الأزمة تُخيم على “الفيلم القصير” بكليرمو ـ فيرا
صلاح سرميني
لا يتجاهلُ أيّ واحدٍ من فريق عمل المهرجان الدوليّ للأفلام القصيرة في كليرمو ـ فيرا(فرنسا) الصعوبات المالية التي يُعاني منها، والتي تزداد حدّتها سنةً بعد أخرى، حيث بدأت برقابةٍ ضرائبيّة روتينية صارمة على ما يُسمّى بالضريبة المُضافة، رافقها، صدفةً، إثارة مفتشي صندوق الضمانات العائلية موضوع الاستعانة بمتطوعين يعتبرونهم يؤدون عملاً مجانياً، ويتوّجب تسوية أوضاعهم، وتشغيلهم بعقودٍ مؤقتة، وأكثر من ذلك، تسديد مبالغ ضخمة عن السنوات الماضية، مصحوبةً بغرامات تأخير، وهو وضعٌ غير مريح تعرفه كلّ المؤسّسات الصغرى، والكبرى في فرنسا (وأوروبا بشكلٍ عام)، وتتجنب الدخول في متاهاته.
الأكثر قلقاً من تلك المُلاحقات الإدارية المُفاجئة، والتي انتهت بسلام، التقلصّ التدريجيّ للدعم الذي كان المهرجان يحصل عليه من جهاتٍ وطنية، مناطقية، ومحلية متعددة، واضطره تحت هذه الضغوطات إلى ترشيد نفقاته، وشدّ الأحزمة، وامتصاص الصدمات بالطريقة الكلاسيكية الأسهل في مثل هذه الحالات، أيّ اللجوء إلى آلياتٍ لا يلحظ منها الضيوف إلاّ الجوانب المُتعلقة بهم، وأهمّها، تحميلهم نفقات حضورهم، وخاصةً ممثلي المهرجانات، والمُؤسّسات السينمائية، انطلاقاً من فكرةٍ منطقية، وصحيحة لا تحسب حسابها المهرجانات السينمائية العربية، وهي التساؤل عن مبررات دعوة مدير مهرجان، مبرمج، منسق، أو أيّ وظيفة مهنية أخرى إذا كان هؤلاء يأتون من أجل التحضير لمهرجاناتهم، أو الترويج لمُؤسّساتهم .
من جهةٍ أخرى، ومنذ بدايات الأزمات المالية، بدأ الإعلاميّ، الصحفيّ، أو الناقد السينمائيّ ـ الذي كان يتلقى الدعوة تلقائياً ـ يعاني في الحصول على بعض الأيام من إقامته، حيث توقف المهرجان عن دعوة البعض تماماً بعد أن لاحظ المُلحق الصحفيّ بأنّ فلاناً، أو فلانة يستغلون الثقة التي منحها لهم، ولا يؤدون العمل المطلوب منهم، وهو، ببساطة، الكتابة عن المهرجان، والأفلام، والسينما بشكلّ عام، ومنذ هذا الاكتشاف المُتأخر، بدأت الإدارة بفتح ملفات الضيوف السابقين الذين أدمنوا الحضور لسببٍ، أو لآخر، وإثارة التساؤلات حول جدوى دعوتهم .

في الحقيقة، الأزمات الاقتصادية ليست السبب الوحيد في اعتماد هذه الخطوات الانتقائية، ولكن، تلك المجموعة من الصحفييّن العرب الذين تساهلوا في واجبهم المهنيّ، وتكاسلوا، فأصبح المهرجان، بالنسبة لهم، فرصةً لتحقيق مشاريع شخصية لا علاقة لها بالأفلام القصيرة، أو بالهمّ الاحترافي، ومنها الحصول على التأشيرة الأوروبية، وقضاء بعض الليالي في كليرمو ـ فيرا، والعودة إلى باريس في زيارةٍ عائلية، وسياحية، أو محطةً سينمائيةً مجانية قبل التوجه نحو مهرجان برلين الذي ينعقد عادةً بعد أيامٍ قليلة من كليرمو ـ فيرا، أو رحلةً سنوية يتصادف فترتها في الأيام الأخيرة لموسم التخفيضات الشتوية، والتسوّق على حساب المهرجان بالمبلغ المُخصص لوجبات الطعام(حوالي 225 يورو).
