جذور الواقعية الأميركية على أسطوانات

الجريمة لا تنفع … أحياناً

محمد رُضا
 ?أندرو جاريكي، شقيق نيكولاس جاريكي الذي افتتح فيلمه «مراجحة» الدورة الأخيرة من مهرجان أبو ظبي السينمائي، هو أيضاً مخرج كذلك شقيقهما الثالث يوجين جاريكي. الاختلاف في أن أندرو ويوجين حققا حتى الآن أفلاماً تسجيلية والفيلم البارز لأندرو جاريكي في هذا الحقل هو «القبض على فريدمان» Capturing the Friedmans، أو على “آل فريدمان” كما يُقصـد بالعنوان، وهو فيلم بات متوفّـر على أسطوانات بعدما كان ترشّح رسمياً لأوسكار أفضل فيلم تسجيلي لكنه أخفق في الحصول عليه.?
عائلة فريدمان (يذكر الفيلم في مطلعه أنها “عائلة يهودية ميسورة”)، وُجدت مُـدانة بجريمة الإتجار بأفلام البورنوغرافي الأطفال، والأفظع، بممارسة الجنس مع الأولاد المستدرجين لدروس خصوصية. الأب أرنولد حاول نفي التهمة الثانية، لكن المحكمة بعد مداولات وجدته وأولاده مدانون وحكمت عليهم بسنوات متفرّقة.
فيلم أندرو جاريكي ينبري، ككثير من الأفلام التي تدور حول متّهمين يهود (من “قضية دريفوس” لليوم) نفي التهمة عن عائلة فريدمان رغم أنها اعترفت بجرمها أمام المحكمة. فيلم أندرو يغفل وجود شاهد عيان أسمه روس غولدستين أدلى بشهادة إدان فيها عائلة فريدمان وقال في لقاءاته أنه لم يرد الاستعانة بشهادة غولدستين لأنه لم يشأ إقحام الرجل الذي أراد إبقاء اسمه غائباً (مبرر ضعيف).

          جيمس كاغني كما بدا في “السنوات الهادرة”

الحقيقة الأهم شأناً هو أن أندرو جاريكي يخرج عن نطاق الموضوعية بأميال ضوئية كثيرة ويُعامل موضوعه من وجهة نظر لا تبغي البحث عن الحقيقة بقدر ما تلوي ذراعها لكي تناسب تبرأة العائلة بعدما كانت اعترفت بما اتهمت به. رب العائلة أندرو قرر بعد أن قضى بضع سنوات في السجن بأنه اعترافه تم تحت الضغط والفيلم تبنّى براءته ثم راح يحذف من منواله الحقائق ومنها أن أحد أولاده (جسي) اعترف في مقابلة تلفزيونية مطوّلة بدوره ودور والده في ممارسة الجنس مع الأولاد والإتجار بصورها على الإنترنت، ومنها أن البوليس وجد حين داهم المنزل وجد أشرطة وديسكات بورنوغرافية في أكثر من غرفة. بالإضافة إلى ذلك دعا الفيلم ثلاثة من الضحايا فقط (من أصل ثلاثة عشر) للحديث عن الموضوع مكتفياً بما يناسبه من الكلمات غافلاً العشرة الآخرون.
فضيحة هذا الفيلم انتهت عندما ردّته أكاديمية العلوم والفنون السينمائية على أعقابه بسبب رسائل من أهالي الضحايا وجّهوها إلى الأكاديمية مانحة الأوسكار يقولون فيها أن الفيلم يكذب لتبرئة المتهمين وهم يناشدون الأكاديمية عدم مكافأة الفيلم ومخرجه على ذلك: “كنا ضحايا بالأمس ونحن ضحايا (هذا الفيلم) اليوم”.

