ملاحم للتوثيق وصناعة وجدان الأمة
شهداء الثورة المصرية ..أبطال سينما المستقبل 1/5
أسامة صفار
مهما ارتقي الخيال و مهما كانت الرؤية في العمل الفني خلاقة ومبدعة فانه من المستحيل الوفاء لشهداء ضحوا بحق الحياة لمنح المصريين الحق في حياة أفضل، لكن محاولة تخليد هؤلاء الأبطال في الذاكرة الشعبية والسينمائية المصرية لن تكون فقط محاولة للوفاء لقدر يسير مما ضحوا به من أجل وطنهم ولكنها أيضا سوف تكون ذاكرة مجتمعية للبطولات الملهمة والداعمة للشعور الوطني والمجتمعي التي قد تشكل ضمير المجتمع في لحظات كتلك التي تمر على مصر الان وهي أيضا قد تمثل محاولة لرسم صورة البطل الأسطوري علي شاشة السينما كما ينبغي ان يكون، انطلاقا من واقع شاهدناه جميعا وشاهده العالم كله عبر شاشاته في 18 يوم ملحمية وأيام عظيمة تلتها .
وسوف تتأمل السينما عبر أفلام كثيرة ثورة يناير ومع كل مشاهدة لفيلم جديد سوف نكتشف ملمحا جديدا من ملامح البطولة التي تتجاوز القدرة العادية إلى مستوي مبهر بقدر ما يستطيع مبدعو العمل أن يحققوه لكن الأهم أننا – وبالاضافة الي النماذج العظيمة في تاريخنا والتي تصلح لالهام مبدعي الأفلام وكتاب السيناريو لتقديمها – فان ثمة عطاء جديد عبر اللحظة الثورية التي تمور حتي الان هو تلك النماذج الأسطورية والتي تقف جنبا الي جنب مع جيفارا وأدهم الشرقاوي وعنترة بن شداد وصلاح الدين الأيوبي وجمال عبد الناصر وهي نماذج تصلح بذاتها وتصلح بصفاتها للاسقاط علي أبطال الأعمال كما أن ملامحها شديدة المصرية ترشحها لتمثيل الجمهور المصري
ورغم قلة عدد الافلام التي انتجت في مصر بعد الثورة – سواء كانت روائية او تسجيلية – فان المستقبل سوف يشهد تأملا يفي بما تستحقه بطولات هؤلاء وبالتالي يستطيع أن يرسم ملامح نفسية لولد لم يتجاوز التسعة عشر عاما يواجه مدرعة وهو أعزل، وآخر يقفز بجسده لمواجهة سرية أمن مركزي كاملة ومئات من المصلين المسلمين تنطلق خراطيم المياه الثقيلة لتخدش قدسية صلاتهم ليتصدى لها مئات من المسيحين كل على طريقته .
ولعل استعراض الانتاج السينمائي الذي شهد ثورة حقيقية سبقت ثورة يناير عبر أفلام معينة يكون مفيدا في هذا السياق فبقدر ما تحتاج السينما الي بعض الوقت لتأمل الحدث ومن ثم قراءته وتجسيده فيلميا فان القدرة العظيمة للأفلام تتجلي أيضا في التنبؤ بالثورة والتحريض عليها من خلال أبطال تنوعت أنماطهم بين المهزوم والساخر والايجابي .
ولعل تكريم هؤلاء الأبطال لا يقتصر على ذكرهم أو الاقتصاص من قاتليهم وانما بتحقيق أحلامهم بمصر عظيمة وسينما مصرية تجوب الافاق باسمهم وصفاتهم وأنماطهم وتحقق انتاجا راقيا وناجحا وتساهم في رفع وعي الجمهور بذاته أولا وبالاخرين وتكشف عن الطاقة الايجابية للشعب الذي أنجب هؤلاء الأبطال .
وقد يكون من المنصف أن نسجل هنا أن طرح نماذج لأبطال السينما ليس جزءا من صناعة الفيلم في مصر – حتى الآن – لكن تحديث الفكر السينمائي ينبغي أن يكون واحدا من أهداف الانتاج السينمائي ليس فقط من أجل تكريم أبطالنا الذين يرتقي معظمهم لدرجة الأسطورة والملحمية ولكن من أجل النجاح في التواصل مع مجتمع يختزن كل هذه القدرة وكل هذا القدر من النبل والشجاعة وانكار الذات بلغة يفهمها وناس يشبهونه فلا يشعر بالاغتراب معهم .
