فيلم “جسد” : الحرص على ارضاء الممول الغربي
غزة – أسماء الغول
راودني سؤال وأنا أحضر فيلم “جسد” للمخرجة الفلسطينية ريتا اسحق: هل إذا كان تمويل الفيلم أجنبيا خاصة في منطقة صراع مثل قطاع غزة، فعلينا أن نقدم له ما يراه فينا هذا الأجنبي، لا بل نجتهد في إرضائه ونضخم من عقدنا، ونعزف على أحد تابوهات مثلث المحرمات “الجنس والدين والسياسىة”؟ لنقدم له الفيلم الاكزوتيكي المثالي في عين الغرب عن “العالم الثالث” دون أن تحكم بذلك الضرورة الابداعية والاخراجية ولا حتى الدرامية.
فيلم “جسد” الذي مولته القنصلية البريطانية يحكي قصة طالبة مدرسية بخط سير فنتازي واقعي، ترتدي زي المدرسة، وتمشي بملامح الفجيعة في صحراء تجر خلفها حقيبتها بحبل مربوط، وينتقل المشهد إلى آخر بمونتاج غير متقن لترتدي هذه الطالبة فستان زفاف، ومن ثم تقف وعريسها من خلفها لايظهر منه سوى فمه وهو يضغط على شفتيه بأسنانه دليل على أنه يريد التهام جسدها.
وترجع المخرجة إلى مشهد الرابط الرئيسي في الفيلم ألا وهو مشيها حائرة على الرمال، ليتكاثر عدد الأشياء التي تجرها من خلفها في الصحراء -من الصعب ان نقول عنها صحراء، فهي بضع كثبان رملية لذلك غاب أفقها عن المشاهد-، ومن ثم تنتقل المخرجة إلى الفتاة في حياتها الواقعية الأمر الذي ذكرني إلى حد ما بلعبة المخرجة ايناس الدغيدي التخيلية في فيلم “مذكرات مراهقة” مع مراعاة الفرق في نضج التجارب الإخراجية.
وهذه اللقطات من واقع الطالبة تتمدد زمنيا بعد أن تحمل وتنجب دون تطور واضح في الحركة أو الخط الدرامي فهو خط استاتيكي كما ملامح الممثلة العابسة طوال الفيلم حتى مع ابنها الذي مجرد أن يدخل المنزل يلقي بحقيبته على الارض أثناء غسيلها للملابس بيديها في باحة منزل بائس، لتضم المخرجة الإبن والفقر إلى أدوات القمع التي تتعدد وتصل إلى مشهد لهذه الطالبة والمتزوجة والحامل وهي كبيرة في السن تحمل باكية صورة إبنها الذي يبدو أنه أصبح أسيرا أو مهاجراً.
طبعا من الجميل الانحياز للمرأة ولكن أن نمثلها في اجتهاداتنا أنها أسمال إمرأة قضت على نفسها وقضى عليها المجتمع ونصورها بأنها خاضعة للواقع بكُليتها دون حتى أن تقدم المخرجة رؤيتها الخاصة لنموذج المرأة القوية أو حتى العادية التي تعرف سبيل الشكوى والاعتراض سواء على مستوى الشخصيات أو على مستوى المعادل الموضوعي في رمزية الصورة التي يبقى فيها الحبل ملتصقا يلاحق الطالبة دون أن تفلت منه حتى تسقط على الأرض في تشاؤم لا يسيطر على الواقع المعاش كما في الفيلم، إذن فما فائدة الفن إذا لم يقدم جديدا للواقع كما يقول كونديرا.

إن هذه المبالغة المستفزة لمصير المرأة التي تعيش في قطاع غزة غير مقبولة حين تعالج بطريقة ساذجة تراكم كل ما قد تعانية المرأة في العالم من اضطهاد واجبار على زواج مبكر وترك للتعليم والفقر في إمرأة واحدة، فالدلالة التي أرادت المخرجة تقديمها لنموذج المرأة في غزة ينفيه واقع المخرجة ذاتها التي تمارس عملها بحرية وبدعم مجتمعها وأسرتها، وكذلك كاتبة هذه السطور، وكثيرات في القطاع، وأخريات ممن اعترضن أثناء عرض الفيلم في قاعة المركز القومي للدراسات والتوثيق في غزة، ومن بينهن أسيرة محررة، إذ أكدن أن المرأة في غزة تعتبر من أكثر نسبة النساء حملة الشهادات العليا في الدول العربية، وكن طوال عمر القضية نموذج للنضال السياسي.
وليس المقصود هنا القول أن معاناة المرأة في غزة من الفقر استثناء ومن الزواج المبكر استثناء ومن ظاهرة القتل على حلفية ما يسمى بالشرف استثناء، بل هي مكونات موجودة في المجتمع الفلسطيني وعالجتها أفلام رائعة كفيلم “مغارة ماريا” للمخرجة الفلسطينية بثينة خوري، لكن دون تضخيم أو إرضاء لاجندات معينة وفي تجارب ناضجة لا تلهث وراء الانجاز السريع والجرأة المصطنعة.
إن هذا النوع من الأفلام والأدب الذي يقول عنه عبده وازن : “إعادة الاستشراق ولكن على أيدي عربية”، مهمته إثارة الفضول عند القارئ أو المشاهد حين يغازل الممنوع بعناوين براقة كما عنوان “جسد” ليجذب الغربي قبل مواطنه وذلك على حساب رؤية المخرج أو الكاتب ذاته الحقيقية للثيمة والموضوع ما يقدم تجربة خالية من هارمونية الهوية والفكر والدراما.
إن الخلط بين فانتازية مشهد الرمال وجر الحبل وقسوة الواقع وبين الرمزية والمباشرة، عادة ما يقدم تنوعاً في الفكرة وإثراء لها وتخفيف من سواد القضية المعروضة، كما فيلم “يد إلهية” التي شفع لسورياليته المفرطة، دينماكية حبكته وعمق فكرته وقضيته التي جاءت بالحب وفتاة النينجا إلى جانب الحاجز والاحتلال، فلم يضيع ويضيعنا بين تعدد مستويات سرده السينمائي لمجرد الاستعراض أو عدم فهمه لأهدافه.
المخرجة تقول أن فيلمها صامت ولكن ليكون كذلك ألا يجب أن يتوفر فيه بديلاً معادلاً لهذا الصمت من حرفية التمثيل وتعابير صادقة وقوية لملامح الممثلين، فنقبل صمته كما قبلنا رمزيته التي تصر مخرجته أيضاً أن تصفه بها، رغم أن هذه الرمزية تتعلق ببعض عناصر الصورة في الفيلم كالأشياء المجرورة خلفها على الرمال، ولا تتعلق أبدا برمزية الفكرة فهي مباشرة إلى درجة ذكرتني بأفلام ومجلات نتاج المشاريع التي يمولها الغرب في غزة، فيدعمون حقوق المرأة التي تعاد وتكرر ذاتها في مشاريع وورش عمل كل عام إلى درجة أصبح لها نمطية غير صادقة لمجرد تقديم تقارير للممول وأصبحت مكونات مجتمعية يتقبلها المواطن بحكم العادة وليس التغيير.