•  الفيلم، أي فيلم، هو ممارسة طوعية لرأي محدد. قد يكون هذا الرأي مع الموضوع المطروح او ضد الموضوع المطروح او حيادياً. المشكلة تتأتى حين يكون العمل راغباً في أن يخاطر بالحقيقة في سبيل ذلك الرأي. للقارئ أن يتصوّر فيلم «صائد الدبابات»، الفيلم التسجيلي القديم لخيري بشارة وهو يقرر أنها لم تشترك في المعارك خلال الحرب ضد إسرائيل، او لو أن «يلعن أبو الفسفاط» لسامي التليلي أدان المتظاهرين عوض أن يدين السُلطة.
إذا بحثت ستجد بين الإنزالات الجديدة على أسطوانات موقفاً مغايراً تماماً ساد الثلاثينات واستدعى مناوأة أفلام بأفلام أخرى. في مطلع الثلاثينات أطلقت شركة وورنر، التي عُـرفت بأفلامها الشعبية والواقعية آنذاك، سلسلة من الأفلام البوليسية حول الجريمة والقائمين بها مثل «قيصر الصغير» [إخراج مرفن ليروي- 1931]، «عدو الشعب» [وليام أ. وليام- 1931]، «الوجه المشوّه« [هوارد هوكس- 1932] تضمّـنت منح المجتمع المدني والبيئة الإقتصادية أسباباً فاعلة في مسألة تحوّل البعض إلى مجرمين. هوليوود المحافظة رفضت هذا البعد واعتبرته إدانة للأخلاقيين وللأسرة الأميركية المجتمع القائم. فتبعاً لتلك المعالجة استطاعت هذه الأفلام تقديم شخصيات رجال خارجين عن القانون (بممثلين من طينة همفري بوغارت وجيمس كاغني وإدوارد ج. روبنسون) يستحقّون شفقة او تعاطف الرأي العام لأنهم اضطروا إلى ذلك السبيل، كرد على هذه السلسلة من الأفلام.
الرد جاء عبر أفلام تنشد أن تبدو وثائقية. هي بالفعل مأخوذة من سجلات وتتحدّث عن شخصيات حقيقية وأحداث واقعة. كذلك يتم تقديمها على هذا النحو: يقف المقدّم في مطلع كل فيلم ليعرّف المشاهد على ما سيراه متحدّثاً بصفة المطّـلع على الحقيقة، ثم يلي في النهاية ما شاهدناه من أحداث بكلمات يؤكد فيها أن “الجريمة لا تفيد” وهو عنوان تلك السلسلة من الأفلام القصيرة (نحو ثلث ساعة للفيلم) المتوجّـهة لكسر حدّة إعجاب البعض بالأفلام الروائية التي وإن لم تقل أن الجريمة لا تفيد الا أنها منحت أبطالها حق الظهور كبشر.

               جاك بالانس الهارب في «فزع في الشوارع»

«الجريمة لا تفيد» (من إنتاج ستديو M?-?G?-?M) انطلق لثلاثة عشر سنة من العام 1935 إلى العام 1947  حاوياً 50 فيلم تدور حول تلك الفكرة وتقدّم، ما بين البداية والنهاية التقريريتين، أعمالاً درامية بالكامل. على عكس أفلام وورنر، الغاية كانت إيضاح أن القانون لا يجب أن يتهاون مع مرتكبي الجريمة بصرف النظر عن المبررات او الدوافع للانحراف.
هذه السلسلة تحتوي على كنوز خفيّة لا يقدّرها حق قدرها النقاد الذين يعتبرون أن السينما الوحيدة التي تستحق الحديث عنها هي السينما الآنية، وليس كلّها على أي حال. إلى جانب أنها مصنوعة، عموماً، بحرفة جيّدة كما تفصح مشاهدتها إذ باتت متوفّرة في “صندوق واحد” تحت عنوان Crime Does Not Pay، نجدها مزدانة بمخرجين اعتبروا لاحقاً من بين أبرع سينمائي هوليوود في تلك الفترة وبعضهم إلى اليوم. نجد- على سبيل المثال- المخرج فرد زنمان والمخرج الفرنسي الأصل جاك تورنور وجوزف م. نيومان من بين آخرين عديدين.
المواضيع حوت على حكايات مختلفة. في أحدها (تحت عنوان «سائق ضرب وهرب») يتناول قضية سائق ضرب بسيارته رجلاً وامرأة ورفض الوقوف لمساعدتهما. في «الشيطان يستقل مركوباً»، حول قاتل يصطاد ضحاياه بأن يطلب منهم نقله بالسيارة مجاناً حيث يقوم بقتلهم. أما في «قاتل بقفازات صغيرة» فنتابع عامل بناء يتدخل لكشف عصابة تتاجر بالعاطلين عن العمل.  بيت القصيد هو أن هذه الأفلام هدفت إلى التمسّـك بالأخلاقيات عوض ما وجدته منوال السينما الأخرى التي حاولت تجاوزها في سبيل رصف وقائع مختلفة. طبعاً ليس كل السينما الأخرى، بل تلك الفئة من الأفلام البوليسية التي كانت تريد إرسال خطاب اجتماعي يضع المشاهدين في بؤرة المسؤولية.

