بيلا تار وحصانه والنقاد المدللون

«حصان تورينو»، الذي عُـرض في مهرجان برلين مطلع هذا العام وينطلق في عروض أميركية  وأوروبية هذا الشهر،  ليس فيلماً لكل المشاهدين. أفلام مخرجه بيلا تار لا تجذب عادة حتى النقاد المدللين فما بالك بالجمهور الذي يريد أن يستشف شيئاً يتواصل وإياه حين يراه ماثلاً على الشاشة، لكن حين لا يكون في نيّة المخرج التعامل شعورياً مع شخصياته وإتاحة الفرصة أمامهم لتكوين ذلك الشعور، فإنه لن يكون مستعداً لمعاملة مماثلة مع مشاهديه. لذلك تحب أفلامه -إذا أردت- كما هي.
إنها أقرب الى التحف تصويراً وشعراً وتأمّـلاً، ما يمنعها أن تجتاز النطاق الضيق بالفعل وتصبح تحفاً هو فقدانها الأمل. لا الأمل الكاذب الواصل الى نهاية سعيدة حتى وإن لم تنتم، بل أمل ناتج عن حب الحياة ذاتها…. هذا لا يزال من مزايا المخرج الراحل أندريه تاركوفسكي وحده.

بيلا تار

أي فيلم لبيلا تار، يصفع الناظر بمشاهد من الصعب أن تُمحى من البال. في الحقيقة، فيلمه الطويل جدّاً “تانغو الشيطان” (ثماني ساعات إلا ربعاً) كلّه يبقى في البال كما لو شوهد بالأمس بمشاهده الطويلة، معايشاته المتمددة التي لا يمكن معرفة متى ستنتهي صوب معايشة أخرى. بلقطاته التي تحرص على تأطير البيئة المنتقلة الى الشاشة. بذلك يبقيها تحت الضوء وفي المقدّمة. الساحة الكبيرة التي تتحرك عليها الأشياء والشخصيات معا. في ذلك الفيلم تعرّفنا على شخصيات حبيس موطنها وحين تحاول الخروج منه وهجران البلدة ليس لديها مكان تهاجر إليه فتعود. شيء كهذا يحدث في هذا الفيلم أيضاً.
يبدأ «حصان تورينو» بذكر حادثة تردد أنها وقعت مع  نيتشه في تورينو سنة 1889 حينما شاهد حصاناً يتلقّى الضرب المبرح من صاحبه، فما كان منه الا أن هرع الى الحصان وحضن رأسه وأخذ يبكي. وحسب ما يرد في مقدّمة مطبوعة قبل المشهد الأول في الفيلم، سقط الفيلسوف مريضاً من بعد ذلك وحتى وفاته. لكن الفيلم لا يريد أن يبحث في تصرّف نيتشه او دوافعه أو حتى ما حدث له من مرض، ولا تقديم حياة ذلك العربجي الذي كان يضرب حصانه بل يسأل “….ما الذي حدث للحصان؟”
ما حدث للحصان كثير. بعد ذلك، يقول الفيلم، رفض الحصان أن يمتثل لرغبة صاحبه الا مرّة واحدة، عندما قرر صاحبه الهجرة وابنته من البيت المزروع وسط اللاّمكان في الريف، واللذين يعيشان فيه بعيداً عن كل شيء، الى مكان آخر لا يدريان أين…. لكن لحظة. هل هو الحصان ذاته الذي تسبب في موت نيتشه؟ بيلا تار لا يقول.

المشهد الأول: الكاميرا تصوّر حصاناً يجر عربة ثقيلة وفوقها رجل يحثّه بالسوط على المضي. المكان ريفي والكاميرا تتراجع الى الوراء وتمسح جانب الحصان والعربة ومن فوقها ببطء لتعود بعد ذلك الى الجزء الأمامي من الحصان كل ذلك بلقطة طويلة واحدة لا تريد أن تنتهي وتستمر طوال المشهد (نحو أربع دقائق). في نهاية تلك اللقطة من الممكن مشاهد الحصان وقد أخذت خطواته تقصر وعنقه يميل الى تحت دلالة تعبه. هذه اللقطة الأولى هي موازية للقطات بيلا تار في “رجل لندن” (2008) عندما تمسح الكاميرا ببطء شديد مقدّمة باخرة راسية في مرفأ. كذلك في “تانغو الشيطان” (1994) حيث الكاميرا تتحرّك بموازاة قطيع من البقر في شوارع قرية مهجورة.
هنا تتحرّك أكثر كونها منصبّة على ذلك الحصان. لكنها لن تتحرّك كثيراً بعد ذلك. ستقف في مكانها لتلتقط حياة الرتيبة أمامها. مع وصول الحصان الى مزرعة صحراوية جافّة في منطقة مهجورة، تهرع ابنة صاحب العربة الى أبيها وحصانه. تساعد أبيها في تفريغ الحمولة وتقود الحصان الى الإصطبل وتغلق الباب وتلحق بوالدها الى داخل البيت المؤلّف من حجرة كبيرة واحدة هي مكان للنوم ومكان للأكل وللطبخ وللجلوس والنظر من النافذة الى العراء في الخارج.
مع هذا المكان سنقضي الأيام الستّة المقبلة، لأن الحصان في اليوم التالي يرفض أن يخطو بعيداً عن اصطبله، وفي اليوم التالي يرفض أن يأكل وفي الرابع يرفض أن يشرب، في الخامس تعتقد أنه لابد مات. في السادس صباحاً سيجرّه صاحبيه بعدما حمّـلا العربة بأمتعتهما الضرورية طلباً للهجرة. يتحرك الجميع بعيداً عن البيت وبعيداً عن الكاميرا فوق الأرض الخالية الا من بئر كان جف ماؤه فجأة. تبتعد العربة والكاميرا تراقبها. تصل العربة الى هضبة بعيدة فوقها شجرة يتيمة تمر بها وتغيب في الأفق. الكاميرا لا تزال في مكانها وحس المشاهد ويقظته منصبّان على الحركة التالية لها. فجأة تعود العربة كنقطة غابرة من الأفق التي غابت فيه. وبنفس المدّة الزمنية التي تطلّبها ابتعادها تعود الى مكانها الأول. ينقل الأب وابنته الأمتعة الى البيت (الكاميرا تحرّكت من مكانها السابق للقطات متوسّـطة لكنها لا تزال خارجية) والحصان الى الإصطبل: لا مكان يستطيعان اللجوء إليه.

