بعد 40 عاما على “قضية ماتيه”: من قتل إنريكو ماتي 2
أمير العمري.
واقعية الصورة والفيلم
يبدأ الفيلم بلقطات تحطم الطائرة وتناثرها إلى أجزء وقيام الشرطة بالبحث عن الحطام وانتشالها جثة ماتيه، ثم ينطلق الفيلم من هذه الحادثة المريبة التي وقعت في ظروف غريبة، إلى التحقيق في مقتل ماتيه من خلال قاضي التحقيق الذي يبحث في الجوانب التالية: من هم الشهود على الحادث وماذا يقولون، ما هي الملابسات التي وقع فيها الحادث، من كان معه على متن الطائرة، من شاهده للمرة الأخيرة، ماذا تقول زوجته..إلخ وخلال ذلك التحقيق، ننتقل طوال الوقت، إلى شخصية ماتيه ومواقفه وأهم الأحداث التي مرت في حياته، من خلال أسلوب يمزج بين التسجيلي، والروائي، في تداخل بل وتناغم تام، وطاقة هائلة تمتلكها تلك اللقطات التي تتدفق في تتابع وتتداخل معا، وتنتقل من الماضي إلى الحاضر ثم ترتد مرة أخرى وهكا ولكن دون أن نفقد أبدا القدرة على المتابعة السلسة، من خلال مونتاج يكثف، ويضيف، ويراكم، ويحلل، ويتوقف أمام لحظات خاصة ويكشف عن إيقاع متدفق لاهث.
إنها الواقعية في أكمل صورها وأكثرها تأثيرا، باستخدام العناصر الأساسية للسينما: الكاميرا، المونتاج، التكوين، الحركة المستمرة، حركة الممثل الذي يقتبس تلك الحيوية الشديدة التي كان يتمتع بها ماتيه، أو لعلها تلك الحيوية الخاصة التي تظهر في الأداء الفذ للممثل جيان ماريا فولونتي. إنه كعادته، ممثل كبير في فيلم كبير، يؤدي بوجهه وعينيه وتظهر عضلات الوجه كل تقبض أو انفراجة، يستخدم يديه للتعبير، ونبرات صوته للتأثير في سامعيه، يبدو وكأنه يعيش في عالمه الخاص به وحده، في تلك اليوتوبيا التي لم يقدر لها أن تكتمل.
هناك ذلك المشهد الذي يتناول فيه ماتيه الغذاء على مائدة بمطعم دعاه إليه أحد وكلاء الشركات الأمريكية، وخلال ذلك يحاول الوكيل الأمريكي التعامل بفظاظة مع ماتيه، بل ويلوح له بما يمكن أن يلحق بشركته من خسائر إذا ما ابتعدت عن المجال المسموح لها وبدأت تقلق المصالح الأمريكية (وكان ينظر إلى إتفاقات ماتيه مع بعض الدول العربية مثل ليبيا التي نراه يطير فوق صحرائها في مشهد آخر)، على أنها تمثل تهديدا للمصالح الأمريكية.
المشهد يدور من خلال مترجم، فماتيه يصر على الحديث بالإيطالية تأكيدا على ارتباطه بثقافته، لكنه لا يقبل التهديدات أو الإهانات بل يرد يمنتهى القوة وينهي المقابلة بعد أن يلقن الأمريكي درسا لا ينساه، ويقول له بوضوح إنهم- أي الأمريكيين- لن يمكنهم تطويعه، ثم ينتفض واقفا ويغادر الاجتماع بعد أن يلقي بورقة نقدية لدفع الحساب!
إنه يذكرنا بذلك الموقف الذي اتخذه جمال عبد الناصر عندما رفض التهديدات البريطانية وأنهى محادثاته مع رئيس وزراء استراليا إبان أزمة السويس عام 1956 قبل اندلاع الحرب.

