ثورة اليمن وحرب لبنان في فيلمين مؤرقين
محمد رُضا
لا يجمع بين خديجة السلامي وإيليان الراهب سوى أنهما مخرجتان يحبّـان السينما التسجيلية وإن كل منهما جادّة في هذا المضمار. ما تبقّـى يختلف: خديجة مخرجة يمنية بثقافة تفرض أسلوباً سينمائياً مغايراً تماماً عن ذلك الذي عند إيليان. وإختيارات كل منهما تختلف بدورها. إيليان تجد أنها لابد أن يحل لبنان أزمته مع الماضي لكي يستطيع أن يستقيم، بينما ترى خديجة أن بلادها في أزمة حاضرة تلتقطها وتسبر غورها. إيليان تبحث في فيلمها الجديد الذي شاهدناه هنا بعنوان «ليالي بلا نوم» عن البلد وخديجة تتناول المرأة في البلد.
فيلم خديجة السلامي «الصرخة» في حقيقة أمره عن كيف وجدت المرأة نفسها في قلب الإنتفاضة اليمنية، وهذا في جزئه الأول، وكيف شاركت (في الجزء الثاني) وإلى أين انتهت (الثالث). هذه الأجزاء متوالية من دون قواسم أو خطوط فاصلة، لكن المشاهد يتلقّـفها بفضل تتابع تدريجي جيّد. فالمخرجة المعروفة تبدأ بإلقاء نظرة سريعة على المظاهرات التي اندلعت، ثم تدخل لب الموضوع لأن ما يهمّـها هو دور المرأة فيها. وتكشف بوضوح عن أن الشرخ الحاصل بين الرجال والنساء، تبعاً لكل ما هو معلوم من مفاهيم وتقاليد متوارثة، حاول أن يرسّخ نفسه ويحد من إشتراك المرأة في التعبير عن مواقفها تلك.

السؤال المطروح حتى من قبل أن تنجز المطالبات الجماهيرية اليمنية ما أرادت إنجازه هو: هل المسألة مسألة تغيير أشخاص أم أن المطلوب تغيير مفاهيم؟. تنقل المخرجة الوضع الذي ساد صنعاء ومدن يمنية أخرى خلال التظاهرات التي طالبت بتنحي رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح والتي انتهت بتنحيه فعلاً وإعادة تشكيل البلاد برئاسة جديدة. لكن ما تركّـز المخرجة عليه لا حماسة التظاهرات ولا ما جوبهت به ولا كيف خرجت ومن قادها وما إستحضرته من أحداث، بل في دور المرأة فيها وكيف أراد البعض للمرأة عدم المشاركة حين بعض القيادات الثورية أن تقام خيم النساء في مكان قصي من المدينة بعيداً عن المكان الذي تم فيه الإعتصام الكبير. لكن النساء رفضن ذلك لأن في ذلك استبعاد لدورهن في العملية السياسية الحاضرة. هذا ما تشير إليه واحدة من الناشطات اليمنيات اللواتي يتم إجراء أحاديث معهن وتصويرهن خلال مشاركاتهن المظاهرات. عند هذا الحد، نحن لسنا فقط أمام فيلم يبحث عن دور المرأة ويحث عليه، بل أمام فيلم يريد أن يطرح قضيّـة المرأة المهضوم حقّـها بالكامل.
المشاهد تمر أحياناً متسارعة وأحياناً على وتيرة متكررة لكن خديجة السلامي تحقق الفيلم الذي لا يتسبب وضجر المشاهد متحاشية تكرار المشاهد أو المفادات بالضرورة. ما لا يحدث، للأسف، هو منح الفيلم محطّـات يرتاح فيها الصوت وتؤدي الكاميرا دورها في الرصد والتعريف والمتابعة وحدها من دون تعليق أو تسجيل حوارات. هذا لو توفّـر لمنح الفيلم غطاءاً فنيّـاً صحيحاً مع العلم بأن ما هو ماثل فيلم جيّـد في حدوده وعلى الرغم من شريط الصوت المتتابع والمتنقل ما بين تعليق المخرجة لما تقوم به وتعليق الناشطات حول أعمالهن. هناك مشاهد قليلة تفتقد الأهميّـة، أو أن الأهمية التي في البال لم تتشكّـل صورياً وفي مقدّمتها ذلك الذي تتحاور فيه إحدى الناشطات مع إبنها الذي يبلغ من العمر عشر سنوات. صحيح أن الفكاهة هنا هي تعريفنا بما يفكّـر به صبي لم يبلغ بعد سن المعرفة والنضج، الا أن الحوار لم يكن طبيعياً (من الأم على الأقل) بل كان مصنوعاً لخدمة الرسالة التي وصلت سريعاً ولم تكن تتطلب المزيد.
من ناحية أخرى، هذا العمل يبقى مختلفاً بين الأعمال التي تحدّثت عما سمي بـ “الربيع العربي”، ففي حين أن همّ معظم ما تم إنتاجه من أفلام تسجيلية وروائية الحديث مباشرة عما حدث وكيف، فإن غاية المخرجة هي البحث عما لم يقع وهو امتداد الثورة إلى حد يسمح بإنعتاق المرأة من سجن إجتماعي ساد قبل عبدالله صالح وخلال عبدالله صالح وبعد عبدالله صالح.
