الحرب وآثامها: ثلاثة أفلام يقودها عمل كوبولا
محمد رُضا
لا أدري كم من مرّة تم إطلاق رائعة فرنسيس فورد كوبولا «سفر الرؤيا… الآن» على أسطوانات. خمس مرّات؟ عشر مرّات؟ أكثر؟ ودائماً هناك مريدون. جمهور يتلقّـفه من جديد بعضه لديه نسخ سابقة يريد أن يُضيف عليها آخر ما تم إطلاقه بسبب الإضافات التي تحويها الإصدارات الجديدة عادة، وبعضهم للمرّة الأولى.
والفيلم يستحق. بين كل الأفلام الحربية عن فييتنام، هذا أقواها و-إلى جانب «سترة معدنية واقية» لستانلي كوبريك و«صائد الغزلان» لمايكل شيمينو من أفضلها. بل في حساب بعضنا أفضلها لما تتشبّع به الصورة في كل مشهد من محتوى صادم وبحث في الإنسان كوليد مجتمعه ونظامه.
وسآتي من الآخر: «سفر الرؤيا… الآن» فنيّاً، شغل مخرج من درجة “ماسترز”. السينما خُـلقت لأمثاله. لأصحاب الرؤية والحرفة والموهبة التي لا تُحد. مشاهده الطويلة ثرية في عناصرها البصرية كما في مضامينها الخاصّـة. تصوير فيتوريو ستورارو بدوره من تلك النتائج التي من الصعب مجاراتها. والتمثيل من الجميع فوق المعدّل لمعظم المشتركين. الأدوار الحاسمة لبراندو وشين ودوفال ودنيس هوبر في دور الصحافي المأخوذ بالكولونل. يكفي الفصل الأول من الأحداث (المستلهمة من لكنها غير المقيّـدة بـرواية جوزف كونراد الصعبة «قلب الظلام») الذي يبدأ على النحو التالي:
غابة خضراء تشاهدها في غير وضوح ومن خلال ضباب الصباح. ثمة صوت لا نميّزه في باديء الأمر، ثم نشاهد طائرة مروحية تمر عابرة. حرائق تشتعل في الغابة وصوت الطائرات المروحية مستمر. هذا الصوت يصير رمزاً للخوف كما تصير صورته. والطائرة المروحية التي يتكرر ظهورها طوال الفيلم، ما عدا الدقائق العشرين او نحوها، تصير باب النهاية. أداة الدمار وفرصة الموت

0
ثمّة وجه مقلوب على الشاشة يتبع صور الغابة وما يطير في فضائها. إنه وجه الكابتن ويلارد (مارتن شين)، وهو مستلق في غرفة فندقه على السرير. يتذكّر. يسمع ويكاد يصرخ. الصور الأولى تلك في باله. هناك أيضاً موسيقا فرقة “ذ دورز” وصوت الراحل جيم موريسون وهو يغني “هذه هي النهاية”. صورة مروحة الطائرة تمتزج بصورة لمروحة هواء معلقة في السقف. هذا المزج ينقلنا من بقايا أشلاء مشهد الغابة الى المشهد الثاني وهو غرفة الكابتن ويلارد. مع هذا الإنتقال نسمع صوت ويلارد يتحدّث إلينا: “عندما أكون هنا، أرغب في أن أكون هناك. وعندما أكون هناك… أتمنى لو كنت في الغابة” الهنا والهناك هما الغرفة والغابة. الغرفة هي أقرب شكلاً الى الوطن. الغابة هي الحرب. لكن الرابط بين الوطن وبين الحرب هو حالة الجنون0
هذه التلاطمات من الأفكار تثيره. يقف أمام المرآة ويهوي عليها بضربة من قبضته. تتلوّن قبضته دماً يمسح به وجهه (الممثل مارتن شين جرح نفسه فعلاً وعن قصد في هذا المشهد) ملاءته. ينزع عن سريره وعن نفسه كل غطاء ويقف عارياً. إنه يهلوس. يقترب من حافّة الجنون. او ربما كان أفق الحياة المدنية من جديد هو الذي يضعه على تلك الحافّة. مثل طير في قفص اعتاد سابقاً الحريّة0
