تَصّدع الحلم الأمريكي
محمد موسى
منذ فوزه بجائزة أفضل إخراج في الدورة الأخيرة لمهرجان سندانس السينمائي، يتجه فيلم “مَلِكة فرساي” للمخرجة الأمريكية الشابة لورين غرينفيلد ليكون ظاهرة السينما التسجيلية لهذا العام، فهو جَمع المَجد من طَرفيه، بتحوله إلى الفيلم التسجيلي المفضل للعديد من المهرجانات السينمائية حول العالم ( آخرها كان عرضه قبل أيام في الدورة الأخيرة لمهرجان أدفا السينمائي الهولندي)، وأيضا لنجاحه في جذب الجمهور إلى الصالات التجارية التي عرض بها ( جمع الفيلم مليونين دولار من عروضه الأمريكية فقط). هذا النجاح المزدوج ليس شائعا كثيراً، وخصوصا للأفلام التسجيلية، والتي يواجه معظمها مشاكل التوزيع الواسع حول العالم وبالتحديد في الصالات السينمائية الأمريكية.

يأتي الفيلم، الذي يتناول إنعاسكات الأزمة الاقتصادية الأمريكية على عائلة ثرية هناك، في وقته تماماً، فبعد عدة أعمال تناولت بتفصيلة كبيرة أسباب الأزمة المالية العالمية ودور البنوك والشركات العظمى فيها، وإخرى ركزت على تداعيات الأزمة على الفقراء والذين يعيشون على هامش الحياة الأمريكية، حان الوقت لفيلم يتسلل إلى حياة وذهنية أثرياء أمريكيا، وكيف أثرت الأزمة المالية على مبادئهم ونظرتهم للعالم، مقدما أيضا تفاصيل من الحياة اليومية لعائلة كانت تعيش ثراءاً فاحشاً، وتُمثّل في الوقت ذاته، النموذج الناصع للحلم الأمريكي، والذي يتلخص أحيانا بثروات تُجّنى ولا تُوّرث، وسعادة تَمّنَحها قدرة “المّال” على بلوغ أي إنجازات مادية.
الصدفة وحدها حولت فيلم “مَلِكة فرساي” ليكون شاهداً على الإنهيار البطيء لإمبراطورية مالية أمريكية، فالفيلم الذي بدأ تصوريه في عام 2007، أي قبل انهيار السوق المالية، كان معنيا كثيرا بعائلة “سيجل” الثرية، وخططها لبناء ما يمكن إعتباره أكبر منزل في أمريكيا. الخطط تلك ستتوقف، كحال عمليات البناء في المنزل الواسع (الذي يضم 38 حماما ويكلف بنائه 100 مليون دولار )، بعد بدء تباشير أزمة البنوك الأمريكية، والتي أوقفت قروضها لشركة الزوج ( ديفيد سيجل)، ليتحول في غضون أشهر قليلة إلى شخص تطارده الديون والإلتزامات المالية العاجلة، متخلياً عن بعض بعض أحلامه، ومنها تكملة بناء القصر الواسع، والذي أطلق عليه “فرساي الصغير”، محاكاة للقصر الفرنسي المعروف.
الفيلم سيكون أيضا عن زوجة صاحب الامبراطورية المالية “جاكي”، التي تبلغ من العمر 43، والتي ظهرت أيضا في مشاهد قبل الأزمة محاطة بالوصيفات والخادمات، تتجول في البيت الواسعة كملكة غير متوجة، ثم يعود إليها الفيلم بعد الأزمة، وقد أجبرت على التخلي عن بعض عاداتها المسرفة، تدخل في شجارات طويلة أحيانا مع زوجها الذي اصبح يدقق على مصابيح مضاءة في غرف البيت الخالية، والطاقة الكهربائية التي تَصّرفها والتي لم تعد مداخيل العائلة قادرة على تَحملها.
لا يَضّع الزوجان في الفيلم أي أقنعة، وسيرويان كثير من التفاصيل الحميمة عن حياتهما، فالزوج اليميني التوجه يعترف بأنه كان وراء الفوز الأخير للرئيس الجمهوري جورج بوش ( لا يُفصّح عن نوع المساعدة التي قدمها خوفا من ملاحقة محتملة للقضاء الأمريكي)، هو أيضا جنى ثروتة بجهده الخاص، ولم تكون هناك أموال او نفوذ في إنتظاره عندما بدأ قبل 50 عاما، بمطاردة حلمة الأمريكي بالثراء. والزوجة التي تصغره بثلاثين عاما، كشفت هي الإخرى، بأنه بعد إسبوع واحد في عملها كمبرجمة كمبيوتر، قررت أن الحياة والثراء في مكان آخر، فتركت عملها وإتجهت إلى مهنة عرض الأزياء. وعندما قابلت “ديفيد”، والمطلق لمرتين، لم تردد كثيرا في الزواج منه. جاكي هذه مبذرة، انجت 6 أولاد لانها تعرف إن أموال زوجها قادرة أن توفر 6 مربيات، ولو انها كانت تعلم قبل الأزمة بإنها يجب أن تتخلى عن بعض هؤلاء المربيات، لم تكن قد أنجبت كل هؤلاء الأطفال. كان الزوجان يعيشان في فقاعة كبيرة أبعدتهم عن العالم، وعن فجرت الازمة المالية هذه الفقاعة، واجه الزوجان خياراتهما السابقة، والتي بدت على ضوء ما حدث اقل حكمة واثارة وبلا معنى أحيانا.

تَصّدع حلم عائلة بالثراء الأزلي، والذي سنشاهده بالفيلم، سيكون مُرّكبا ومُدّويا، لأنه يرتبط بحلم أمريكي كبير، رسخته أنظمة العيش الاستهلاكية،وله علاقة عضويا بِمُهّمة الشركة التي يملكها الزوج ( تبيع عطلات فاخرة في بنايات حول الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها واحدة عملاقة في مدينة لآس فيجاس)، والتي كانت تستند على قروض مصارف مالية، كانت تدفع لسنوات بدون حساب، وتبيع عطلات مكلفة لأمريكيين كان جُلّهم يقترض الأموال لدفع هذه العطلات. وعندما جاءت الأزمة المالية، كشفت إن معظم الأمريكيين كان يعيش في الفقاعة التي تعيش فيها عائلة “سيجل”، وبأن طرق حياتهم السابقة ليست على مَقّاس ما يجنونه من مداخيل.
يَسّخر الزوج من إن الفيلم التسجيلي سيكون ناشزاً عن معظم أفلام هوليوود، والتي ترافق بالعادة أبطالها من الفقر إلى الغنى، فيما سيكون الفيلم هذا، عن عائلة تَفّقد عزّها. فيلم “ملكة فرساي ” سيكون بالفعل عن أثرياء يَفقدون سِلطاتهم التي تمنحها الأموال، لكنه سَيُعري في الآن ذاته أنماط حياة استهلاكية متفشية، أحيانا بتجواله في البيت الواسع ذو الأثاث الغالي القبيح، او بتصويره للخادمات الفليبنيات المشغولات دائما بمتطلبات هذه العائلة المنفلتة. إحدى هذه الخدمات ستقدم أفضل لحظات الفيلم عاطفية وأكثرها تاثيراً. هذه الخادمة، التي تقضي أوقات استراحاتها في بيت للعب الأطفال في الحديقة، تروي كيف إنها آتت الى الولايات المتحدة الأمريكية لتِحقق حِلّم والدها بشراء بيت في الفلبين، لكن الوالد توفي دون أن يبلغ هذا الحلم، وكل ما قَدّرت عليه هو دفعها لثمن حَجر صخري وضع على قَبره.