اللقطات السوداء في السينما

 اللقطات السوداء تماماً التي نُشاهدها في الكثير من الأفلام، تسكن السينما منذ بداياتها، حيث يحتلّ اللون الأسود مكانةً خاصةً جداً في المنظومة السينمائية.
في مخزن الكاميرا المُظلم، تستقرّ لفافة شريط أسود، وحالما يضغط المُصوّر على زرّ التشغيل، يعبر الضوء فتحة العدسة، ويتوجه مباشرةً نحو الطبقة الحسّاسة، وتتسجل الصور واحدةً وراء الأخرى بسرعة 24/25 صورة في الثانية، ويبقى الشريط في أجهزةٍ مغلقة قبل تمريره في محاليل كيميائية تُظهر الصور السالبة المُنطبعة فوقه، ومن ثمّ تتحول إلى صور موجبة، ومن أجل مشاهدتها، يتوّجب أن تتدفق بنفس سرعة تصويرها أمام مصدر ضوئيّ يبثه جهاز العرض، والقاعدة العامة، المُثلى، بأن يُعرض الفيلم في صالةٍ مظلمة.
في البدايات الأولى من اختراع “السينماتوغراف”، كانت الأفلام تعتمد على الصورة فقط، وتخلو من الحوارات المسموعة التي يُستعاض عنها باللوحات المكتوبة، ويتحتمّ على المتفرج وحده بأن يتخيّل الأصوات (عندما لا يكون هناك موسيقى، ومؤثراتٍ خارجية مُصاحبة)، وبدءاً من عام 1927 انطلقت رسمياً مسيرة الأفلام الناطقة (“مغني الجاز” للمخرج الأمريكي “آلان كروسلاند”)، وعلى الرغم من هذا التطوّر التقني الذي أضاف إلى السينما ما كان ينقصها، مازلنا حتى اليوم نشاهد أفلاماً صامتة كليّاً، أو تتضمّن مشاهد قصيرة، أو طويلة بدون حواراتٍ، وحتى تخلو من المُؤثرات الصوتية.

جوهرياً، انطلقت السينما من فكرة تحريك الصور، ولهذا، أتخيّل بأنه من المستحيل أن يلجأ مخرجو البدايات إلى إلغاء الصورة من أجل نزواتٍ جمالية، ولكن، بعد دخول الصوت، وبفضل العلاقة التكاملية بينهما، أصبح بالإمكان التخلي أحياناً (ورُبما غالباً) عن بعض الصور، واستبدالها بلقطاتٍ سوداء قصيرة جداً تتكوّن من كادرات قليلة، أو طويلة نسبياً تتشكل من صور متشابهة في السواد، ولكنها تمتلك كلّ خصائص اللقطة المرئية، يدعمها الصوت للحفاظ على استمرارية التدفق البصريّ، والسرد الحكائيّ، وهكذا تحولت الشاشة السوداء إلى لقطةٍ قائمة بذاتها، مفردة سينمائية، ودراميةٌ بامتياز لا يمكن إغفال أغراضها، وكما يُدرك المتفرج عادةً الصمت في البناء الصوتيّ لفيلمٍ ما، فإنه، من الطبيعي، بأن يستقبل بنفس الدرجة اختفاء الصورة لحظياً.
اللقطة السوداء في السينما إذاً هي حالةٌ من الترقيم، التشكيل، أو التنقيط، عبورٌ من مكانٍ، أو زمانٍ إلى آخر، بدون نسيان حالتيّ الاختفاء، والظهور التدريجييّن، مفردتان جماليتان متعاكستان.
يُمثل الظهور من العتمة إلى الوضوح التامّ ولادةً للصورة، ويُشير الاختفاء في الظلام إلى موتها، إذا اعتبرنا الشاشة السوداء حالة قياسية بين بداية، ونهاية .
من جهةٍ أخرى، يمكن اعتبار اللقطات السوداء جسوراً قصيرة، أو طويلة تربط بين وحداتٍ جمالية، أو سردية، ويتوّجب على المتفرج عبورها مغمض العينين متسلحاً فقط بمخزونه البصريّ للمُشاركة في بناء معمارية الفيلم، والربط بين وحداته بدون مخاطر سوف تتضاعف حتماً إذا كان المخرج مُغرماً بهذه الجسور المُعلقة (اللقطات السوداء المُتكررة)، وتصبح المهمّة مُهلكة عندما تكون طويلةً لن يتحمّلها متفرجٌ مصاب برهاب الظلام (كما الحال مثلاً في أفلام المُفكر الفرنسيّ الوضعيّ “غي ديبور”).
بشكلٍ عام، ومهما كانت أطوالها الزمنية، تمثلُ اللقطات السوداء ـ وهنا سوف أتحدث عن السينما التجريبية بالتحديد ـ واحدةً من مُفرداتٍ سينمائية لا تعكس معنى ظاهرياً، ولا تدّعي طموح تجسيد فكرة ما إلاّ التلاعب الجماليّ، والشعوريّ الذي تُحفزه عند المتفرج.
الأمثلة لا تُحصى، ومن المفيد هنا الإشارة إلى بعض الأفلام التي شُوهدت أثناء كتابة هذه القراءة.