صناعة الأساطير

واذا كان الأداء الشعبي المصري في ثورة 25 يناير استثنائيا طبقا لما رآه أغلب الناس وخاصة النخبة المصرية فاننا – على الأقل – أمام معضلة تتلخص في الصعود الي هذا المستوي الاستثنائي من الأداء وخاصة في المجالات التي تتعاطي مع ما يخص “الشعبي” في الأمر وبشكل خاص “السينما ” .. ليس باعتبارها وسيلة ترفيه ظلت تخسر جمهورها وأموالها لسنوات طويلة نتيجة عدم التواصل الجدي مع الجمهور ولكنها لأنها أيضا قامت بدور يعبر في مجمله عن أحوال مصر المجتمعية في الأعوام الثلاثين السابقة على الثورة سواء على مستوى رسالة العمل الفني و مستواه أو طبيعة البطل في كل فيلم حتي أن كل عمل فني بذاته يصلح تماما مرآة لحالة المجتمع الثقافية والاقتصادية والقيمية في لحظة انتاجه.
والحقيقة أن عبقرية الفن السابع يمكن التأكيد عليها عبر فكرة التعبير عن المجتمع مهما كان المستوي الفني للعمل اذ يخرج من مجال التقييم الفني بلا تقييم ليخضع للبحث السوسيولجي ومسطرة القيم وتحليل الصورة وما وراءها لنجد أنفسنا أمام نص غني بالدلالات التي تشير إلى طبيعة المجتمع حتي لو كان هذا النص السينمائي يحمل تصورا ممسوخا عن المجتمع ليس له من علاقة بالواقع سوي اللغة التي يتحدث بها الأبطال والأماكن التي يتحركون فيها فثمة ما يمكن أن يكشف عنه انفصال فريق من المبدعين بدءا بالسيناريست وانتهاء بالبطل والمخرج عن مجتمعهم في لحظة ما .
والأعمال السينمائية ليست كاشفة فقط لما يمكن أن يكون عليه مجتمع في لحظة ما ولكنها تتولي – بحكم طبيعتها – وظائف أخري قد تكون الأخطر فالسينما في النهاية وسيلة اتصال جماهيري يحتل الترفيه جزءا كبيرا من وظيفتها لكن هذا الترفيه وعبر قوة الايحاء وسحرها يشكل صورا ذهنية في عقل المشاهد ويبني الوجدان بشكل يحدد الميول والاتجاهات والانحيازات لشرائح مجتمعية واسعة في المستقبل ولسنا بحاجة هنا الي دليل علي ادراك السياسيين والقادة في تاريخ مصر لتأثير السينما علي التوجهات الشعبية لأن ما قام به ثوار يوليو من دعم للفن السينمائي – ومختلف الفنون أيضا – واضح تماما فضلا عن التدخل علي مستوي المضمون والصورة وتوجيه قطاع كبير من صناع السينما الي تقديم أعمال تدور في فلك التوجه السياسي والمجتمعي في تلك الفترة .
والنموذج الأكثر حضورا هنا هو ” هوليوود ” التي لم تعد أكبر مدينة لصناعة السينما في العالم فقط ولكنها تحولت بالعلم والمنهج والمصالح الرأسمالية الي أكبر مصنع للأساطير في التاريخ سواء تلك الأساطير التي تحول من شخص مجهول الي واحد من أشهر وأكبر الرموز في العالم أو تلك التي تبني تاريخا لا وجود له لأمة أو لمجموعات بشرية لم تظهر عليها أمارات التحضر يوما
ومن النادر أن نجد فيلما تم انتاجه في هوليوود لا يحتوي علي رسالة فضلا عن رسائل فرعية بجانب المقولة الفلسفية أو الأخلاقية التي تتجلى ما بين مشهد واخر لترسم صورة ذهنية في عقل المشاهد حتى يرضخ لها ويؤمن بحقيقتها ولا يتخيل بعض العرب أن كبار صناع السينما في هوليوود يجتمعون للاتفاق علي تشويه صورة العرب من جهة وتعظيم صورة اليهودي من جهة أخري وتشويه الأسيويين والزنوج والخروج بنتيجة نهائية ملخصها أن الجنس الأبيض هو الأنقى والأعظم لكنهم بالفعل يشكلون شبكة مصالح تحتكم الي معايير تخصهم وينشرون ثقافة تنتمي بالضرورة الي قناعات الأغلبية القوية هناك ومن ثم تسير الأمور بشكل آلي في صناعة أفلام تستجيب للمصالح وللثقافة المنتشرة هناك لتنتشر في العالم كله.