موت معلن
هذا المشهد يكاد يكون ذروة الفيلم. وقبيل النهاية نصل إلى تلك الزيارة التي يقوم بها ماتيه إلى باليرمو، عاصمة صقلية حيث يٌستقبل هناك استقبال الأبطال من جانب العمال وفقراء المدينة، ويلقي خطابا من شرفة مرتفعة يتعهد خلاله للعمال بتوفير عمل كريم لهم وحياة كريمة بعد افتتاح فرع الشركة هناك التي توسعت وأصبحت تقيم العديد من المشروعات في أرجاء إيطاليا. وهو يصافح كبار مسؤولي المدينة ويتوقف أمامهم، منهم من يدعوه للبقاء معهم الليلة لكنه يعتذر بالقول إن لديه موعدا مهما في ميلانو يجب أن يلبيه، ويلتفت هو ويدعوهم واحدا واحدا إلى اصطحابه في الطائرة إلى ميلانو، إلا أنهم يعتذرون لأسباب مختلفة.
هذا التوقف المقصود أمام تلك التفصيلة من جانب روزي، يقصد من وراءه دون شك، إثارة الشكوك في احتمال أن يكون من بين هؤلاء من كان على علم مسبق بما سيقع بعد قليل. أي أن الفيلم يوحي بأن موت ماتيه كان موتا معلنا- باستخدام تعبير جارثيا ماركيز في روايته الشهيرة “وقائع موت معلن” التي سيعود إليها روزي فيما بعد عام 1984 لكي يخرج عنها فيلما بالعنوان نفسه، وكأن روزي لا يكف عن البحث في ذلك “الموت المعلن” أو المعروف مسبقا، أو الذي كان محتما أن يقع لأن كل الظروف الموضوعية كانت تؤدي إلى وقوعه، فهل من الممكن أن يهزم الإنسان – البطل- الفرد، نظاما بأسره، خصوصا وأن لهذا النظام أضلعا مختلفة في العالم كله!
البطل يهزم في الفيلم كما هزم في الواقع، فلم يكن من الممكن سوى أن يهزم بحكم الكثير من العوامل الموضوعية. والحل؟ في العمل الجماعي، أو في التغيير الاجتماعي الذي يكفل الاستقلالية. وهذه هي رسالة الفيلم وغيره من أفلام السينما السياسية الإيطالية. لكن المفارضة أن هذه السينما “الرافضة التحريضية على نحو أو آخر” كانت تنتج وتعرض في مجتمع “رأسمالي” تهيمن علة مقدراته قوى اليمين المتحالف مع الولايات المتحدة!
فيلم “قضية ماتيه” لم يكن فقط مجرد فيلم، بل دعوة إلى إعادة فتح التحقيق في الموت الغامض لذلك الرجل الأسطوري الذي نجح- تماما كما نجح محمد مصدق في إيران- في تحقيق الاستقلال عن نفوذ الاحتكارات الأمريكية في مجال استغلال الطاقة في عصر عرف بنزعة الشعوب إلى التحرر والاستقلال، في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكن كان يتعين على كل منهما أن يدفعا الثمن. ولعل السينما شهدت طفرة حقيقية في تلك الحقبة الملهمة تحديدا. وهي طفرة كبيرة لم تشهدها من قبل ولا من بعد حتى يومنا هذا.
قضية ماورو
استعان روزي أثناء بحثه في قضية مقتل ماتيه، بصحفي إيطالي شهير، متخصص في هذا النوع من الأبحاث في القضايا الصعبة المعقدة وسبق له نشر سلسلة مقالات مهمة عن دور المافيا في المجتمع الإيطالي، وكان يواصل وقتها البحث في الدور السياسي للمافيا.
ولكن سرعان ما أصبحت قصة هذا الصحفي، ويدعى ماورو دي ماورو Mauro de Mauro، مادة مثيرة لقصة تتصف بالغموض والإثارة. وكان هذا الرجل المولود عام 1921 قد انحاز قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الفاشية، وظل حتى النهاية يقاتل ضد قوات المقاومة حتى بعد انهيار النظام عمليا وسقوط روما ودخول قوات ألمانية احتلت الشمال الإيطالي حيث أقام الفاشيست، ومعهم صاحبنا دي ماورو، جمهورية خاصة منفصلة ظلت تقاوم السقوط، هي تلك التي يصورها بازوليني بكل ممارسات القائمين عليها من عنف سادي مجنون في فيلمه الأخير “سالو أو 120 يوما في حياة سادوم” (1976).
