المادة الأرشيفية في أفلام مهرجان أبو ظبي التسجيلية

تعتبر العلاقة بين السينما التسجيلية والمواد الأرشيفية الصورية، الفوتغرافية او المتحركة، من البديهيات. فكما لا يمكن تخيل أن يخلو فيلم عن الحرب العالمية الثانية من صور او أفلام أرشيفية عن أدلوف هتلر، تجمعات الحزب النازي الحاشدة، صور الخرائب والدمار التي تركتها الحرب، لا يمكن أن يغفل فيلم آخر عن الثورة المصرية الأخيرة الإستعانة بآلاف الصور والأفلام التي صورها هواة ومحترفون في ميدان التحرير في العاصمة المصرية القاهرة في الأيام الحاسمة التي سبقت تنحي الرئيس المصري حسني مبارك. والذي مهد لنهاية نظامه الشمولي.
هذه العلاقة الوطيدة بين السينما التسجيلية والمواد الأرشيفية الصورية تعود إلى البدايات المبكرة للسينما التسجيلية، وإرهاصات التأسيس والتي قادت لاحقا الى تحديد الصفات والمهمات للسينما التسجيلية ووظائفها وبنياتها، وخاصة تلك التي ارتبطت بالتحقيق الصحفي الطابع، والتي وصمت بدايات الوسيط الفني الجديد. ورغم إن السينما التسجيلية اليوم تختلف كثيرا بظروف إنتاجها وتواجهاتها وطرقها الفنية عن تلك التي كانت تنتنج في الستينات من القرن الماضي مثلا، إلا إن مكانة المادة الأرشيفية في بنية الفيلم التسجيلي بالمطلق، وفي التحقيقي بشكل خاص لم تتغير كثيرا، بل إن مواد أرشيفية نادرة، يتم توظيفها بشكل عضوي ضمن فيلم تسجيلي ما، كفيلة بمنح الأخير أهمية مضاعفة، عندها يكون التلازم بين الفيلم التسجيلي والمادة الأرشيفية من الشدة، يجعل من العسير الفصل فنيا او بنيويا بينهما، كما لا يتم إستعادة أحدهما من دون الآخر.
وإذا كانت الاحداث السياسية المعاصرة والتحولات الاجتماعية الكبيرة من العقدين الآخريين يخضعان لإهتمام إعلامي لم يعرفه التاريخ البشري، بسبب العدد الهائل من القنوات التلفزيونية ووسائط إعلامية أخرى، وايضا بسبب شبكة الانترنيت، ومواقع التواصل الإجتماعي، والتي يغذيها ناس عاديون، صار أغلبهم يحمل كاميرات فوتغرافية وفيديوية بشكل دائم، موجودة في هواتفهم النقالة او كاميرات التصوير الفوتغرافية الصغيرة، فإن الأرشيف الصوري الخاص او العام، لسنوات ما قبل الثورة الصورية التي نعيشها، مازال محدودا للغاية مقارنة بذلك لما بعد الثورة الصورية التي إرتبطت بشيوع تكنولوجيا المعلومات، ويشكل أي استرجاع له، اهمية كبيرة على صعيد تطور علاقة الانسان بالصورة، وللقيمة التاريخية التي تمنحها تلك المواد في إضائة فترات مجهولة من التاريخ الحديث، سواء ذلك الذي يخص أوطان او مجتمعات، او أفراد عاديين بهواجس وعثرات وخيبات وقصص خاصة أنقذتها “الصورة” من النسيان والعدم.
ومؤخرا وفر مهرجان أبو ظبي السينمائي، الفرصة، من خلال مسابقته التسجيلية المتميزة، لمشاهدة ثلاثة أعمال تسجيلية تستند بمقارباتها المختلفة على مواد أرشيفية من زمن ما قبل الثورة البصرية. هذه الأفلام هي : “البحث عن النفط والرمال” للمخرجين وائل عمر و فيليب ديب، “عالم ليس لنا” للمخرج مهدي فليفل، “قصص نرويها” للمخرجة والممثلة الكندية الشابة سارة بولي.

