بعد 40 عاما على فيلم “قضية ماتيه”: من القاتل ؟ 1/2
يعتبر فيلم “قضية ماتيه” Il Caso Mattei واحدا من أعظم الأفلام في تاريخ السينما الإيطالية، وإحدى أيقونات سينما العالم. اعتبر هذا الفيلم الذي أنتج عام 1972 وأخرجه فرنشيسكو روزي Francesco Rosi وقت ظهوره، وثيقة هامة ودليلا عمليا على القدرة المتزايدة للسينما، على التنقيب في الملفات السياسية وطرح تساؤلات مقلقة حول قضايا الاغتيال السياسي التي يحوطها عادة الكثير من الالتباس والغموض.
حصل فيلم “قضية ماتيه” على السعفة الذهبية في مهرجان كان (1972)، مناصفة مع فيلم “الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة” للمخرج إيليو بتري (1929- 1982). وكانت تلك الجائزة تتويجا لتيار جديد في السينما الإيطالية بدأ في الستينيات، عرف بـ”تيار السينما السياسية”.

تتميز السينما السياسية باستخدام شكل وبناء الفيلم “البوليسي” أو فيلم الحبكة المثيرة Thriller لجذب المتفرج إلى متابعة الموضوع الذي يتخذ شكل التحقيق في مقتل شخصية معينة (معارضة، مناوئة للنظام.. إلخ) وتحقيق شكل “الكشف” الذي يراد منه لفت الأنظار إلى القضية المطروحة دون الابتعاد عن جاذبية الفيلم كعمل فني أساسا.
من ضمن الأفلام السياسية الشهيرة على سبيل المثال: “تحقيق مع مواطن فوق مستوى الشبهات” لإيليو بتري أيضا، و”انتهى التحقيق المبدئي.. إنس الموضوع” لداميانو دامياني، و”ساكو وفانزيتي” لروزي.
يتميز روزي بأفلامه السياسية مبكرا بفيلمه الشهير “سلفاتوري جوليانو” (1962) ثم “الأيدي فوق المدينة” (1963)، و”لاكي لوتشيانو” (1973) ومعظمها، مع “قضية ماتيه” (1972)، تهتم بتقديم صورة متكاملة لإحدى الشخصيات “الحقيقية” المثيرة للجدل. وهي لا تهتم بالأسلوب المثير على حساب القضية، ولا تكتفي بالوصف بل تلجأ أيضا إلى التحليل، ولا تدين أو تحتج بقدر ما تلعب دورا مباشرا في “التنوير”.. أي تنوير المتفرج ودعوته إلى اتخاذ موقف من “فساد المؤسسة”، وهي بهذا المعنى “أفلام ثورية” تماما كما كان فيلم “معركة الجزائر” (1966) للإيطالي جيلو بونتكورفو الذي يعد “الأب الروحي” للسينما السياسية الإيطالية قاطبة.
في عام 2011 بدأت عملية ترميم واستعادة رونق وألوان فيلم “قضية ماتيه” وإنقاذ النسخة السلبية للفيلم من الإندثار، وإعادة بهائه القديم. وقد ساهمت شركة “جوتشي” Gucci الايطالية الشهيرة في تغطية تكاليف االعمليات المعملية الرقمية المعقدة لاستعادة الفيلم، وإنقاذ النيجاتيف وتحويله الى نسخة رقمية وهي العملية التي تولتها المؤسسة التي أسسها المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي، بالتعاون مع معامل مدينة السينما الإيطالية (شينشيتا).
وكان من أهم أحدث دورة 2012 من مهرجان فينيسيا السينمائي تكريم فرنشيسكو روزي يمنحه الأسد الذهبي عن مجمل أعماله السينمائية، وعرض النسخة الجديدة من فيلم “قضية ماتيه”، وهو ما أتاح لي شخصيا فرصة نادرة لمشاهدة الفيلم مجددا بعد أن كنت قد شاهدته عام 1973 في نادي القاهرة للسينما في عصره الذهبي، قبل أن يتوقف مع مطلع التسعينيات.
