كليرمو-فيرا للأفلام القصيرة: مهرجان العلم والفن
نضحت الدورة الـ 34 للمهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمو ـ فيرا (فرنسا) بالكثير من الأحداث، والمُفاجآت السينمائية، ومنها على سبيل المثال، الاحتفال بمرور خمسين عاماً على تأسيس “المعهد الوطني العالي لفنون العروض المشهدية، وتقنيات البث” (Insas)، وهي مدرسة حكومية للتعليم العالي الفني في بلجيكا الناطقة بالفرنسية، وقد تخيّرت بأن تجمع مناهجها الدراسية عموم الاختصاصات المُتعلقة بالسينما، إدراكاً للصلة الوثيقة بينها، وطوال خمسين عاماً من عمرها شيّدت سمعةً في المجالات السمعية/البصرية، والمسرح، أكان ذلك في بلجيكا، أو خارجها.
تأسّس المعهد في عام 1962 انطلاقاً من الفكرة القائلة بأننا لا نحتاج فقط إلى تدريب المهنييّن في جميع المهن، ولكن، أيضاً يرتكز تعلم اختصاصات العروض على مبدأ التكاملية فيما بينها، حيث لا يمكن تصوّر الإخراج بدون تواجدٍ موازٍ لتكوين الممثلين، وبالضرورة يندرج تدريس المونتاج، والصوت مع مشروع عام في الإخراج، وهكذا، أنشأ هذا المنهج المُتفرّد في تدريس الفنون المشهدية في بلجيكا سبل بحثٍ، وممارسات جديدة تماماً.
تهدف المدرسة لمنح طلبتها تكويناً احترافياً عالي المستوى، وتكوين فنانين، وحرفييّن في السينما، التلفزيون، والمسرح، وأيضاً شحذ روح الإنسانية، والتسامح في نفوس طلبتها، وتكوين محترفين شباب قادرين على ممارسة مهنتهم بذكاء نظرة نقدية تبدو لنا أكثر من أيّ وقتٍ مضى تحدياً جوهرياً تدّعي بأنها تكشف عنه.
يتولى التدريس مجموعة من السينمائيين الناشطين في المجالات الإبداعية، ويهتمون بنقل المعلومات لضمان تحديث مستمرٍ للمعارف التقنية، والتفكير النقديّ حول التطورات التقنية، والفكرية.
يبدأ الطلبة سنتهم الأولى بعد اجتياز امتحانات قبولٍ دقيقة ترتكز على اختباراتٍ يتقدم لها سنوياً حوالي 500 مرشح .
ويعتبر الانفتاح على العالم واحدة من مميزاتها، هناك حوالي عشرين جنسية مختلفة من بين الطلبة، ومما لاشك فيه، يمنح هذا الخليط من الثقافات، والحساسيات تجمعاً خرج منه مجموعة من الشخصيات السينمائية المُعتبرة، ومنهم : جاكو فان دورمايل، ميشيل خليفي، برهان علوية، شانتال أكيرمان، برونو نويتين، فيليب جيلوك، كريستيان هيك، شارل بيرلانغ، ريمي بيلفو،….
وبمناسبة الاحتفال بخمسين عاماً على تأسيس هذه المدرسة، سوف تمتدّ عموم النشاطات، والتظاهرات خلال العامين 2012/2013، وتُسلط الأضواء على الجودة، التنوّع، والاحترافية، وأيضاً عمق المنهج الدراسي، وذلك عن طريق قنواتٍ موجودة سابقاً (الحضور في المهرجانات السينمائية، برمجة أفلام في المراكز الثقافية)، برامج تلفزيونية، أحداثاً خاصة (معارض، إبداع أعمال،…)، وإصداراتٍ تربوية، وخلال الدورة الـ 34 لمهرجان كليرمو ـ فيرا(فرنسا) قدم المعهد عرضين بمجموع 10 أفلام قصيرة.
ذبابٌ، وحشراتٌ أخرى

هناك عالمٌ غير مرئيّ (تقريباً) يتشارك في العيش معنا، يسكنه مليونا نوع من الحشرات، بمعنى ثلثيّ الأنواع الحيوانية المعروفة بالنسبة لنا فوق الأرض، فقط واحدٌ منها ينجح بجعلنا نصرخ بقدرٍ من الفزع، وكأننا التقينا وجهاُ لوجهٍ مع شبح في منحنى أحد الممرات المُعتمة.
إنه عالم الحشرات.
من لم يرتبك من طيران عشوائيّ، وأزيز خنفساء، وهي تتجه مباشرة نحونا ؟
ومن لم تزدد خفقات قلبه عندما يجد صرصاراً في طبق طعامه ؟.
ومع ذلك، هذه الحشرات ليست كبيرة، الأكبر منها المعروفة بالنسبة لنا حتى يومنا هذا كانت تعيش قبل 300 مليون سنة بالقرب من كليرمو ـ فيرا(فرنسا)، وبلغ حجمها 75 سنتمتراً.
اليوم، تمتلك الحشرات حجماً صغيراً، ولكن، هذا لا يعني بأنها أقلّ إثارةً للقلق، وعندما تُوضع الكاميرا في مستواها، ندخل حرفياً في عالمٍ من الخيال، فظاً، عنيفاً، مقلقاً، ومرعباً.