آخر صور مصر الملكية
يحقق أول الاعمال: ” البحث عن النفط والرمال “، في قصة فيلم روائي صامت نادر ( يحمل هو أيضا عنوان البحث عن النفط والرمال) وجد في صناديق عتيقة لمبنى سكني في قلب القاهرة، يعود لمصور سينمائي مصري من زمن بدايات السينما المصرية الأول. سيذهب الابن المغترب لذلك المصور والذي وجد الفيلم، في رحلة في بلده، والتي لم يعرفها جيدا، لتجميع أشلاء صورة ما من عهد يبدو بعيدا جدا، زمن يسبق بأشهر الثورة الوطنية المصرية الإولى في القرن العشرين ثورة 1952. ليكون الفيلم الصامت الفاصلة التاريخية بين زمنين مختلفين، والتفاصيل التي تظهر في ثنايا قصة الفيلم الساذجة، هي آخر ما التقطته الكاميرات لنهاية فترة تاريخية وبداية أخرى.
 الفيلم الطويل الصامت، والذي اشترك في إنتاجه وتمثيلة، ممثلة هوليويودية مغمورة، أميرة مصرية، وموظفين سفارات بريطانية وأمريكية (يكشف الفيلم التسجيلي  إن بعضهم كان يعمل وقتها لمخابرات بلدهم)، سيكون السبب الرئيسي لمشروع الفيلم التسجيلي، صحيح إن الأخير اتجه بعدها لمقاربة ناقدة تقترب من الهجاء لعهد الثورة العسكرية في مصر، إلا إنه كان سيفتقد الإلحاح المطلوب بدون صور الاسود والابيض التي قدمها الفيلم الصامت، بل إن بعض مشاهد فيلم ” البحث عن النفط والرمال ” الحديثة، والتي صورت في العامين الأخريين، كانت ستفتقد حدتها وبالتالي تأثيرها لو لم تضع ضمن سياق فيلمي واحد مع الفيلم الصامت النادر، كمشهد الاميرة المصرية فائزة، اليافعة في الفيلم، وصورتها الآن، وهي تعيش اليوم في القاهرة بمنزل ينتمي في روحه وزمنه لعهد آخر، تحيطه اليوم عشرات البنايات السكنية الشديدة القبح، يسكنها مصريون وصلوا القاهرة في العقود الأخيرة من مدنهم وقراهم الصغيرة. هناك مشهد آخر لفلاح مصري يشاهد الفيلم الصامت الذي عمل فيه والده ككمبارس، هذا الفلاح سيصرخ بأعلى صوته عندما يشاهد والده في الفيلم، والذي حفظت السينما وجهه للأبد، هذا الفلاح سيلتفت بعد ذلك من حوله، ليجد أن الحياة لم تتغير كثيرا منذ زمن والده وأجداده.