لم يقتصر الأمر على حضور الاحتفال باستعادة الفيلم الكبير وعرضه للجمهور بعد 40 عاما على ظهوره، بل ومشاهدة المخرج الكبير فرنشيسكو روزي نفسه وهو في التاسعة والثمانين من عمره، يأتي بنفسه ويدخل إلى قاعة “صالة جراندا” تلك القاعة المهيبة الرئيسية التي تستقبل عروض المهرجان الجماهيرية والتي أنشئت عام 1934، حيث استقبله المئات من عشاق السينما الحقيقيين بتصفيق استمر لأكثر من عشر دقائق.
يقوم بدور البطولة في الفيلم الذي يستغرق توقيت عرضه 118 دقيقة، الممثل الإيطالي الشهير جيان ماريا فولونتي (1933- 1994)، الذي يمكن اعتباره القاسم المشترك الأعظم في أفلام السينما السياسية الإيطالية (قام ببطولة ساكو وفانزيتي، ومواطن فوق مستوى الشبهات، والطبقة العاملة تذهب إلى الجنة، وتوقف المسيح في إيبولي، ولاكي لوتشيانو، وموت ألدو مورو.. وغيرها).

يقوم فولونتي بدور إنريكو ماتيه، مؤسس ورئيس شركة النفط والغاز الإيطالية الذي اكتشفت شركته وجود الغاز في وادي بو، بشمال إيطاليا، وكان رجلا وطنيا يسعى الى تحقيق الاستقلال الاقتصادي في مجال الطاقة عن الاحتكارات الأمريكية التي أطلق عليها تعبيره الشهير الساخر “القطط السبعة” في إشارة إلى الشركات التي تحتكر تجارة النفط في العالم. وكان دائما ما يروي كيف أنها لا تريد أن تسمح باقتراب القطة الصغيرة الضعيفة من الطعام الذي استولت عليه لنفسها، كلما اقتربت القطة الصغيرة، أبعدتها الققط السبعة بوحشية. ولا شك أن القطة الصغيرة هنا يقصد بها إيطاليا التي أعلن أنها سترفض أن تظل تلك القطة الصغيرة التي ترضى ببقايا الطعام التي يتركها لها الكبار!
كان ماتيه أيضا، مؤمنا بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وبالتالي فقد أيد وساند علانية حق الشعب الجزائري في الاستقلال عن فرنسا مما أثار غضب الجيش السري الفرنسي، تلك المنظمة الإرهابية التي شكلها ضباط من جيش فرنسا في الجزائر لمقاومة الخروج من الجزائر (وهي إحدى بلدان النفط والغاز أيضا) واتهمت تلك المنظمة أيضا، ضمن جهات أخرى، بالضلوع في اغتيال ماتيه.
وقد ذهب ماتيه إلى بعض بلدان العالم العربي للتفاوض حول استخراج النفط بشروط عادلة وأعلن أن شركته سوف تتقاسم العائدات مع البلدان المصدرة للنفط والغاز بنسبة متساوية، وقام بتوقيع صفقة لاستراد النفط الخام من الاتحاد السوفيتي، كما بدأ مفاوضات مع الصين بغرض تزويدها بالنفط. وأصبحت شركة Eni في عهده إمبراطورية كبرى، واعتبرت دولة داخل الدولة، وكان ماتيه يتحرك ويسافر ويستقبل مثل رؤساء الدول، وكان شخصية كاريزمية تملك التأثير في السامعين، وكان يلقي بالخطب التي تؤيد حقوق العمال، واعتبر لهذه الأسباب كلها خطرا محدقا يجب التخلص منه.
وقد قتل ماتيه في حادث سقوط طائرته الخاصة قرب ميلانو عام 1962 وتحديدا يوم 27 أكتوبر أي أنه مضى الآن على هذا الحدث الغامض 50 عاما بالتمام والكمال.
هذه الجوانب كلها يترجمها روزي في فيلمه بأصالة نادرة، وفي دقة، ومن خلال أسلوبه السينمائي الخاص، ومع التدقيق في كل موقف يصوره، وكل إشارة أو إيماءة تصدر عن بطل فيلمه، وتساهم في صنع صورته الخاصة الأثيرة.