الصورة الذهنية
ولم تحقق هوليوود سيطرتها علي صناعة السينما في العالم بالمال أو المواهب التي تزخر بها فقط ولكنها استخدمت العلم ومناهجه المختلفة والأسس المعرفية التي يمكن البناء عليها لتشكيل صورة ذهنية ليس عن المؤسسات المنتجة للأفلام فقط ولكن عن النجوم الذين يقدمون هذه الأفلام فضلا عن الاستثمار الأكبر وهي تلك الأساطير التي تصنع ليتابعها الناس عبر أفلام متوالية مثل جيمس بوند وباتمان وروبين هود والرجل الحديدي وغيرهم ولعل بناء الصورة الذهنية لواحد من هؤلاء هو الخطوة الأكثر دقة وصعوبة ولكن الأهم أن الأفلام التي تقدم بعد ذلك سوف تحمل عوامل نجاحها فيها عبر صورة ذهنية تم رسم كل ملمح فيها بدقة شديدة ورسالة واضحة ومحددة ومقبولة نظرا للقبول الذي حظيت بها آلهة هوليوود المختلفة وأساطيرها ومن هنا تأتي أهمية الصورة الذهنية والذي ظهر كمصطلح متعارف عليه في أوائل القرن العشرين حيث أطلقه “والترليـبمان” وأصبح أساساً لتفسير الكثير من عمليات التأثير التي بها وسائل الإعلام وتستهدف بشكل رئيسي ذهن الإنسان
ويلخص التعريف اللغوى للصورة الذهنية من المعجم الوسيط الصورة بأنها ” الشكل والتمثال المجسم، والصورة بمثابة خياله فى الذهن أو العقل ” ويقصد بالصورة في المعجم العربي الأساسي” كل ما يصور مثل الشكل أو التمثال المجسم والنوع والصفة، وصورة الشئ هى خياله فى الذهن أو العقل”ويعرف قاموس المورد الصورة بأنها ” الإنطباعة الذهنية، أو عكس الصورة، أو يرمز أو يمثل “ويعرفها معجم لاروس بأنها ” الشكل والتمثال المجسم” ويعرفها معجم المصطلحات الإعلامية بأنها ” فكرة ذهنية أو صورة أو انطباع، وقد تكون صورة لشئ أو لشخص فى ذهن إنسان، أى فكرته التى كونها عن ذلك الشخص، وصورته التي رسمها له في ذهنه أو انطباعه عنه”0
وقد تعددت التعريفات الإصطلاحية التى قدمها الخبراء والباحثون والكتاب للصورة الذهنية، نذكر من بينها تعريف قاموس ويبستر الصورة الذهنية ” بأنها التقديم العقلي لأى شيء لا يمكن تقديمه للحواس بشكل مباشر، أو هي محاكاة لتجربة حسية ارتبطت بعواطف معينة نحو شخصية معينة، أو نظام ما، أو فلسفة ما، أو أى شئ آخر، وهى أيضاً استرجاع لما اختزنته الذاكرة، أو هى تخيل لما أدركته حواس الرؤية أو الشم أو السمع أو اللمس أو التذوق، ويعرّف البعض الصورة الذهنية بأنها الصور العقلية التى تتكون فى أذهان الناس عن المنشآت والمؤسسات المختلفة وقد تتكون هذه الصور من التجربة المباشرة أو غير المباشرة ، وقد تكون عقلانية أو غير رشيدة، وقد تعتمد على الأدلة والوثائق أو على الشائعات والأقوال غير الموثقة، ولكنها فى نهاية الأمر تمثل واقعاً صادقاً بالنسبة لمن يحملونها فى رؤوسهم.