وهكذا، بدون سردٍ تفصيليّ للغايات التي يتوجه هؤلاء من أجلها إلى كليرموـ فيرا، تحوّل هذا التساهل السابق مع الصحافة العربية إلى عبءٍ ثقيلٍ بدأ يفرض الرغبة بإصلاح ما يُمكن إصلاحه (من شعار المهرجان : أنقذ ما يمكن إنقاذه…) .
بالتأكيد، البعض لن يُبالي بخسارة دعوة، لأنه سوف يستخدم نفس الأساليب للقفز إلى مهرجانٍ آخر، أو رُبما يمارس أحدهم موهبته بنشر حواراتٍ مفبركة مع شخصياتٍ سينمائية، ونقدية وهمية، أو حقيقية لم تتواجد في المهرجان أصلاً، أو كانت حاضرة في دورتيّه السابقتيّن (2010 و2011)، ويُحرر أخباراً كاذبة مثل الإشارة إلى مشاركة بلده في “سوق الفيلم القصير” بمئات الأفلام (256 فيلماً)، بينما لا يتخطى عدد تلك المُسجلة أكثر من 34 فيلماً فقط (وهناك فرقٌ كبير بين تسجيل فيلم، ومشاركته في إحدى المسابقات، أو البرامج الخاصة)، ومن يقرأ تلك التغطية الصحفية، يتخيّل بأنّ كاتبها يتحدث عن مهرجانٍ عربيّ ينعقد في مدينةٍ فرنسية إلى حدّ التفاخر بأنّ جاليته “تغزو” قاعات السينما، بينما، من المُؤسف التأكيد، بأنّ الوجوه العربية من سكان المدينة غائبة تماماً عن فعاليات المهرجان، ماعدا قلة من المحترفين القادمين من بلادهم اقتناعاً بأهميته الفائقة.
وفي الوقت الذي نجد العالم كله في “سوق الفيلم القصير”، لا يُثير هذا المهرجان الأهمّ في العالم شهية أحد من المؤسّسات العربية، وهنا نتذكر المُشاركة المغربية في عام 2010 بمناسبة تظاهرة إستعادية هامة حول الأفلام القصيرة.
ولا نحتاج إلى وقتٍ طويل في الجلوس مع “آن بارنت” ـ المسئولة عن “سوق الفيلم القصير” ـ للحصول منها على معلوماتٍ أكثر من تلك المُتوفرة في موقع المهرجان، وملفه الصحفيّ، وحتى في المقدمة التي كتبها رئيس المهرجان “جان كلود سوريل” في الدليل الرسميّ تحت عنوان (100.000 يورو أقلّ لإنجاز المهرجان).
تتضح المرارة في هذه الكتابات وهي تكشف بشفافيةٍ عن صعوباتٍ تعترض مسيرة السوق، والتي بدأت مع دورة عام 2011، وإدراك تأثيرات الأزمة الاقتصادية خلال البحث عن شركاء لدورة عام 2012.
يشير أحد النصوص إلى توّسع البحث عن الميزانية في كلّ أنحاء العالم، وكانت القرارات بطيئة للغاية للحصول على تمويل، أدت إلى تأكيداتٍ متأخرة، ويُذكرنا بالصدمة البريطانية التي حدثت في عام 2011 مع إلغاء “هيئة الفيلم البريطانية”، وإعادة تنظيم المهمات التي كانت، حتى ذلك الوقت، ملقاة على عاتقها، وتوزيعها على مؤسّساتٍ سينمائية أخرى، وقبل انعقاد الدورة الـ 34 للمهرجان، كان من المُبكر جداً التفكير بعودتها إلى السوق مع وعودٍ بالمُشاركة في عام 2013، ومع ذلك، كانت إحدى المؤسّسات حاضرة لترويج كتالوغ الأفلام البريطانية بالتعاون مع موزع إسبانيّ .
بدورها، حاولت إسبانيا الحفاظ على مشاركتها في السوق مهما كلفها الثمن، هي التي قررت منذ الدورة الماضية هجرة المنصة الإسبانية المُشتركة من أجل تمثيل إقليميّ، وتكاتفت جنباً إلى جنبٍ خمسة أقاليم، بينما استقبلت دورة عام 2012 الباسك، كاتلانيا، ومدريد.
