة بعد 1956، تأطير المهدي بن بركة لحركة 25 يناير سنة 1959…)، وعدم تسليط الضوء على النسق الفكري للمهدي بن بركة، ومحدودية الشهادات التي تَمَّ الاستناد عليها من حيث الاختصاص والمُعَايَشَة ، إضافة إلى الاستناد على الأرشيف الرسمي.. إلا أن شريط “المهدي بن بركة: اللغز” يظل جديرا بالتقدير ما دام يدخل في إطار رؤية تتأسس على إعادة النبش في خبايا التاريخ العربي المعاصر والراهن، فنحن في حاجة ماسة إلى إنعاش ذاكرة الأجيال الحالية التي تفتقد اليوم، وهي تعيش المخاضات الدرامية للديمقراطية على امتداد العالم العربي، إلى كاريزما مثل تلك الرموز…

هوامش:
 1 – المهدي بن بركة؛ الاختيار الثوري في المغرب؛ دفاتر “وجهة نظر”؛ العدد: 22؛ الطبعة الأولى 2011؛ ص: 66.
2- عنوان محاضرة شهيرة للزعيم المهدي بن بركة.
3 – “مسؤولياتنا”.. محاضرةٌ مُؤَسِّسَة لفكر المهدي بن بركة الذي مارس النضال وفقا لمبادئ الزعماء الكبار الذين زاوجوا بين التنظير والبراكسيس Praxis…
4- نشير إلى رواية الكاتب باتريك موديانو “Patrick Modiano” التي تحمل عنوان “عشب الليالي” (L’herbe des nuits) الصادرة عن دار النشر گاليمار سنة 2012.
5- لم يشر الفيلم لهذه الرواية…

 6- تطرق محمد عابد الجابري في سلسلة “مواقف” (العددان 6 و7 من سنة 2002) إلى شخصية المهدي بن بركة من خلال:
– “المهدي بن بركة: مسؤوليات الاستقلال ومهام بناء المجتمع الجديد”
– “المهدي بن بركة: النقد الذاتي، مؤتمر القارات الثلاث، والاختطاف”.


إعلان