لوددت أن اكون..قراءة في الوثائقي المصري دعاء..عزيز
خمسة عشر فيلما تنافسوا على جوائز المهر العربي للأفلام الوثائقية وذلك ضمن فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان دبي السينمائي(9-16 ديسمبر), والملاحظة الأساسية على مجموعة الأفلام المختارة هذا العام هي أن كثيرا منها يتحدث عن واقع المرأة في العالم العربي أو تشكل النساء جانبا هاما من السرد والرؤية البصرية والفكرية داخل التجربة الوثائقية.

من اليمن يأتي فيلم المخرجة اليمنية خديجة السلامي “الصرخة” حيث توثق مساهمة النساء اليمنيات في الثورة اليمنية، وكيف خرجن من بيوتهن صارخات بمعاناتهن رغم أن صوتهن يُعتبرعورة، وتعود في القسم الثاني من الفيلم لتعاين إن كن نجحن في تحقيق مطالبهن بالحرية والمساواة, ومن المرأة اليمنية إلى المرأة التونسية في فيلم هند بوجمعة “يا من عاش” ويقدم من خلال شخصية عايدة التي تعيش وأبنائها بلا مأوى، حقيقة أن لا شيء تغير في تونس ما بعد زين العابدين بن علي .
أما المخرج السوري نضال حسن فيحوّل فيلمه “حكايات حقيقية عن الحب والحياة والموت وأحياناً الثورة” من فيلم يسعى لأن يروي مصائر نساء سوريات أعلنّ الثورة والتمرد من أجل حريتهن، إلى نساء أخريات يصنعن ثورتهن الآن.
ومن مصر يأتي المخرج سعد هنداوي بفيلمه”دعاء..عزيزة” ليروي لنا كيف تخطط عزيزة للهجرة خارج مصر، عكس دعاء التي تنوي مغادرة فرنسا والعودة للعيش في مصر وهي درما توثيقية في قسمين أيضا ما بين قرار الهجرة وماذا حدث بعدها!
ووفق أسلوب سرد يمزج الروائي بالتسجيلي يقدم المخرج المغربي محمد العبودي في فيلمه”نساء بدون هوية” مأساة فتاة مغربية تتعرّض للاغتصاب وهي لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، ومن ثم تتبرأ عائلتها منها، فتُحرم من أوراقها الثبوتية، لكنها وعلى رغم قسوة ما تنوء تحته، ترفض الاستسلام لواقعها، وتواصل السعي لتحقيق أحلامها بالأمومة والعيش الكريم, بينما تقدم اللبنانية فرح قاسم في فيلمها “أبي يشبه عبد الناصر” فيلماً حميمياً عن علاقتها بأبيها.
واو العطف
“دعاء..عزيزة”هو الفيلم المصري الوحيد ضمن مجموعة الأفلام الوثائقية التي شاركت في مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية في دورة هذا العام, وهو أحدث التجارب الوثائقية للمخرج المصري سعد هنداوي بعد أفلام مثل”الضمة” و”القاهرة سحر الأمكنة” و”صعيد الغضب” بالإضافة إلى ثلاثة أفلام روائية بدأها”بحالة حب”عام 2004 وكان آخرها “السفاح”2009.
أطلق هنداوي على فيلمه “دعاء..عزيزة” وليس دعاء وعزيزة, مسقطا واو العطف ومجردا العنوان إلى حد كبير رغم كونه يحتوي على أسماء أعلام, هذا التجريد من شأنه أن يدلنا على رغبة المخرج في التوازي الكامل بين الشخصيتين وهو تواز سردي وبنائي بل وبصري في بعض الأحيان- في أحد المشاهد يقوم بتقسيم الشاشة فعليا إلى قسمين- ويبدأ التوازي من عنوان الفيلم.
إنه عنوان أشبه بفكرة وجهي العملة الواحدة واللذان يشكلان سويا العملة رغم اختلافهما الشكلي, كذلك فإن واو العطف كانت ستحد من خيال المتلقي فيما يخص الشخصيات أما دعاء..عزيزة فيشعرك أنه من الممكن أن يكونا أي دعاء وأي عزيزة, وليسا فقط دعاء وعزيزة شخصيات الفيلم.
يعتمد الفيلم في تيمته الفكرية على تناقض الخطوط الحياتية ما بين الشخصيتين الاساسيتين, فدعاء التي تربت في فرنسا قررت الذهاب للإقامة والعمل بالقاهرة وعزيزة التي تربت في القاهرة تقرر ان تهاجر إلى فرنسا.