أرشيف الأب والابن


يعود المخرج الفلسطيني الشاب مهدي فليفل، أكبر الفائزين في الدورة السادسة من مهرجان أبو ظبي السينمائي ( جائزة اللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم  وجائزة أفضل مخرج وثائقي في اختيار جمعيتي النقاد “فيبريسي” للنقاد السينمائيين الدولية و”نيت باك” الاسيوية)، في فيلمه “عالم ليس لنا” إلى الأرشيف الصوري لوالده، وخاصة ذلك الذي صوره في مخيم عين الحلوة الفلسطيني في لبنان في سنوات الثمانينات، عندما كانت العائلة تعيش هناك، او في عطلاتها السنوية، بعد هجرتها للعمل في المدينة الإمارتية دبي. سيستسعين الابن بأرشيف الوالد هذا، لكن لن يكف من السخرية من ذلك الأرشيف، فالصور وأفلام الفيديو التي صورها وقتها، لم تكن أبدا لغاية أرشفة حياة يومية في المخيم، هي كانت عائلية محضة، بعضها يكشف عن همينة الاب وتقليديته، وجنوحه لتصوير صورته الخاصة المنعكسة في صور أبنائه والأمكنه التي يمر بها. لكن عندما يبدأ الإبن (مهدي) بتصوير المخيم، تكشف الأفلام الاولى التي صورها عن عين مراقبة فضولية، مهتمة بالتغييرات التي مرت على المخيم، وتاثره برياح السياسية والعنف التي لم تتوقف ابدا عن العصف به وتغيير أهوائه. تلك الأفلام التي صورها مهدي في عطلاته، ستكون الاساس الصوري والنفسي الاول الذي سيؤسس لفيلم “عالم ليس لنا”، والذي يعد حقا وآحد من الأعمال التسجيلية العربية الكبيرة، ليس فقط بسبب توظيفه الخاص والعام في مقاربته لموضوع المخيم، والتي هي في أساسها نموذج مصغر لقضية فلسطين نفسها، بصدق مذهل احيانا، ولكن هو يسجل ايضا بداية لتعامل إبداعي مع الأرشيف الخاص والمشآع من دون الاتجاه سريعا الى وجهات عاطفية حماسية، تفرضها المواد الأرشيفية التي صور أغلبها بظروف استثنائية. كما إن فيلم مهدي فليفل بالنهاية هو تصوير ليأس وعبث فلسطيني منسي، ويقدم فيه شخصيات حقيقية دفعتها الخيبات السياسية وفقدان الأمل بالعودة او الظفر بحيوات طبيعية الى الاضطرابات العصبية وأحيانا الجنون. مهدي فليفل الذي يهزأ من “الأرشيف” الذي صوره والده، هو يقول في النهاية بإن جيله من الشباب، من أبناء المخيمات والشتات، لم يعودوا يؤمنون بمرجعية فلسطينية سابقة، بل حآن الأوان لجيل مهدي أن ينتج صوره الخاصة، التي جاءت في فيلم “عالم ليس لنا” صادمة ومثيرة للكثير من الجدل.

8 ملم
تتكون المادة الأرشيفية في الفيلم التسجيلي “قصص نرويها”، للمخرجة والممثلة الكندية سارة بولي، في أغلبها من أفلام 8 ملم، التي صورها الأب والام ومقربين من العائلة في بدايات السبعينات من القرن الماضي كجزء من أرشفة شخصية ( ربما كان الدافع لتلك الأرشفة بإنها تركز على شخصيات حظيت ولسنوات قليلة بنجاحات متفاوتة في عالم الفن الكندي ( المسرح) قبل ان تتوارى الى الظل). هناك ما يميز أفلام 8 ملم : غياب الصوت، الحبيبيات الخاصة للصورة، حركتها البطيئة، اقترابها من الصورة الحلمية. هذا كله يحيل العودة اليها، كالعودة  الى ماضي بعيد منقطع نفسيا عن الحاضر الذي نعيشيه، وهو الذي ستحتاجه المخرجة سارة بولي وهي تعود في فيلمها التسجيلي الجريء هذا الى ماضي عائلتها، وبالتحديد والدتها، ذات الشخصية الصاخبة، والتاريخ العاطفي المتقلب. تحقق سارة بولي في قصة نسبها ( تكتشف بعدما تعدت الثلاثين بإنها إبنة علاقة عاطفية سرية بدئتها الام قبل سنوات من وفاة الأخيرة ). لكن التحقيق الاكبر سيكون محاولة معرفة حقيقية الام الغائبة، حياتها الاولى، زيجاتها، وآخيرا علاقتها العاطفية الاخيرة. ستضيء أفلام 8 ملم بعض الضوء على شخصية الام، وستكون، أي هذه الأفلام، بصمتها وحريتها، التي وفرتها كاميرات 8 ملم الصغيرة وغير المتطلبة، الواسطة “الرحيمة” التي سيحتاجها المتفرج للتنقيب بالتاريخ العائلي الخاص للمخرجة، وربما سيساعده ليخرج بخلاصات متفهمة وبدون أن يوجه سهام غضبه وأحكامه الإخلاقية نحو الام الرآحلة.


إعلان