هناك عشر دقائق أخيرة تعزز هذا كلّـه: المخرجة (التي تعيش في باريس) عادت بعد حين إلى صنعاء لترى ما حل بالنساء اللواتي نزلن إلى الشارع وعشن في الخيم المشادة خلال الفترة التي شهدت وطيس الصراع، فإذا بالخيم باتت فارغة والمئات من النساء غادرن المكان ولم يبق سوى بعض المؤمنات بضرورة التواجد حتى كامل التغيير (نحو خمسة عشر إمرأة). لكن المخرجة تسأل على نحو مباشر حول كيف يمكن أن يحدث هذا التغيير إذا ما كان الرجل ضحية للسائد بدوره. مشاهد الرجال وهم يخزّنون القات حزينة الفعل كونها ترميز لحال سائد يبدو من بعيد كما لو أنه لا علاقة له بالحدث وبالمفهوم الكبير من ورائه، لكنه مرتبط به على نحو وثيق.
يتركنا الفيلم مقترحاً أن تغيير الأشخاص ليس المسألة بل أن المفاهيم السياسية والإجتماعية السائدة هي بيت القصيد…. وهذا البيت لا زال بعيداً عن المنال. في الحقيقة ربما بعيد جدّاً عن المنال.
ليالي حرب
من ناحيتها، فإن فيلم المخرجة اللبنانية إيليان الراهب مهتم بالعودة إلى الحرب الأهلية اللبنانية وما جرى فيها.
تسلّـط الضوء على عضو بارز في مخابرات “القوّات اللبنانية” التي عُـرف عنها، خلال تلك الحرب، نزوعها إلى العنف المبرح والخروج عن كل قواعد القتال والقوانين الإنسانية خلال الحرب. يُدين ما قامت به من دون أن يبريء الحرب كلّـها أو الأحزاب الأخرى التي إصطفّـت معها أو حتى ضدّها.

أسعد الشفتري كان المسؤول الثاني في مخابرات “القوّات اللبنانية” خلال الحرب الأهلية. مريم الصعيدي إم لثلاثة بنات وشاب التحق بالقوّات الشيوعية واختفى بعد موقعة حدثت في السادس عشر من حزيران/ يونيو. المسؤول العسكري يعترف بأنه إرتكب “كل شيء تستطيعون التفكير به” كما يقول في الفيلم أكثر من مرّة بما في ذلك القتل والنسف وتفخيخ السيارات وهو كان مسؤولاً عن تلك الموقعة التي اختفى بها الفتى ماهر إبن مريم الصعيدي. لكن مريم لا تستطيع لا أن تغفر ولا أن تنسى وكل ما تريده هو أن يعترف المسؤول بجريمته. أن يخبرها أين ولدها إذا كان لا يزال حيّـاً (بذا هو واحد من المفقودين) أو في أي مكان مات إذا ما كان سقط قتيلاً. لكن أسعد لا يستطيع الإعتراف بذلك، لأن القضيّـة- كما يتبدّى- تخص عشرات الضحايا الآخرين (ومنهم مسيحيون أيضاً) تم قتلهم جماعياً بعدما تم إلقاء القبض عليهم.
واحد من مشاهد الفيلم الحاسمة ذلك اللقاء الذي يتم بين أسعد وبين مريم. دبّـرته المخرجة وتولّته الكاميرا وتتلقّـفه العين بكل حرص على التقاط التفاصيل. مريم تصرخ وهو يستمع. بعد حين يريد أن يتحدّث إليها. ربما ليشرح. ليعتذر. ليسأل الصفح. تلتفت صوبه وتقول: “إذا كنت تريد أن تخبرني أين أجد إبني تكلم… وإلا لا أريد أن أسمع شيئاً”. يصمت. تمضي.
كم الجروح العميقة لا يجعل الفيلم أفضل مما هو عليه لأن بناء الفيلم ليس عاطفياً. المخرجة تصر على فتح تلك الصفحة التي يعترف أسعد فيها إنه كان، وآخرون، يعتبرون أن لبنان يجب أن يبقي مسيحياً فقط. كما يعترف بأنه تدرّب، وسواه، في إسرائيل. أكثر من ذلك، تمضي المخرجة والسيد أسعد إلى منزل مطران كان لقبه، حينها “المطران الأحمر” لأنه كان يمنح صكوك الغفران لكي يقتل المسيحيون المسلمين لبنانيين وفلسطينيين وبل، بإعتراف آخر، المسيحيين المتعاطفين.
يكاد أسعد يعترف بكل شيء، لكنه بالنسبة للأم المنكوبة لا يهم ما يعترف به إذا لم يعترف بمكان وجود إبنها حيّـاً أو ميّتـاً. وقبل النهاية يظهر أسعد في لقائين واحد مع جمهور من الحاضرين فيما يبدو قاعة طلابية يؤكد فيها ما قام به من خطايا وأخطاء فيصفّـق له الحضور وسط دهشة الأم التي تلتفت حولها في استنكار دفين، وآخر واضعاً فوق أنفه أنف بلياتشو أحمر كما لو كان مهرّجاً. يبدو هنا كما لو يضيف لما سبق وأدلى به من إعترافات إعترافاً آخر هو أنه إنتهى إلى لا شيء كبير… قتل من قتل ونسف من نسف ودمّـر السعادة في قلوب كثيرين، حبّـاً بإنشاء كيان مسيحي مستقل “يشبه الكيان الإسرائيلي” لكنه إنتهى شاكياً من أنه لم يحقق بعد ذلك حتى المقعد النيابي كما فعل سواه.