يبدأ الفيلم بعد اتخاذ الشخصيات قراراتها بالسفر وهي بداية درامية أكثر منها بداية وثائقية وتذكرنا بالقاعدة الدرامية الشهيرة التي تقول إن أحداث الفيلم لا يجب أن تبدأ قبل أن تكون إحدى الشخصيات الرئيسية قد اتخذت قرارا مهما يؤثر في انطلاق الأحداث.
بداية الفيلم عقب اتخاذ القرار معناه ان هناك سؤالين أساسين يريد المخرج طرحهما, الأول هو: لماذا هذا القرار؟ لتبدأ رحلة الأجابة بأثر رجعي عبر مشاهد حكي طويلة من قبل الشخصيات, والثاني هو: ماذا سيحدث لكل منهن بعد هذا القرار؟

سؤال في الوطن
يفرد المخرج لكل شخصية مساحة زمنية طويلة للبوح المستفيض أمام الكاميرا للإجابة عن السؤال الاول الذي يمثل القسم الأول من الفيلم, وتتضمن الاجابة على هذا السؤال محاولة الاجابة عن أسئلة ضمنية كثيرة منها معنى الوطن كمكان وظرف وجداني وحالة بيئية وإنسانية, وعلاقة الوطن بالذاكرة وعلاقته بتحقيق الذات والأحلام.
عبر تلك الاجابات الضمنية يستدرج المخرج شخصياته للحديث عن أدق التفاصيل الوجدانية وربما الأسرار, مستغلا أن كل شخصية أصبحت منفصلة بشكل أو بآخر عن ماضيها القريب وصار لها حاضر مغاير أحدهم في القاهرة والآخر في باريس.
عند الابتعاد عن المكان يصبح الحديث عنه أسهل وأكثر حميمية, تتحدث كلا الفتاتين عن تجاربهم العاطفية والمهنية في مشاهد مفتوحة زمنيا لا تحدها توقيتات اللقاءات المصورة التقليدية, حيث يعتمد المخرج على سلاسة البوح وقدرة الشخصيات على صياغة أفكارها كلاميا عبر مونولوجات طويلة تقطعها أحيانا أسئلة المخرج من خارج الكادر.
ولا يغفل هنداوي عنصر الأهل كجزء من الاجابة عن سؤال القرار والوطن, والأهل هم أكثر العناصر المؤثرة في قرارات الشخصيات وشعورها بالغربة سواء في القاهرة أو باريس.
يقوم المخرج برسم أبعاد شخصيات الفتاتين بشكل درامي يحسب له, فالبعد الشكلي تتكفل به الكاميرا, والبعد النفسي يتكفل به البوح أمامها, والبعد الأجتماعي تتكفل به اللقاءات التي يقوم بها مع أهل دعاء في باريس وأهل عزيزة في القاهرة.
يبدو الأهل جزء هام من أجزاء الأجابة على السؤال, فالقرار بالسفر ليس وليد خاطر عابر بل هو نتاج تراكمات كثيرة لعب الأهل دور هام فيها, ويكفي تلك الجملة التي يقولها والد عزيزة عندما يدلل على ايمانه بقرار ابنته(لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون سويديا او سويسريا) أنها جملة لا تعكس تهكما على مقولة مصطفى كامل الخالدة بقدر ما تعكس فكرة مناقشة الثوابت في زمن متغير وواقع أصبح قاسيا شكلا ومضمونا خاصة على المستوى المعنوي والنفسي والحضاري.
من الثابت أن من يعيشون خارج مصر مثل دعاء لا تراودهم فكرة العودة إلى القاهرة لتحقيق ذواتهم خاصة لو كانوا يعيشون في مدن مثل باريس, ويضرب الفيلم مثالا جيدا وهو أخو دعاء الذي ولد مثلها هناك وأقصى ما تمثله له مصر هي شهور الإجازة الصيفية.
وفي المقابل هناك عائلة عزيزة القبطية المعتزة بجذورها, والتي لم يرد عائلها (والد عزيزة) أن يعيش خارج مصر بل أحضر زوجته المجرية معه وقام بتعليمها العربية, ويبدو من خلال التصوير داخل منزل الأسرة أن عزيزة كانت تعيش في مستوى مادي جيد, إذن لم يكن السفر من أجل المال, ولكن من أجل تحقيق الذات على المستوى المعنوي وليس المادي.