جنديان يدفعان باب غرفته. يضعانه تحت الماء البارد ليصحو. يتوجّـهان به الى مكتب الجنرال حيث نعلم أن الكابتن ويلارد قاتل محترف يعمل لصالح السي آي أي. الوكالة تريده أن يقتل من جديد. هذه المرّة أن ينفذ حكم الإعدام بالكولونيل كورتز. يقول له الجنرال أن كورتز مسّّـه عارض جنون. فتح لحسابه جيشاً عند الحدود الكمبودية. واخترع لذلك الجيش وظيفه هي قتل الجنود الأميركيين والفييتنامين على حد سواء. لا أحد يفهم بالتأكيد ماذا يريد الكولونيل كورتز إنجازه من وراء ذلك او لماذا يفعل ما يفعل “لقد كان واحداً من أبرز الضبّاط وهو الذي طلب تجنيده للحرب. عليك أن تبيده بأسرع وقت”0
ما يلي هذا الفصل ليس قصّـة (كحال أي فيلم عظيم تهطل أبعاده كالمطر على كل أرضه) بل رسم خارطة تلك الرحلة المسكونة والمهووسة. سنرى كيف سيتصرّف الأربعة حين يلتقون بقارب لمدنيين فييتناميين فيمطرونهم بالرصاص لمجرد اشتباههم بأنهم مسلّحين. ثم هناك المشهد الكبير للغارة الجويّة الأميركية على قرية فييتنامية. هذه مدعاة أهمية كبيرة نظراً لأنها تبدو كما لو كانت جزءاً من فيلم خيالي- علمي لشدّة غرابتها. الغاية من الهجوم المسلّح هو رغبة الكولونيل كيلغور (روبرت دوفال الذي ظهر أيضاَ في أكثر من فيلم لكوبولا) إزالتها من الوجود لأن شاطيء البلدة جميل جداً لرياضة «السيرف» عليه. الهجوم يبدأ بالطائرات المروحية التي تطلق صواريخ لدك البيوت والمدارس وتحصد برصاصها الغزير الأرواح الهاربة. الكابتن كيلغور يرتدي قبّعة وسترن (للتذكير بشخصية الكولونيل كَـستر الذي حارب المواطنين الأميركيين الأصليين بالغرور ذاته) ويضع سيغار وسط شفتيه الباسمتين ويضحك واثقاً من نفسه. يتقدّم من فييتنامي أسير كان أحد الجنود يسيء معاملته ويدفع بالجندي بعيداً ثم ينحنى على السجين يريد أن يعطيه بعض الماء. من قبل أن يصل الماء الى فم الأسير ينهض كيلغور عنه وقد انشغل بأمر آخر. هذا يمنحنا فكرة عن رجل لا شيء إنسانياً فيه. لا يكترث ولا يهمًّـه إذا ما وصل الماء لشفتي المقبوض عليه أم لا لأن حنانه المفاجيء غير صادق وانتهى فجأة أيضاً. إنه، من ناحية أخرى، نمط من القادة الذين يثقون بأنفسهم أكثر مما يجب.
الفانتازيا الكامنة في المشهد المذكور من “سفر الرؤيا الآن” لا شبيه لها في أي فيلم حتى الآن. حين نزول كيلغور الشاطيء يقف شامخاً واضعاً يديه على جانبيه متحدّثاً الى جنوده. تسقط قنبلة قريبة. ينبطح الجميع أرضاً الا هو. هو مشغول بالتعليق على رائحة النابالم المتصاعدة من القصف الأميركي “أحب رائحة النابالم في الصباح … إنها … إنها تذكرني بالنصر”0
هذا الفيلم ليس الوحيد المرتبط بحرب ما الذي يحط هذا الأسبوع على أسطوانات. هناك حرب باردة غير مفصح مع من على نحو مباشر في Suddenly. طبعاً أستطيع ترجمة الكلمة إلى معناها بالعربية وهو «فجأة» لكنها هنا إسم البلدة الصغيرة التي من المنتظر أن يتوقّـف في محطّـتها رئيس الجمهورية الأميركية. القطار سيصل في وقت محدد ورجال الأمن الرئاسي وصلوا للتأكد من سلامة المكان. فرانك سيناترا هو محارب أميركي عائد من الحرب العالمية الثانية مهملاً إلى أن وجد قوّة أجنبية تتبنّـاه وتشترى إخلاصه للوطن وتستأجره لقتل الرئيس. هو وثلاثة رجال يقتحمون المنزل الذي يطل على محطّـة القطار. في البيت عجوز وإبنته وإبنها من زوجها الذي كان مات في الحرب. وفي الزيارة رئيس البوليس (سترلينغ هايدن).

