مهرجان السينما الآسيوية في فزول

السينما في قلب الرهانات الاجتماعية والسياسية 

 ندى الأزهري- فزول(شرق فرنسا)

وجوه السينما الآسيوية المعاصرة، عبرت على شاشات كبيرة لمدينة فرنسية صغيرة تختبئ في شرق فرنسا. لم يكن أحد يفكر  بزيارتها، كان المغني المعروف جاك بريل وضعها في الماضي عنوانا لأغنية له شهرت المدينة ويقول فيها “أردتِ رؤية فزول، ها قد رأينا فزول…”، ها قد زرنا ما لا يزار عادة فماذا تبغين غير هذا؟!
لكن فُزول المدينة الهادئة، تتخلى عن هدوئها لأيام معدودة كل عام حين يحلَ موعد مهرجانها السينمائي الدولي. منذ ثمانية عشر عاما تأسس هذا المهرجان، بدأ صغيرا لكنه لم يختف مثل عديد من هذا النوع من المهرجانات، بل تطور بشكل مدهش. يأتي البعض إلى فزول خصيصا من باريس ومدن مجاورة لحضور الأفلام التي تعرض للمرة الأولى في فرنسا بل حتى في أوربا  بالنسبة لبعضها، كما يستعيدون علامات بارزة من تاريخ السينما الآسيوية. أكثر من ثلاثين ألف متفرج على مدى أسبوع، رقم لا يستهان به مع خصوصية المهرجان وخصوصية المكان.
جاء إلى فزول الشرق الأدنى والأقصى، تركيا وإيران كازاخستان واندونيسيا كوريا والفيليبين سريلانكا وتايوان والصين… وحين سألنا منظمي المهرجان عن بلاد العرب؟ قالوا إن خلو المسابقة من الافلام العربية هي صدفة هذا العام، لكنهم في العادة يلامون من قبل الجمهور لكثرة الافلام العربية، هي في اعتباره ليست أفلام آسيوية بل شرق أوسطية… نظرتهم للمكان تاريخية ( أو جيو سياسية)  لا جغرافية.
ثمة تظاهرات عدة في المهرجان كان منها نظرة على سينما كازاخستان وتكريم المخرج الياباني كورى ايدا هيرو كازو  كما شهد تظاهرة عن “جروح” التاريخ، عن نظرة السينمائيين الآسيويين ورؤيتهم الخاصة لآثار الحروب الأهلية والعالمية، والثورات الشيوعية والإسلامية، وعنف السلطات والأفراد، النووي والارهابي… هنا حضر العالم العربي بالطبع ومعه أفلام مثل “الجنة الآن” للفلسطيني هاني أبو أسعد و”بيروت الغربية” للبناني زياد الدويري و”المدينة الفاضلة في طريقها” لجوسلين صعب… وثمة مسابقتان واحدة للأفلام الوثائقية وأخرى للروائية. شملت مسابقة الأفلام الروائية تسعة أعمال كان معظمها عمل أول أو ثان لمخرجيها، وهنا تتجلى أهمية هذا النوع من المهرجانات الذي يغامر بأعمال أولى، ومن هنا يبدأ ظهور اسماء بعينها، ستبرز لاحقا في مهرجانات كبرى.

أكراد ونساء وهامشيون
بعد فيلمين وثائقيين وفيلم روائي يعود المخرج التركي اوزجان البير في فيلم يمزج بين النوعين. ” المستقبل يدوم طويلا” يدور في الأناضول ومناطقها الساحرة وفي ديار بكر بالتحديد، يتناول القضية الكردية في جوانبها الإنسانية والثقافية ويتقاطع فيه الفني مع السياسي والجمال مع الآلام.

الفيلم الأندونيسي “خليفة”

ثمة فيلم لفت نظر الجمهور وأحبه أكثر من غيره، “خليفة” العمل الثاني للأندونيسي نورمان حكيم، لمس وترا” حساسا” لدى الفرنسيين: كيف تتحول فتاة عصرية بملابسها وفكرها إلى أخرى تغيب خلف نقاب أسود؟ يبدو أن العمل سمح لهم بالتعرف على وجهة نظر الطرف المعني مباشرة بالامر وهو الفتاة. هذا الموضوع يعتبر”حساسا” أيضا في أندونيسيا على ما قال بطل العمل، فالدين أمر شخصي إلى أن يبدأ في التأثير على العلاقة مع المحيط. ينتمي الفيلم في العرف الأندونيسي إلى سينما المؤلف ما أضاف له صعوبات إضافية في التوزيع.
عمل آخر للإيرانية نيكي كريمي لقي قبولا وجائزة بسبب” شجاعته واندراجه ضمن سياق اجتماعي وسياسي صعب”، يمكن الموافقة على هذا، أما القول في تنويه آخر بالفيلم” لالتزامه لمصلحة كفاح، يمسنا، ألا وهو العدالة الاجتماعية ووضع المرأة” فهذا شأن آخر! فالفيلم الذي يحاول في مسعى غير موفق المزج بين الروائي والوثائقي لا يخرج عن كونه تحقيقا تلفزيونيا أو فيلما تلفزيونيا على الاكثر، وهو عن قصة حقيقية لحكم بالإعدام يواجه امرأة قتلت زوجها لاعتدائه جنسيا على ابنتها. تنتهي مساعي البطلة التي تحاول مساعدة “القاتلة ” بكل وسيلة بالفشل. عانى الفيلم أيضا من هنات في السيناريو الذي تغاضى عن توضيح أمور عديدة ومنها تجاوز الدفاع عن القتل كنوع من الدفاع عن النفس.

