«الجمعة الأخيرة».. بداية متألقة

بشار إبراهيم

إحدى أجمل المفاجآت التي قدّمها مهرجان دبي السينمائي الدولي، في دورته الأخيرة، وفيها مفاجآت كثيرة حقاً، كان العرض الأول لفيلم «الجمعة الأخيرة» للمخرج يحيى العبدالله.
لأسبابي الشخصية، قبل المهنية وبعدها، كنتُ على حرصٍ شديد لترقّب هذا الفيلم، ومشاهدته، أكثر مرة. أعترفُ. بل أزيد في الاعتراف، أنني كنتُ على تخوّف شديد، إذ غالباً ما تُفضي الانتظارات إلى خيبات، وما تنتهي التوقعات إلى الأسى. ولكن يحيى العبدالله، المخرج الواعد منذ سنوات بقدومه السينمائي، لم يخيّب ظناً، وارتقى فوق توقعاتنا، وقال قولته على أجمل ما يكون.
المشاهدة الأولى، المليئة بالتحفّز، وقلق الدخول في عالم سينمائيّ جديد، انتهت إلى تنهيدة طويلة، مع المشهد الأخير، لفيلم أقلّ ما يمكن وصفه بأنه فيلم رائق، مشغول بعناية، فيه حرفة المخرج، الذي لم ينكر يوماً تأثره بمدارس سينمائية متعددة، ومتابعته الذكية لأعلام سينمائية بارعة، من مشرق الأرض ومغربها. كما فيه من مهارة بناء السيناريو، وإدارة الممثل، والاشتغال على أدقّ التفاصيل، بذكاء لاذع، لتجد نفسك في النهاية أمام فيلم يعلن بصراحة مولد مخرج سينمائي كبير.
لم يكن مفاجئاً أن يحصد فيلم «الجمعة الأخيرة» غلّة وفيرة من جوائز مسابقة «المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة»، بدءاً من جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وصولاً إلى جائزة أفضل ممثل رجال (للفنان علي سليمان)، وأفضل موسيقى (للأخوة جبران).. بل كانت المفاجأة أن جائزة المهر لأفضل فيلم روائي عربي طويل، ذاتها، هربت منه، لتستقر في يد المخرجة سوزان يوسف، عن فيلمها «حبيبي راسك خربان».
لن نعترض على قرار لجنة التحكيم (برئاسة المخرج بيتر واير)، ولن نعلّق عليه.. جلّ ما سنقول إن فيلم «الجمعة الأخيرة»، هو الأجمل، والأفضل، والأكثر جدارة بالفوز، بين ما تسابق من أفلام لنيل جائزة المهر العربي، في هذه الفئة، هذه الدورة.
فيلم «الجمعة الأخيرة»، نصّ سينمائي مُبشّر. يكشف عن مخرجه في إطلالته السينمائية الأولى على صعيد الفيلم الروائي الطويل، ويعيد اكتشاف الفنان علي سليمان بصورة سوف تضيف إلى سجله الإبداعي واحداً من أفضل أدواره التمثيلية، منذ عرفناه. كما يعيد تقديم الفنانة ياسمين المصري، في دور متألق، على الرغم من محدودية هذا الدور، وقصره.