ولا شك أن المخرج نجح في إرساء الأبعاد الثلاث لكلا الشخصيتين بشكل ناضج, مما يجعلنا في مرحلة معينة من الفيلم نجزم بأنه أقرب لمشروع درامي منه لتجربة وثائقية, خاصة مع التواضع الشكلي والبصري الكبير في بناء الفيلم إخراجيا.
توك شو
القسم الأول من الفيلم يدور في عام 2005 بعد اتخاذ الشخصيتين قرارهما بالسفر كل إلى بلد الأخرى, دعاء المصرية الأصل التي هاجر أبوها إلى فرنسا قبل عقود وعزيزة القبطية المصرية التي تربت في كنف أم أجنبية تعشق مصر, لكنها لم ترث عنها جينات هذا العشق فقررت استبدال القاهرة بباريس.
يبني المخرج فيلمه بشكل بسيط جدا على المستوى البصري, متمحورا حول الشخصيات في زاويا كاميرا محدودة وأحجام ثابتة, تستمر اللقطات لدقائق طويلة على الشخصية التي تحكي وتتحدث, وتتقاطع مشاهد الحكي مع مشاهد عامة لشوارع القاهرة وباريس, أو لشخصيات تنتقل من مكان لآخر داخل كل مدينة, باستثناء ذلك لا يوجد أي معادل بصري خلال القسم الأول يمكن أن يصلح كمادة بصرية للحكي إلى جانب المادة الحوارية الضخمة ولا معادل لها.
تستطيع أن تستمع إلى القسم الأول من الفيلم بالكامل دون أن تكون في حاجة إلى مشاهدة الصورة, فلا شئ من تاريخ الشخصيات المحكي أو واقعهم المروي تم تقديمه بصريا سواء من خلال التصوير الحي أو حتى الأرشيف الفوتغرافي.
ولكن اعتمد المخرج كليا وجزئيا على حالة الفضفضة المطولة للشخصيات, وهي رغم حميميتها إلا أنها في النهاية بدت أقرب لبرامج التوك شو أو التقارير التسجيلية المنفذة على عجالة كفواصل للبرامج الأجتماعية.
ولم تفلح مشاهد الشوارع في التعبير عن إجابة كل شخصية على سؤال القرار, لأن حديثهم في درجة ما صار أعمق بكثير من مجرد التصوير الخارجي وهم يسيرون في الشارع أو يجلسون على ضفة السين او في خان الخليلي, وهي لقطات أقرب للنظرة السياحية الخارجية منها للنظرة العميقة إلى جوف المجتمعات التي يناقش الفيلم فكرة السفر منها وإليها.
استثناءات بصرية قليلة هي التي تحفظ ماء وجه القسم الأول إخراجيا مثل مشاهد لقاء الفتاتين في القاهرة وفي باريس, فكليهما لديه نفس الهم ولكن في اتجاهين مختلفين, وهو ما يعبر عنه مشهد محطة مترو الأنفاق حيث تقف كل فتاة في الاتجاه المعاكس لصديقتها وكل منهما تنتظر قطارا في عكس إتجاه الآخرى.
لقد استطاع المخرج أن يطور فيلمه دراميا بشكل جيد ونقصد بالدراميا هو تتبع عملية نمو الشخصيات وبحثها عن إجابة سؤال القرار الأول وصولا إلى القسم الثاني وهو ماذا حدث لهما, ولكنه لم يتمكن بصريا من تحقيق نفس القوة الدرامية.

ماذا حدث؟
ينقطع المخرج عن شخصياته لمدة ستة سنوات أو يزيد ويعود ليجيب للمتلقى على السؤال الثاني من التجربة وهو ماذا حدث للشخصيات؟
يبدأ القسم الثاني من الفيلم بداية بصرية شديدة الحيوية حيث نطالع حجم التغير الشكلي الذي طرأ على كل من دعاء وعزيزة, عزيزة التي كانت تكبر دعاء بأربع سنوات صارت مذيعة مرموقة في إحدى القنوات الفرنسية, قصت شعرها وبدت أصغر سنا, بينما دعاء التي كانت في السادسة والعشرين من عمرها عندما ذهبت إلى مصر تبدو أكبر سنا بعشر سنوات, بل أكبر من عزيزة نفسها!