أدين دي مارور بقتل عدد من رجال المقاومة وسجن لثلاث سنوات بعد نهاية الحرب، وبعد خروجه من السجن، ذهب إلى صقلية واتخذ لنفسه أسماء عديدة مستعارة ظل يعمل تحتها في الصحافة كمخبر متخصص في صحافة الاستقصاء، ومنها انتقل فيما بعد للعمل باسمه الحقيقي في صحيفة “لورh” l’Ora اليسارية المرتبطة بالحزب الشيوعي، أي أنه انتقل من أقصى اليمين، إلى اليسار وسط دهشة الكثير من زملائه الصحفيين.
أما سر استعانة روزي به فهو كونه من المتخصصن في متابعة أسرار المافيا. وكانت إحدى النظريات التي تفسر “اغتيال” ماتيه المحتمل، أن تكون المافيا وراء غتياله، وأنها قامت بتنفيذ العملية بالوكالة عن المافيا الأمريكية التي قدمت قتل ماتيه كهدية لطرف صاحب مصلحة سياسية واقتصادية داخل الإدارة الأمريكية قد يكون المخابرات الأمريكية نفسها.

في العديد من مشاهد الفيلم يتلقى ماتيه تهديدات هاتفية أثناء نزوله في إحدى الاستراحات أو الفنادق المملوكة لشركة “إيني”، كما تتلقى زوجته تهديدات مماثلة. ولكن البحث الخاص بالفيلم، المتعلق بدور المافيا المحتمل في تصفية ماتيه، يختفى ماورو دي ماورو تماما، ولا يتم العثور عليه قط رغم الحملات الأمنية التي شنتها الشرطة وأجهزة الأمن الإيطالية لكشف غموض هذا الحادث، بل ولم يمكن أبدا العثور على جثته حتى يومنا هذا. وقيل إنه اختطف من حجرته في فندق بمدينة باليرمو، وقيل أيضا إنه أسر لزملاء قبيل اختفائه مباشرة، بأنه سيكشف قريبا عن معلومات مدوية تهز الدولة الإيطالية. وتردد أنه كان يعرف أسرار انقلاب كان الأمير بورجيزي يعتزم القيام به لوقف اتجاه إيطاليا إلى اليسار ومقاومة اتساع تأثير الحزب الشيوعي الذي كان يمكن أن يفوز في الانتخابات النيابية ويحكم في أي وقت في السبعينيات (كشفت بعض الوثائق فيما بعد عن ضلوع المخابرات الأمريكية في تمويل الحملات الانتخابية لأعضاء الحزب الديمقراطي المسيحي لمقاومة نجاح الحزب الشيوعي).
اختفى ماورو دي ماورو في 16 سبتمبر 1970 أثناء بحثه في قضية ماتيه لحساب روزي، وهو ما دفع الأخير إلى الظهور بنفسه كمخرج تليفزيوني يجري تحقيقا مصورا داخل الفيلم حول اختفاء ماورو دي ماورو، ويستجوب شخصيات حقيقية قابلت الرجل في باليرمو!
والغريب أن أحد رجال المافيا شهد في مارس 2011 في قضية محاكمة زعيم المافيا الصقلية سلفاتوري رينا، بأن ماورو دي ماورو قتل بأمر من رينا بعد أن توصل إلى معلومات دامغة تدين عدد من كبار زعماء المافيا. إلا أن السلطات أطلقت سراح رينا في يونيو 2011 “لعدم كفاية الأدلة”.. على غرار نهايات عدد كبير من الأفلام السياسية الإيطالية التي تنتهي باطلاق سراح زعيم المافيا، حيث يتم نقل قاضي التحقيق أو اعفاؤه من مهمته أو حتى اغتياله.
ويظل السؤال قائما بعد 40 عاما من ظهور فيلم “قضية ماتيه”: من الذي قتل إنريكو ماتيه؟