المبيدات الحشرية هي القدر اليومي الذي يعيشه هذا العالم.
الحياة، والموت تيمتان جوهريتان في حياتنا نحن البشر المساكين، ومن أجلنا، عشاق السينما، فإننا ندرك جيداً بأن الحياة، كما الأفلام، يمكن أن تكون قصيرة، وبالنسبة لها، الحشرات المسكينة، الحياة أقصر بكثير، الذبابة على سبيل المثال، تموت من الشيخوخة في 17 يوم بالمتوسط.
الأكثر إثارةً في كلّ هذا، بأننا لا نسمع أيّ صرخة رعبٍ، أو حشرجة نزاعٍ تُرافق مرورها من الحياة إلى الفناء.
صمت الحشرات قبل الحملان،….قاتل.
هذه الحياة التي تتفتح، وتذبل مثل الورود، هو العذاب الذي يعيشه عالم الحشرات “إيغلمان” في فيلم ” The Eagleman Stag” لمخرجه “ميكائيل بليز”، بعد عودته من إحدى رحلاته الاستكشافية، يُظهر لنا الحشرات، وفراشاتٍ أخرى اصطادها، ويردد :
ـ “fly, fly, fly, fly…” (طيري، طيري، طيري،..).
وبعد لحظاتٍ، وفي تحوّلٍ لفظيّ، يبدو لنا، وكأنه يُكرر:
ـ “life, life, life, life…”(حياة، حياة، حياة، ..).
سياقٌ صوتيٌّ مُتناظر، وكأنّ الحياة يمكن أن تجمع الجانبين.
وفي هذه المناسبة، دعونا نتذكر اثنين من السينمائيين كانا مهووسين بالحشرات، لاديسلاس ستاريفتش، ولوي بونويل.
بيان أوبرهاوزن

في 28 فبراير من عام 1962، وخلال الدورة الثامنة لمهرجان الفيلم القصير في أوبرهاوزن، اجتمع 26 سينمائياً ألمانياً شاباً لتوقيع وثيقة دخلت تاريخ السينما تحت عنوان “بيان أوبرهاوزن”، وفيه صرحوا:
“…في ألمانيا، كما الحال مُسبقاً في بلدانٍ أخرى، أصبح الفيلم القصير مدرسة، وحقل تجارب للفيلم الطويل، نعلن طموحنا بإنشاء سينما ألمانية جديدة، …سينما القدامى ماتت، نحن نعتقد بسينما جديدة”.
وأصبح ذاك البيان بمثابة الفعل التأسيسيّ للموجة الألمانية الجديدة التي تجسّدت خلال حقبتيّن عن طريق جيلٍ من السينمائيين الشباب، ومعركتهم لصالح سينما المؤلف الملتزمة طبعت بعمقٍ، ولفترةٍ طويلة السينما الألمانية.
بمناسبة خمسين عاماً على ذاك الحدث، سوف يُنظم مهرجان أوبرهاوزن في شهر أبريل تظاهرة إستعادية، وقد حظي جمهور مهرجان كليرمو ـ فيرا(فرنسا) على فرصة اكتشاف بعض جوانبها من خلال برنامج كارت بلانش .
من بين المُوقعين على البيان واحدٌ من الشخصيات الذي على الأرجح أكثر من الآخرين، ترك بصماته في الحياة الثقافية الألمانية خلال الخمسين عاماً الماضية، بدأ “الكسندر كلوغ” مشواره السينمائي في عام 1961 بعد أن كان مساعداً لـ”فريتز لانغ”، وحتى عام 1986 أخرج عدداً من الأفلام التسجيلية، والقصيرة، وعشرة أفلام طويلة، وبالتوازي، كان يُكمل مسيرة مهمة ككاتب، وينشر عدداً من الروايات، والتجارب، والكتابات النظرية، ومن أجلها حصل على عددٍ من الجوائز الأدبية، ومنذ عام 1988 ينتج تحقيقاتٍ، ومجلاتٍ تلفزيونية ثقافية لصالح القنوات التلفزيونية الخاصة، وفيها يمزج بين التحليل النقديّ، والبحث الشكليّ.
وقد كرم مهرجان كليرمو ـ فيرا(فرنسا) “ألكسندر كلوغ” مع برنامج يتكوّن من ثلاث مقتطفاتٍ فيلميّة تمّ إنتاجها عن طريق “بينالي فينيسيا” بمناسبة معرض “ناسيونال غاليري” للفنان “توماس ديماند” في روتردام.
وفي نفس الوقت، نظمّت “جامعة بليز باسكال/بيت العلوم الإنسانية” مؤتمراً حول الأعمال الفيلمية، والأدبية لـ”ألكسندر كلوغ” بمُشاركة عدد من المُختصين، والباحثين.
هامش :
هذه القراءة هي ترجمة حرفية عن الملف الصحفي للدورة الـ 34 للمهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمو ـ فيرا(فرنسا)، والذي يستقبل في مسابقاته أفلاماً قصيرة من كلّ الأنواع (روائية، تسجيلية، تجريبية، وتحريكية).