هذا فيلم صغير تم إنتاجه سنة 1952 واختفى بعد عروضه الأولى ثم أصبح الآن كلاسيكياً في نوعه. بوليسي النبرة لكنه ليس خالياً من طرح صلب أو إثنين. رتشارد سال كتب فيلماً يدور في جوهره حول شرعية إستخدام السلاح لمجابهة الأشرار. في مطلع الفيلم هذا هو محور الجدال بين تود والأم إلِن. يحاول شراء مسدس لإبنها وتعارض هي ذلك على أساس أن زوجها قضى بسبب العنف وهي لا ترى أن السلاح يحلَّ أي إشكال. في نهاية الفيلم هي من تستغل الفرصة فتلتقط مسدّساً وتقتل الشرير جون. بذلك يضعها الفيلم في خضم التجربة الصعبة التي تخلق منها مؤمنة بالسلاح ومهمّته. كذلك، الصبي الذي لا يُلام لرغبته تعلّم إستخدام السلاح، والجد الذي كان يعمل في مخابرات الحكومة والشريف الذي خاض الحرب ووجد عملاً لا يتخلّى به عن سلاحه. المجرم جون كان في تلك الحرب وخرج منها أقل إيماناً بأسبابها الموجبة. بالنسبة إليه كانت مناسبة لكي يقتل، وهو -يخمّن تود في حديث بينهما- سرّح لأنه لم يكن جندياً صالحاً. وهو يعمل لحساب جهة أجنبية، لا يفصح الفيلم عنها، لكن لنتذكّر أن الفيلم خرج في مطلع إنشقاق الحلفاء ما بين شرقيين (بقيادة الإتحاد السو?ييتي) وغربيين (الولايات المتحدة). وهو يريد إغتيال الرئيس فقط لأنه قبض نصف ثمن جريمته (النصف الثاني بعد التنفيذ) وليس لغاية سياسية. في عرفه أنه بعد دقيقة واحدة يتم إستبدال الرئيس بنائبه ولا أحد يخسر شيئاً.
فيلم آخر عن تبعات الحرب متوفّـر هذا الأسبوع، وللمرّة الأولى على أسطوانات، وهو«الأضاليا الزرقاء» (1946) لجورج مارشال. هذا المخرج من رعيل راوول وولش وجون فورد وهنري هاثاواي الذي لم يكن يقيم وزناً كبيراً للأسلوب الفني بل يشغل نفسه بتمرير فيلم سهل المتابعة مع حبكات قوية. وهذا شأن هذا الفيلم.
?تم إستعجاله حين الإنتاج ذلك أن ألان لاد، نجم أفلام صغيرة- كبيرة في الأربعينات كان لديه ثمانية أسابيع بإنتظار فيلمه التالي (دراما أخرى عن الحرب بعنوان O.S.S) وأرادت باراماونت إستغلالها فمنحته بطولة هذا الفيلم الذي أجبر المخرج مارشال على البدء بتصويره حتى من قبل أن ينتهي الكاتب والروائي الرائع رايموند تشاندلر من إنجاز السيناريو. والموضوع الخلفي (أي ذاك الذي يحيط بالقصّـة) هو عن الآثار النفسية والعصبية كما الإجتماعية للحرب على الجنود العائدين: العصبية والنفسية من نصيب شخصية يقوم بتمثيلها وليام بنديكس العائد بطنين متواصل وصداع شديد في رأسه لا يستطيع معه تحمّـل أي ضجيج. الجانب الإجتماعي يمثّـله ألان لاد الذي عاد ليجد أن زوجته على علاقة بآخر. ?
موضوع حسّـاس في ذلك الحين يخلو، للأسف، مما يلزم من أسلوب بصري أقوى لتمييزه. رغم ذلك هو شهادة بتوقيت ذلك العصر عن تبعات الحروب وآثامها.