تبدو مشاهد القاهرة ولقطات منزل دعاء كابية, قاتمة, ووجه دعاء نفسه يبدو جافا حزينا, بينما تبدو مشاهد منزل عزيزة في باريس أكثر إشراقا وضوءا وحيوية, إحداهما اذداد بياض بشرتها-عزيزة- بينما اذادت الأخرى سمرة-دعاء-.
يعكس هذا الفرق الضوئي واللوني بين البيئتين الفرنسية والمصرية جزء من ضمنية الأجابة على السؤال الثاني, وهي إجابة تبدو مختبئة بين السطور, لكنها جلية من خلال تعبير المخرج عنها بذلك الفرق الواضح في إضاءة البيئتين, وهو تعبير درامي بحت.
اما على المستوى الوثائقي او الاخيالي فإن الفارق الشكلي والعمري بين كلا الفتاتين يدعم فكرة الأجابة الضمنية, وهي أن حياة عزيزة التي تركت مصر قبل سنوات تبدو أكثر إيجابية وقوة وأنفتاحا ونجاحا من حياة دعاء التي تركت أهلها وعادت إلى مصر قبل سنوات وأصابتها الشيخوخة المبكرة.
يضيف المخرج لقطات تعادل عملية التطور الدرامي بصريا, يستخدم مادة أرشيفية لكلا الفتاتين في عملهن كمذيعات, ويصور عزيزة في مقر عملها الجديد وسط زملائها, ويضيف مشاهد قام بتصويرها للشخص الفرنسي الذي أثر في حياة عزيزة وشجعها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه, كل هذه المادة الطازجة تجعلنا نشعر بمدى الفرق بين قسمي الفيلم رغم أهمية القسم الأول لكنه يبدو من خلال القسم الثاني وكأنه كان مجرد فكرة للمشروع الذي أكتمل بعد سنوات وبشكل أنضج.
الهلال والصليب
هل كانت قوة الفكرة داخل التجربة سوف تتأثر لو أن كلتا الشخصيتين من ديانة واحدة!
تبدو الأجابة على سؤال(ما الوطن)أكبر من مسألة الدين على مستويات كثيرة, فلم تكن لدى أي من الفتاتين مشاكل دينية في مجتمعها, ولا أهداف دينية من وراء هجرتها إلى بلد الآخرى, ولكن بقدر ما كانت القضية بعيدة عن العنصر الديني بقدر ما أثرى أختلاف الديانة بين دعاء وعزيزة من قوة الفكرة, لأنه ساوى في النهاية ما بين الديانات, وأكد على أن مسألة الوطن خاصة في الحالة المصرية-ونقصد بالحالة المصرية أن كلتا الفتاتين مصريتين- ليس لها علاقة مباشرة بالدين, ولكنها مسألة اجتماعية وسياسية بالأساس تخص اللحظة الحضارية التي نعيشها.
ونستطيع أن نقارن بين أسباب دعاء وعزيزة لهجرة بلد المنشأ بالأسباب التي دعت شخصية الفتاة المسيحية في الوثائقي المعروف”مكان أسمه الوطن” للمخرج تامر عزت, حين قررت الهجرة إلى استراليا بعد فشل قصة حبها لشاب مسلم, هذه المقارنة من شأنها أن تجعلنا نقف على قناعة بأن الدين لم يكن أحد أسباب الهجرة العكسية(من وإلى مصر)في دعاء..عزيزة, ولكن أختلاف الدين بينهم جعل المسألة اكثر تجريدية تماما مثل إسقاط واو العطف التي تحدثنا عنها في البداية( فهما أي دعاء مسلمة وأي عزيزة مسيحية).
قوة هذه التجربة تكمن في تتبع مسار الشخصيات عبر عملية تحول حياتية بناء على قرار مصيري وذاتي في نفس الوقت, ولولا بساطة الفيلم وركاكته البصرية في بعض الأحيان لاصبح واحدا من التجارب الهامة في مجال طرح قضية الوطن والأنتماء وحق تقرير المصير دون أعتبارات شكلية أو ثوابت جامدة, لقد ودت كل من دعاء وعزيزة أن تكون منتمية لمجتمع أخر غير الذي نشأت فيه وكان لهما ما أرادا ولكن كيف؟ وبأي ثمن؟ هذا ما حاول الفيلم أن يجيب عنه.