هناك غرابة في التكوين لا تفلت من الملاحظة، لكنها جزء من منهج عمل يقع ما بين بدايات الفيلم (المقدّمة ثم ما يقع في اليوم الأول) ونهاياته (يوم الرغبة في الرحيل). وما يقع ليس متعدد الشؤون،  لكنه أثرى مما لو كان كذلك. خلال هذه الأيام التي يمضيها الرجل العجوز وابنته الناضجة (لن تشاهد من أنوثتها ما يُذكر) تمر الأيام ذاتها. هنا لا فرق بين اثنين وثلاثاء وخميس وجمعة (لذلك يطلق عليها المخرج أرقاماً). كل شيء يبدأ باستيقاظ الأب وقد نام على سريره مستلقياً ببعض ثيابه نفسها على ظهره. يجلس ويطلق سعلة. إنها إشارة الى ابنته (الكلام شبه معدوم بينهما) لكي تساعده على ارتداء ما خلع من ثيابه وحذائه فيده اليمنى معطوبة. تذهب الى البئر حاملة الدلو وقاطعة المسافة ذاتها وتستخرج الماء ثم تسلق قطعتين من البطاطا. هذا في اليومين الأوّلين، حين كان ذلك الأب (كلاهما بلا اسم) يأكل البطاطا بشراهة.

الآن لنلاحظ شكل “مأدبة” الغداء:
طاولة خشبية كبيرة يجلسان عليها متواجهين. كل منهما بصحنه وفي كل صحن حبّة بطاطا مسلوقة. حين يبدآن الأكل يسرع الرجل بتقشير البطاطا التي لا زالت تغلي من السخونة (تستطيع أن ترى الدخان يتصاعد منها). أصابعه تحترق لكنه لا يكترث. يقشّـرها بأصابع يده مجتمعة ثم يضع فتاتها في فمه وهي ساخنة. يأكل سريعاً ثم ينهض بينما لا تزال ابنته تأكل متمهّلة.
هذا في اليومين الأوّلين. الإيقاع يصبح بطيئاً بعدما رفض الحصان العمل فتدخّل في حياة صاحبيه. البئر يجف بعد زيارة سريعة لمجموعة من الغجر (لعنة غجرية). الحياة تتحوّل من رمادية الى داكنة. ليس أن تلك الحياة كانت سعيدة قبل ذلك، لكننا نرى الآن موتها. في اليومين الأخيرين تبدو تلك الوجبة باردة والبطاطا ليست مسلوقة تماماً. الأب في اليوم الخامس يحث ابنته على أن تأكل. في اليوم السادس يتوقّف هو أيضاً عن الأكل.
كما يُـلاحظ فإن البؤس الذي تطرّق إليه المجري بيلا تار في “تانغو الشيطان” وأعماله السابقة واللاحقة، مجسّد هنا من جديد لكن ما نراه ليس ساخراً بقدر ما هو مؤلم وهو أكثر ألماً مما في أفلامه السابقة. في الوقت ذاته الألم ليس نتيجة محاولة تحسيس المشاهد بمشاعر إنسانية. هذه الشخصيات تم كيّها من قبل الأقدار وظروف الحياة بحيث لم يعد لديها أي دواع لكي تتحدّث ناهيك عن أن تشعر. وكما في أفلام بيلا تار الأخرى، فإن التصوير بالأبيض والأسود جزء من العالم الذي يصوّره كون الألوان ستوحي ببعض الأمل وهو ضد الأمل الكاذب.

طوال ساعتي الفيلم يحرض المخرج تار على إعادة  تصوير الحركة ذاتها (البطاطا، جلب الماء، الاستيقاظ، الخ…) لكن المشهد ليس هو ذاته دائماً. رغم ما يبدو رتيباً ومتكرراً فإن الفيلم فيه من الثراء في المعاني وفي الصورة ومن ثنايا الشكل القشيب، كالحياة، ما يجعله متخماً بالمضمون الذي يكبر لكنه لا يتكرر.
إذ حط الفيلم على شاشات العالم بالتدريج ويعاود الإطلال طارحاً نفسه كعمل فني، فإن احتمالات  غيابه من دون أثر واردة. هو لم يكن من بين الإختيارات التي أعلنت من قبل أكاديمية العلوم والفنون السينمائية لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وقليل من النقاد ضمّـوه إلى لوائحهم لأفضل أفلام العام. هذا إذا كانوا شاهدوه أصلاً. لكن ذلك الوضع ليس غريباً على المخرج الذي يقول إنه سيتوقّف عن العمل وأن «حصان تورنو» سيكون آخر أعماله. على الرغم من تقدير المجتمع النقدي لأفلامه، لا زال بعيداً عن تحقيق ما وصل إليه مخرجين آخرين.


إعلان