هذه السنة، تعرّض السوق لمفاجأةٍ مزعجة جاءت من طرف “شركة تطوير المؤسّسات الثقافية في كيبيك” والتي كانت تدعم الأفلام القصيرة، وتُمثلها في كليرمو ـ فيرا، وذلك بسبب تغيير إدارتها، وتوجهاتها، ويعترف فريق المهرجان بفضل المُستشار، والمُبرمج السينمائي “داني لينون”، حيث استطاع خلال أسبوع تجميع عدد من المنتجين، والموزعين قرروا بأن لا يتخلوا عن الموعد، وكانت النتيجة منصة مشتركة مع بلجيكا الناطقة بالفرنسية، برنامجاً ترويجياً في إحدى الصالات السينمائية، وآخر في مكتبة السوق.
باختصار، وعلى الرغم من الهزات، والأزمة الساخنة، انتظم السوق بفضل شركائه الدائمين، وآخرين جدد من المشهد الفرنسي، والدولي.

لا ينسى المهرجان تحية اليونان التي حافظت على منصتها في السوق على الرغم من الأوضاع التي تعيشها، كما دعمت أمريكا اللاتينية تواجدها بانضمام كولومبيا متمثلةً بمنظمة تهتمّ بترويج السينما الكولومبية في داخل كولومبيا، وخارجها، وهكذا التحقت بجاراتها المكسيك، التشيل��، البرازيل، وأيضاً كرواتيا، وشركة “كوداك” التي انضمّت إلى فضاء المُشاركين للمرة الأولى في عام 2011، وتورطت من جديد في ديناميّة الإنتاج الدولي القصير، وحافظت على مشاركتها.
بالنسبة لنا، من الطبيعيّ الابتهاج بانضمام تونس إلى المُشاركين الجدد متمثلةً بـ”الغرفة الوطنية لمنتجي الأفلام”، وإشراف المنتج التونسي “لطفي العيوني”، وكان علينا في زياراتنا اليومية المتكررة التصالح مع جغرافيا سينمائية تخيّرتها إدارة السوق، حيث تلاصقت المنصة التونسية مع الإيرانية مباشرةً، وتواجهت مع الإسرائيلية، ومع ذلك، كانت الأجواء هادئة، يشوبها القليل من الإحراج .
بينما، فاحت رائحة الجزر الفرنسية البعيدة من منصة “الغوادلوب” التي تشارك لأول مرة عن طريق جمعية تهدف إلى تطوير السينما فيها، تأسّست عن طريق مدراء الصالات البلدية، وجمعية أخرى تهتمّ بعروض متجولة في الهواء الطلق، وذلك للردّ على احتياجات جغرافيا واسعة : تنويع العرض السينمائي في “غوادلوب” مع دعم شبكة المنتجين، والموزعين المُستقلين، الترويج لمخرجين جدد بمناسبة المهرجانات، وتنشيط الإنتاج، المحلي، والكاريبي.
في عام 2010 أنجزت الجمعية جرداً أولياً للميراث السمعي/البصري، وفي إطار “عام ما وراء البحار” 2011 أصدرت أول اسطوانة رقمية تتضمّن أفلاماً محلية قصيرة.
كانت “آن بارنت” ـ المسئولة عن “سوق الفيلم القصير” ـ متفائلةً، وهي تختتم جلستنا المهنية (ولم يكن الهدف منها حواراً صحفياً)، مشيرةً بأنه على الرغم من الأزمة المالية التي تعصف الثقافة، والأفلام القصيرة بشكلٍ خاص، كانت دورة عام 2012 مليئة بالوعود.
من يدري، رُبما تأتي هذه الآمال من منطقةٍ جغرافية عربية تتكاثر فيها المهرجانات السينمائية، وتتناسخ إلى حدٍ مثير للقلق.
هوامش :
ـ استقبل المهرجان في دورة عام 2011
148900 متفرج.
3000 محترف من كلّ أنحاء العالم.
ـ جمع “سوق الفيلم القصير” في دورة عام 2011 مشاركةً من 31 بلداً، 195 مؤسّسة سينمائية (منها 120 عارضاً)
وأيضا :َ
381 منتجاً.
472 من ممثلي المهرجانات الفرنسية، والدولية.