في الفيلم القصيرSlide  (4 دقائق، إنتاج عام 2004) لمُخرجه الياباني”يوكي كاوامورا”، وموسيقى “يوشيهيرو هانو”، وفي الجزء الثالث تحديداً، تظهر بعض الكادرات السوداء، وكأنّ الفيلم قد توقف عن تدفقه، ويتكرر هذا الاستخدام بوضوحٍ في الفيلم القصير

Scene H

  (9 دقائق، إنتاج عام 2003) لنفس المخرج، حيث يبدأ بشاشةٍ سوداء، بينما نسمع موسيقى “يوشيهيرو هانو” من خلال شريط الصوت، وفي منتصف الفيلم، تظهر كادراتٍ سوداء بسرعةٍ برقية مُعلنة رُبما عن تغيّيرٍ لحظيٍّ للمُوتيفات البصرية المُسيطرة على الصورة.
بينما ينتهي الفيلم القصير The End لمخرجته الكولومبية “تريني برادا”(4 دقائق، إنتاج عام 2008) بشاشةٍ سوداء لبعض الدقائق، ويتواصل الصوت حتى النهاية.
ويرتكز الفيلم الفرنسيّ القصير Été لمُخرجه “رومن كروننبرغ”(16 دقيقة، إنتاج عام 2006) على علاقة حبٍ متشابكة بين ثلاثة أشخاص.
وبما أنّ معظم اللقطات كبيرة جداً، ولا تُظهر ملامح الشخصيات بوضوح، تبدو الشاشة السوداء التي تتخللها تعبيراً عن حالة ذهابٍ، وإيابٍ بين أماكن، وأزمنة مختلفة.
في هذا الفيلم، يعتني البناء المونتاجيّ بأجزاء من الجسد، أو جانب من الوجوه المُسترخية بعد لحظاتٍ حميمة، أو حتى غارقة في الظلام، وأحيانا تختفي تدريجياً في عتمة الشاشة، أو تظهر منها، يتعاقب الليل، والنهار، وكأنّ الشخصيات لا تُمارس شيئاً غير الحبّ، النوم، التأمل، والصمت.
وتأتي الشاشة السوداء، وكأنها فواصل مونتاجية، واضحة، ومحددة، إشارات مادية، حواجز زمنية وهمية، أو متوّهمة، تُعوّض عن كلماتٍ تفسيرية من نوع :
ـ في اليوم التالي، بعد ساعات، شهر، سنة….
وهي تُرمم انسيابية السرد المُتشظىّ، وتعفي الفيلم من الحكاية، وتُحوله إلى شحنة مشاعر، وأحاسيس تُلخص أيّ حكاية يمكن أن نتخيلها حول هذه الشخصيات الصامتة.

وعلى الرغم من سيطرة الجانب الجماليّ، والبنائيّ للشاشة السوداء في السينما التجريبية تحديداً، يستخلص منها الكثير من المخرجين قيمتها، وطاقتها كما الحال مثلاً في الفيلم القصير The Return (5 دقائق، إنتاج عام 2008).
إنها محاولةٌ من المخرج التايلاندي “تولابوب ساينجاروين” إحياء ذكرياته الضائعة مع أبيه الذي تُوفيّ عام 1991.
نموذجٌ مثاليّ للجوانب التعبيرية، والدرامية للشاشة السوداء، في هذا الفيلم الشعريّ، يتحوّل السواد إلى لازمةٍ بصرية، إنها بالآن ذاته، تفصل، وتجمع ما بين الصور الفوتوغرافية المُتعاقبة التي تمّ التقاطها أثناء الطقوس الجنائزية، يُصاحبها تعليقٌ بصوت المخرج نفسه متقمصاً دور الأب، وقد تخيله بأنه عاد إلى الحياة يُسجل رسالةً صوتيةً لابنه.
تنبثق الصور من الماضي، وتُزيد من وطأة القدر، وثقله عندما تتوسط سواد الشاشة، وكأنها تخرج من العتمة، تُنشئ جسوراً ذهنية هشة تختلط بحدادٍ مؤقت يتوافق مع البناء السينمائي المُستخدم في حدّه الأدنى، حيث يتكوّن الفيلم من حوالي 16 صورة فوتوغرافية، ولقطةً تمثيليةً ختاميةً واحدة، والباقي شاشة سوداء.