وكانت المرأة المكافحة في المدن الكبرى والبعيدة عن عائلتها وقريتها، والخادمات والعاملات وحياتهن البائسة موضوع “بطاقة عودة” العمل الثاني للتايواني تينغ يونغ-شين الذي فضّل ترك الإضاءة الطبيعية في فيلمه ليضع المُشاهد محل شخصياته في أمكنتها المعتمة.  وتحت ضوء “الأيام المشمسة” للكازاخستاني ناريمان تورباييف اكتشفنا عتمة العوالم الداخلية لشخصياته، شخصيات “صغيرة” لهذا المخرج المتمكن الذي أعلن أنه “لو أعجب شخص واحد فقط بفيلمي فلن يذهب إنجازي هباء”. الشريط نوع من سيرة ذاتية لتورباييف الذي بدأ السينما “متأخرا” (بعد الثلاثين) والذي لولاها لأمسى، كما قال، كشخصيات فيلمه تائها، تافها… أراده عملا عن الناس البسطاء الذين يعانون في كل خطوة، عن أولئك الذين يتمتعون بحياة “تافهة” لا يحركها عشق ما، ولا شيء ما يعطي معنى لوجودها. في هذا الفيلم فكر تورباييف بالمصير المروع لهؤلاء الذين لا هدف لحياتهم ولا محرك. الفيلم تحلى بروح الطرافة رغم سوداويته المقلقة. ساهم أسلوب المخرج باستخدامه اللقطات المقربة بالنفاذ داخل شخصياته وقراءة أفكارها.

الفيلم الإيراني “الصفارة الأخيرة”

المخرج نفسه بدا شخصية خارجة عن المألوف. في سؤال لامرأة من الحاضرين حول”صورة المرأة في فيلمه هذا”، صورة سلبية لجميع النساء، باستثناء واحدة، حيث ظهرن قاسيات مخيبات عاهرات خائنات سارقات… كان رده الذي صدم الجمهور الفرنسي “هذا ما عشته، لقد استوحيت تجربتي الشخصية مع النساء”..!! وحين رغب الجمهور في تفسير عزف إحدى الشخصيات لمعزوفة رقيقة على البيانو بعد موت البطل في خاتمة الفيلم القاتم كأنشودة أمل، سحق تورباييف” آمالهم” من جديد وتابع صدمهم قائلا” هذا لأري أنه عند موت شخصية” صغيرة” وهامشية فستأتي شخصية هي الأخرى صغيرة وهامشية بدلا منها”. كأن الحياة من وجهة نظره مكونة فقط أو على الأغلب من هذا النوع من الشخصيات. هذا رأيه وليكن، لكن فيلمه ليس بالتأكيد صغيرا  ولا هامشيا. هو لم ينل أي جائزة ولكن ماذا تعني الجوائز حقا وبعضها يدفع للتساؤل؟

“إيفان …” في كازاخستان
لا يعتبر وجود مخرجين على هذا المستوى بالأمر الاستثنائي في كازاخستان، فالسينما في هذا البلد، الذي نال استقلاله  بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، مثيرة للاهتمام. ومهرجان فزول خصص استعادة لهذه السينما عب�� اختياره تسعة عشر فيلما على مدى سبعة عقود، تظهر تنوعا وغنى سينما غير معروفة تماما لا في الشرق ولا في الغرب.

تلك السينما التي بدأت مع تأسيس الاتحاد السوفياتي السابق عام 1928 معاهد لتدريس السينما في جمهورياته. حينها، أحدث قلائل في السينما والمسرح، ثم صور أول فيلم كازاكي عام 1938  بطاقم روسي. وقد كانت الحرب العالمية الثانية عاملا “إيجابيا” فقد سمح لهذه السينما بالتطور وذلك بعد انتقال عدد من استديوهات موسكو إلى العاصمة السابقة آلما آتا، وانتقل معها عدد من كبار المخرجين الروس ومنهم سيرجي ايزنشتين الذي صور فيلمه “إيفان الرهيب” كازاخستان. وحتى حين انتهت الحرب فضل بعض السينمائيين البقاء.

وقد عرض في المهرجان أول فيلم كتب وأنتج وأخرج بكازاخستان وكان ذلك عام 1945، ورغم أنه عن شخصية الشاعر المحلي مختار وزوف(آباي)، فإن “غناء آباي” لغريغوري روشال، لم يخل من الدعاية السوفياتية، فثمة بطل روسي أقحم في السيناريو ليمثل التقدم والعلم والمنطق وليظهر الصداقة العميقة التي يمكن أن تربط ثوريا روسيا بهذا الشعب العاطفي واللاعقلاني.

وشكل العقد السابع مرحلة مهمة في الإنتاج السينمائي هناك. ثم جاءت الموجة الجديدة على غرار موجة السينما الفرنسية في الثمانينات ويمثل ” البلكون” لكاليكبك ساليكوف أفضل تعبير عن هذه السينما. وكانت التسعينات مرحلة الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي مناسبة للسينما للاقتراب من التاريخ الكازاخستاني في “سقوط أوترار ” لارداك أميركولوف، وأيضا  لاحياء الأساطير الشعبية كما فعل الفيلم الرائع “الخدش” لأمانزهول آيتوواروف. ثم جاءت سنوات الألفين لتكرس هذه السينما مع وصول جيل جديد ومنهم مخرجنا الذي ذكرناه سابقا ناريمان تورباييف وأيضا أسماء أخرى مثل غوكا عمروفا وفيلمها “شيزو” و داريجان أوميرباييف وفيلمه الرائع “شوغا” المستوحى من آنا كرنينا لتولستوي، و رستم عبدرشيف عن ذكريات مراهقته في “جزيرة البعث” … أفلام متميزة بمستواها الفني الرفيع تحث على التعرف على المزيد من هذه السينما المجهولة التي تستحق فعلا الاكتشاف.


إعلان