• الملاحظ أن الرغبة في أفلام وورنر، وفي سلسلة مترو غولدوين ماير التي نالت بركة رئيس الأف بي آي الشهير ج. إدغار هو?ر، لإيصال الرسالتين المتعارضتين في الجذور قامت على استخدام الواقعية. «السنوات الهادرة» The Roaring Twenties  الذي حققه راوول وولش سنة 1939 لصالح وورنر، كان- عملياً- آخر أفلامها في هذا الخصوص، لكنه من أقواها أيضاً إذ تابع فيه كيف تقود البطالة الشخصية الرئيسية في الفيلم للتحوّل إلى الجريمة رغم أنه (ويقوم بالدور جيمس كاغني) عاد من الحرب العالمية الأولى بطلاً قومياً. وهو- كما حال «قيصر الصغير» و«الوجه المشوّه» وسواهما واقعي الصياغة. طبيعي المعايشة من دون مظاهر الترف الدرامي او الخيال الجانح الذي ميّز إنتاجات السينما الهوليوودية آنذاك وإلى اليوم.

                                    إدوارد ج. روبنسون في «قيصر الصغير»

ما يمنح هذه الملاحظة بعداً مهمّـاً أن سلسلة «الجريمة لا تنفع» عمدت أيضاً إلى ذلك المنوال. الواضح أن السلسلتين حاولتا التقرّب من المشاهدين عبر الأسلوب ذاته. لكن ما أضافته السلسلة القائمة على أفلام نصف الساعة او نحوها هو النحو التسجيلي.
المفاجأة تكمن في أحد الأفلام الأخيرة من السلسلة.
في العام 1945 نلحظ وجود المخرج جوزف لوزي في فيلم عنوانه «مسدس في يده». والمفارقة هي أن لوزي نفسه بات طريد المكارثية والهوفرية بعد سنوات قليلة بسبب مواقفه اليسارية وانتهى ضيفاً (حتى الممات) على السينما البريطانية.

• التوجّـه بالأسلوب الروائي إلى قارعة العمل التسجيلي وكلاهما إلى حاضرة الواقعية شمل أيضاً أفلاماً لا تنضم إلى هاتين المجموعتين المتناحرتين مثل تلك التي حققها إيليا كازان وأنطوني مان وهما أيضاً من كبار صانعي السينما آنذاك وإلى اليوم. «فزع في الشارع» لإيليا كازان (إنتاج فوكس- 1950) يتناول حكاية طبيب (رتشارد ويدمارك) وتحري (بول دوغلاس) لديهما 48 ساعة فقط للقبض على مجرم هارب (جاك بالانس) مصاب بفيروس معد قد يقتل سواه. «المدينة العارية» [جولز داسين- 1948] البحث عن قاتل يقود إلى سبر غور البنية الاجتماعية كما رصفها المخرج الذي هرب بدوره إلى اليونان. أما «سار ليلاً» [ألفرد رَكر مخرجاً بمساعدة أنطوني مان- 1938] فدار حول سعي البوليس لمعرفة قاتل يستخدم أنفاق المدينة للهرب. الجامع بين كل هذه الأفلام أسلوبها الواقعي أيضاً ومنحاها التسجيلي. سرد عار من المتطلّبات التزيينية للدراما. لكن حقيقة أن الجذور وُجدت في مطلع الثلاثينات ومنتصفها يجعل المرء متردداً في قبول الشائع من أن السينما الإيطالية الجديدة هي أم الواقعية في العالم. مزيد من البحث في هذا الصدد أمر مطلوب.


إعلان