لمحات ذكية يقدّمها الفيلم. مشاهد تقوم على فعل الاختزال، تجعلك تدرك ما لا تراه على الشاشة. فعل الحذف هنا قائم على التواطؤ. لا حاجة للثرثرة، وليس ثمة من داعٍ للاستطراد. الاعتماد على ذكاء المُشاهد مبرَّر، والاتكاء على قدرته في ترميم ما يبدو من فجوات، ينطوي على تفاعل إبداعي معه. سينتقل به من خانة المتلقي الكسول، إلى مساحة التفاعل، والانتباه، والاستدراك، والمشاركة، وإعادة إنتاج النص من خلال تلقّيه. وهذا أرقى ما يمكن لفيلم سينمائي أن يحاوله.
طريقة البناء التي اعتمدها المخرج يحيى العبدالله في صياغة فيلمه، تجعل من المُجحف تماماً محاولة سرد قصة الفيلم؛ اختصارها، أو اختزالها، أو عرض نبذة عنها!.. ليس فيلم «الجمعة الأخيرة» حكايته، بل طريقة سرد هذه الحكاية. طريقة بنائها، وتقديمها. التميّز المدهش في التمثيل (مع التحفّظ على طريقة أداء أحدهم)، والبراعة في المونتاج، وتوظيف المؤثرات الصوتية والموسيقى.. البداية النهاية، حينما تلتبسان.
تداخل وتشابك العناصر الفيلمية، والإحالات الدلالية، التي تقوم على الكوميديا السوداء، أو السخرية اللاذعة، الفاضحة لطبيعة الكائن البشري، أحياناً، خاصة في لحظات انحطاطه، ولؤمه، وممارسته الخسّة، تجاه آخرين، لا ذنب لهم، ولا حول. كلها تجعل من الفيلم مرثية لبطله الأول، تماماً في الوقت ذاته التي تكون هجاء نقدياً لحياة من الخيبات؛ خيباته خيباتنا!..
يعدّ الرجل أيامه الأخيرة، قبيل الدخول في عملية جراحية. لايدري، ولا نحن معه، إن كان سينجو. كلّ ما سنراه هو إعادة اكتشافه لمجريات حياته، على النحو الذي قاد إلى هذه النهايات المؤسية، أقلّها أنها جعلته سائقاً على سيارة «تكسي»، تعاني خرابات مثل جسده المُنهك. وأمرّها أنه بات رهين صاحب السيارة، الذي لن يكفّ عن التلويح بالفواتير، التي سوف تقضي على تعويض نهاية الخدمة، سواء احتاجه للعلاج، أو لشراء كلب!..
الرجل الذي يبدو وحيداً، منقطعاً عن أسلافه، سوف يبدو كمن لا سلالة له، وهو يكتشف ولده، الذي على رغم من أنه يساكنه، ويبدو بين يديه، أنه لا يعرفه. كلُّ ما في الرجل يبدو أنه ذاهب إلى الخواء. لا الولد يعرف القراءة، ولا يلامس روحه، ولا الزوجة التي كانت له، وقد باتت في حضن زوج آخر. وهو كأنما ذاهب إلى حتفه وحيداً، منخوراً، دونما انتظار مواسين، أو معزّين.
الميل إلى الهدوء العامر بالصمت، ضروري، ولازم. ليس ترفاً، ولا بذخاً. والأداء الأنيق لعلي سليمان نابع من روح الحالة، هذه، التي تتلبّس الرجل. رجل النهايات التي تقود إلى البدايات. بدايات اكتشافه ذاته، واكتشافه ولده، واكتشافه آخر صلة مع طليقته، ومع ربّ عمله، ومع جيرانه، ومع بقايا أصدقائه، واكتشافه معنى الحياة والموت، وهو الذي عاش بصفة مقامر محترف، لا يني يتأبّط «طاولة النرد»، كما دفتر أيامه الموشك على تقليب الصفحات الأخيرة منه.

لا أظنّ أن ثمة أيّ ضير في القول إن فيلم «الجمعة الأخيرة» يتّسم بمرجعيات سينمائية، يمكن للعارف بالسينما الاستدلال عليها. البراعة في الفيلم، على ما أظن، كامنة في مقدار تمتّعه بالأصالة الحقيقية، النابعة من قلب الفيلم، لا من استعاراته غير الخافية. فيلم «الجمعة الأخيرة»، لا يخفي الظلال السينمائية التي تفيأ بها، ولا يشعر بالعار منها. إنه يعيد إنضاجها بطريقته الخاصة، في مختبر يحيى العبدالله، العارف ما الذي يريده، وأيّ فيلم سينمائي شاء أن يحمل توقيعه أوّل مرة، فيلماً روائياً طويلاً، بعد جولات له في الفيلم الروائي القصير.
ما كان لفيلم من طراز «الجمعة الأخيرة»، أن يمرّ عابراً في فضاء مهرجان دبي السينمائي الدولي. نال حصته من الجوائز، بعد أن كان قد نال دعماً من صندوق «إنجاز»، ومضى إلى المشاركة في مهرجان برلين السينمائي، ضمن تظاهرة «ملتقى» ضمن فعاليات المهرجان الألماني، ليكون على موعد آخر، مع جمهور مختلف، وليكون أمام امتحان آخر، نؤمن أنه سيخرج مظفّراً بتقدير الجمهور، وعناية النقاد.
المخرج يحيى العبدالله؛ الأردني من أصل فلسطيني، ابن طولكرم، المولود في ليبيا عام 1978، والذي درس السينما في باريس، ومع فيلمه الروائي الطويل الأول؛ «الجمعة الأخيرة»، بإنتاجه، ومشاركة إنتاجية من رولا ناصر، ومجد حجاوي، والهيئة الملكية الأردنية للأفلام، يمنحنا الفرصة كاملة للقول إنه إضافة متميزة للسينما العربية.. انتظرناه منذ سنوات، ولم يخيّب لنا أملاً.


إعلان