الأخوان تافياني يتحدثان عن “قيصر يجب أن يموت”
ترجمة: أمير العمري
الأخوان باولو وفيتوريو تافياني، ظاهرة فريدة في سينما العالم، فهما توأم (في الثمانين من عمرها حاليا) يعملان معا، يكتبان ويخرجان الأفلام منذ نحو خمسين سنة، وهما يتبادلان إخراج المشاهد، لكن الأسلوب واحد وهذه معجزة الفن. وقد سبق أن حصلا على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان عن فيلمهما الشهير “الأب السيد” عام 1977، ثم عادا فحصلا على جائزة لجنة التحكيم عام 1982 عن فيلم “ليلة سان لورنزو.
فيلمهما الأحدث “قيصر يجب أن يموت” تجربة غير مسبوقة في السينما، فقد دار تصويره داخل سجن، ويقوم بكل أدوراه سجناء معظمهم من الخطرين. والأكثر غرابة أن الموضوع يقوم على مسرحية شكسبير الشهيرة “يوليوس قيصر”. ومعظم الفيلم مصور بالأبيض والأسود.
في هذا الحوار يتحدث الأخوان تافياني عن هذه التجربة الملهمة:
أولا هل من الممكن الحديث عن قصة هذا المشروع؟
لقد حدث كل شيء مصادفة تماما مثل فيلمنا “الأب السيد” Padre Padrone عندما بدأ المشروع بعد أن التقينا براعي أغنام وأيضا خبير في اللغات من سردينيا هو دافينو ليدا. أما هذه المرة، فقد جاء المدخل بعد مكالمة تلفيونية مع صديق عزيز لنا، تمكنا من خلاله من الوصول إلى التعرف على عالم لم تكن معرفتنا به موجودة سوى من خلال الأفلام الأمريكية، بل وحتى سجن رابيا Rabbia ، ذلك السجن الروماني القائم في ضواحي روما، يختلف تماما عما شاهدناه في الأفلام. ورغم هذا ففي أول زيارة لنا إلى هذا السجن تراجع الطابع الكئيب للحياة وراء القضبان وحل محله نوع من الحيوية الشديدة التي تميز الأحداث الثقافية، فقد كان نزلاء السجن يرددون عبارات من “جحيم” دانتون. كانوا يتدربون على هذا العمل. واكتشفنا بعد ذلك أنهم من السجناء شديدي الخطورة، معظمهم ضالع في عصابات إجرمية ضليعة في الإحرام مثل المافيا والجومورا وندرانغيتا، وقد حكم عليهم في معظم الحالات، بالسجن مدى الحياة. وكانت مواهبهم الغريزية في التمثيل يتم التعبير عنها من خلال رغبتهم الشديدة في كشف الحقيقة، وقد تمكن المخرج فابيو كافاللي من توجيه تلك المواهب في الاتجاه السليم. وبعد أن غادرنا السجن وجدنا أننا في حاجة إلى معرفة المزيد عنهم وعن ظروفهم وأحوالهم. لذلك قمنا بزيارة ثانية وسألناهم ما إذا كانوا يرغبون في العمل في معالجة سينمائية لمسرحية “يوليوس قيصر” لكشسبير. وكان جواب فابيو والسجناء مباشرا وفوريا، وهو “لنبدأ الآن”!

هل كل الممثلين الذين نراهم في الفيلم هم من السجناء؟ وهل سارت التدريبات على نحو ما نشاهد في الفيلم؟
إن كل الممثلين الذين يظهرون في الفيلم هم من السجناء المحكوم عليهم بأشد العقوبات. وإذا شئنا مزيدا من الدقة، يمكن أن نضيف أن سلفاتري ستريانو (زاوزا) الذي يقوم بدور بروتوس، أنهى بالفعل مدة عقوبته في سجن رابيبا وكان قد حكم عليه بالسجن لمدة 14 سنة وثمانية أشهر. وقد قضى ست سنوات وعشرة أشهر، وبعد صدور عفو أصبح الآن مواطنا حرا. نفس الأمر بالنسبة لستراتوني. الشخصية الوحيدة “الغريبة” على السجناء هي شخصية أحد مدربي التمثيل في السجن وهو موريللو جيافريدا. أما بالنسبة للتدريبات نحن اكتسبنا، عبر سنوات من العمل، طريقة بسيطة ولكنها فعالة في التعامل مع الممثلين، فنحن نطلب منهم أن يقوموا بتقديم أنفسهم، كما لو كانوا يقفون أمام موظفي الحوازات، ثم نطلب من كل منهم أن يقوم بتوديع شخص ما يحبه ونطلب منهم التعبير في المرة الأولى عن الألم، وفي الثانية عن الغضب. بهذه الطريقة أمكن لنا اختيار عدد من الممثلين بالتعاون مع فابيو كافاللي الذي أطلعنا على صور فوتوغرافية لبعض السجناء الذين كان قد اختارهم من قبل والذين اخترناهم فيما بعد دون أي جهد إضافي. أما بالنسبة للباقين فقد طلبنا منهم- ضمانا للخصوصية- اختيار أسماء وهمية لهم، لكنهم جميعا لدهشتنا الشديدة، فضلوا الإبقاء على أسمائهم الحقيقية وذكر أسماء آبائهن ومكان ولادتهم. وبعد فترة أدركنا أنهم يريدون أن يصبح الفيلم وسيلة لكي يقولوا لمن يعرفونهم في الخارج إنهم يعيشون حياة هادئة في السجن.