The Return

يتسامى بناء الفيلم مع تيمةٍ حنينية، والرغبة في العثور على شخصٍ اختطفه الموت، وأصبح من المستحيل الآن، أو غداً الوصول إليه، ولم يعدّ أمام المخرج إلاّ هذا الفعل السينمائي التطهيريّ .
في اللحظات الأولى من الفيلم، شاشةٌ سوداء، ضجةٌ غير مفهومة تصدر عن شريط الصوت، وبعد ظهور الصور، وسماع كلمات الرسالة، نفهم بأنها تأثيرات صوتية لحركة ميكرفون، وآلة تسجيل.
إذاً الشاشة السوداء تحجب عنا عمداً صورة الابن في مكانٍ ما وهو يُمثل دور الأب .
وبعد أن يتكرر ظهور الشاشة السوداء برتابةٍ نسبية، وفي منتصف الفيلم تقريباً، تظهر بعض الصور بطريقةٍ متسارعة تقطعها ومضاتٍ سوداء، بينما تزداد حدة الضجة أكثر، فأكثر.
في اللقطة الأخيرة، التمثيلية، تصور الكاميرا شاباً ـ المخرج ـ من ظهره، يرفع عن رأسه السماعات، وهنا تفسر هذه النهاية بداية الفيلم الصوتية الغامضة، وهذا يعني بأنّ المخرج إختار عمداً الظهور في اللقطة الأخيرة كي لا يكشف عن غموض شريط الصوت، وتساؤلات المتفرج المُحتملة، والمشروعة عن شخصية الأبّ الذي عاد إلى الحياة يكتب رسالة إلى إبنه.
ينهض الشاب، ويترك المكان الذي يبدو مثل خزانة كبيرة يُخبئ فيها ذكرياته.

ومن استخدامات جزئية، ومتنوعة الأشكال، والمعاني ـ إن وُجدت ـ نحتاج إلى التذكير بالنموذج الأكثر تمثيلاً للشاشة السوداء في السينما.
مُنذ اكتشافها، ارتبطت السينما بالصورة المُتحركة، وقدرتها السحرية على إيهام، وإبهار المُتفرج، وتزامنت محاولات تسجيل الصوت، والصورة على دعامةٍ مادية، وفي الوقت الذي بدأت من الصورة، وانتظرت ربع قرنٍ تقريباً كي تستثمر الصوت (الحوار المُتزامن)، جاء الألماني “والتر روتمان”، وتجرأ على زعزعة تلك الحقيقة، ومنح البناء الصوتيّ أهميته الجمالية، وحقق فيلماً بدون صور.
 Wochenende (عطلة نهاية الأسبوع) الذي أنجزه في عام 1930، فيلمٌ نادرٌ في تاريخ السينما التسجيلية، والسينما بشكلٍ عام، تنحو جذريته إلى حدّ إقصاء الصورة تماماً، والاكتفاء بشريط الصوت فقط، 11 دقيقة، و30 ثانية يُبحلق المتفرج خلالها في شاشةٍ سوداء، ويسمعُ تتابع، وتداخل أصواتٍ عديدة.
في “عطلة نهاية الأسبوع” تخلى “والتر روتمان” طوعاً عن المكان المرئيّ عن طريق الصورة، واحتفظ بالزمان المُسجل من خلال الصوت الذي تمّ إضافته إلى الجانب المُخصص له في الشريط الحساس بهدف عرضه في صالةٍ أمام جمهور ينظرُ إلى شاشةٍ كبيرة يختفي المكان في عتمتها، ولم يتبقَ منه غير الصوت.
ومنذ تلك اللحظة، أصبح “عطلة نهاية الأسبوع”، شئنا، أم أبينا، فيلماً بدون صور.
لقد أنجز “روتمان” فيلمه بدون كاميرا(وهي مُمارسةٌ شائعةٌ في السينما التجريبية)، ولهذا، لن أعتبر عدستها عمياء، ولكن، كان “عطلة نهاية الأسبوع” بالأحرى أول فيلم أعمى في تاريخ السينما.

هوامش :
للقراءة أيضاً
عطلة نهاية الأسبوع، فيلمٌ تسجيليٌّ أعمى لروتمان
http://doc.aljazeera.net/followup/2010/08/2010823840488273.html


إعلان