هل التزمتم بالسيناريو المكتوب أم تركتم لأنفسكم حرية الارتجال كما لو كنتم تصورون فيلما تسجيليا؟
لقد التزمنا بالسيناريو. كتبنا سنياريو كاملا كما نفعل مع كل أفلامنا، ولكن كما هو الأمر دائما، بعد أن نصبح في موقع التصوير حيث تدور الكاميرا ويبدأ الممثلون في العمل، يتغير السيناريو ويتخذ شكلا آخر، وأيضا يكون هناك تأثير لأماكن التصوير والإضاءة والظلام وغير ذلك. ومع كل الاحترام الواجب لشكسبير (الذي كان دائما أبا وأخا، وبعد أن تقدمنا في العمر- إبنا) فقد استولينا على “يوليوس قصير” وقمنا بتفكيكها وأعدنا بناءها. لقد حافظنا على روح التراجيديا الأصلية كما حافظنا على السياق القصصي، ولكن في الوقت نفسه قمنا بتبسيطها وانتقنا بها بعيدا عن الإطار التقليدي لخشبة المسرح. لقد حاولنا ان نبني ذلك الكائن السمعي البصري الدقيق الذي يسمى الفيلم، وهو الإبن الخطير لكل الفنون التي سبقت السينما. إنه إبن كان شكسبير ليسعد به بالتأكيد. وقد ساعد فابيو كابيللو كثيرا في ترجمة حوار النص إلى اللهجات المختلفة التي يتحدث بها السجناء الذين يقومون بالتمثيل. لقد فهموا ما كنا نعتزم تقديمه وقدموا أداء خلابا بدرجات مختلفة من المشاعر والتماثل. وبفضلهم وبفضل الصدق الذي انعكس في آدائهم، تغير السيناريو ونما. وللتوضيح نود أن نذكر فقط المثال التالي: هذا الرجل الذي ينتمي إلى نابولي والذي يضع إصبعه على أنفه ويشير للجمهور بالصمت لم يكن موجودا في السيناريو. ولكنه ذكرنا بالكثير من شخصيات شكسبير المجنونة كما لو كان قد هرب من تراجيدياته. وقمنا بإدخال هذه الشخصية للسيناريو.
لماذا اخترتم “يوليوس قيصر” لشكسبير؟

لم نفكر في أي عمل آخر سواها. وجاء اختيارنا بحكم الضرورة فقد كان الرجال الذين أردنا العمل معهم لهم ماضي يرغبون في مواجهته، ماضي تشوبه الأخطاء والمشاكل والجرائم والجنح والعلاقت المفككة. ولذلك كان يتعين علينا أن نواجههم بقصة قوية توازي قصصهم الشخصية، تسير في الناحية الأخرى. وفي هذه النسخة الايطالية من “يوليوس قيصر” فإننا ننقل إلى الشاشة الفضية علاقات عظيمة ومؤسفة بين البشر تشمل الصداقة والخيانة والسلطة والشك والجريمة أيضا. كان كثير من السجناء- الممثلين في الماضي رجالا شرفاء، وفي أحد مونولوجاته يشير أنطونيو إلى أولئك “الرجال الشرفاء”. وفي اليوم الذي قمنا فيه بتصوير مشهد قتل قيصر طلبنا من ممثلينا الذين كانوا مسلحين بالخناجر (كانوا سيقومون بالقتل) أن يعثروا على تلك النزعة إلى القتل الموجودة في داخلهم. وبعد لحظة أدركنا خطورة ما قلناه وتنمينا لو تمكنا من سحب كلامنا. ولكن لم يكن هذا ضروريا لأنهم كانوا أول من أدرك ضرورة مواجهة واقعهم. وبالتالي قررنا أن نتابعهم خلال أيامهم ولياليهم الطويلة. لقد أردنا أن يدور العمل داخل الزنازين الخمسة الضيقة للسجناء، وممرات السجن، وفناء السجن حيث يقضون وقتا كل يوم في الهواء الطلق، أو بينما ينتظرون رؤية أقارهم الذين يأتون لزيارتهم.
بما أن الفيلم صور في السجن هل كانت هناك قيود، هل فرضت السلطات مثلا قيودا على دخول الكاميرات؟
صور الفيلم بأسره داخل سجن رابيبيا. لقد قضينا أربعة أسابيع هناك: كنا ندخل في الصباح ونغادر ليلا ونحن نشعر بالارهاق الشديد ولكن كنا سعيدين وراضين. أما بالنسبة للكاميرا فقد حصلنا على تصريح حمل الكاميرا إلى أي مكان داخل السجن: غرفة المأمور، السلالم، الزنازين، الفناء، المكتبة. كان هناك استثناء واحد هو المكان الذي يحتفظ فيه بالسجناء الذين يقضون عقوبة الحبس الانفرادي. لم يكن أحد يرى وجوههم ولا حتى نحن. من الخارج أشار إلينا الحراس إلى تلك الزنازين التي كانت غارقة في الصمت المطلق. كنا نوقف التصوير فقط عند مرور باقي السجن عبر الممرات في طريقهم إلى فناء السجن أو وهم يتوجهون إلى الاستحمام أو عندما كان بعض ممثلينا يذهبون لرؤية أقاربهم أثناء الزيارة. وعند عودتهم كنا نلمح في نظرات عيونهم التأثر الشديد، كانت هناك نظرات حزن وكآبة، وكانوا يعودون إلى التمثيل ولكن فكرهم كان بعيدا، ولذلك كان تمثيلهم يفقد تلقائيته.