الوثائقي باعتياره تعبيرا جماليا تواجه أزمات العالم

تتحرك الحياة وتتحرك الصورة في موازاتها ، كلاهما يسير الى غايته وكلاهما يحمل كائناته وقصصه وافكاره وتحولاته وكلاهما يصنع منظومته الجمالية الخاصة به.
من هذا تستمر الرحلة التي قوامها منظومة الصورة / الحياة ومما تتكون ؟؟ ما أنساقها وما توجهاتها وما هو محمولها الحكائي ولعل هذا العنصر الأخير ، ذلك المحمول الحكائي الأكثر واقعية هو الذي أجج تلك الفاعلية في الصورة الوثائقية وفتح آفاقا واسعة لفهمها على أنها منظومة جمالية تتصدى للأزمات وتحقق تلك الموازنة بين الواقع والشكل الجمالي للفيلم الوثائقي والحال أن السينما لا تقتصر جمالياتها على الفيلم الروائي الطويل او أية أنوع فيلمية أخرى بل ان الفيلم الوثائقي يدخل تلك الدائرة في استناده الى تلك المنظومة الجمالية .
وعلى هذا ستسير الصورة السينمائية قدما وهي تتفاعل مع الواقع / الحياة وأزماتها المتعددة في تلك السيرة الشائقة التي تحدث عنها المخرج الشهير المؤسس “جون جريرسون” بأنها المعالجة الخلاقة للواقع، لكن ذلك الفهم سيتسع الى إعادة قراءة الجماليات باتجاه الجماليات البكر التي ظهرت أولا في شكلين هما التفاعل مع واقع معاش وإعادة إنتاج الواقع كما في سلسة من الأعمال الوثائقية التجريبية
الصورة / الحياة مفهوم جمالي ودلالة تعبيرية تتسع لتشمل كما كبيرا من الأعمال الوثائقية اللاحقة يذهب (تشارلي كيل) الى قراءتها بأنها ” ذلك البحث المتواصل عن الشكل الفيلمي الذي يحافظ على الصورة / الوثيقة وعلى ارتباطها بواقع يتغير في كل لحظة ” . في فيلمه 4horsmen  للمخرج روس اشكروفت الذي عرض وشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان امستردام السينمائي الدولي في دورته الأخيرة ينطلق المخرج من مفهوم “ان تفهم شيئا معناه ان تتحرر منه ” وبهذا المعنى كانت المنظومة الجمالية ومتنها الحكائي للفيلم تعيد الينا اشكاليات متفجرة تتعلق بأزمات العالم ، بالأزمة الاقتصادية العالمية التي تعصف بالعالم اليوم، اشكروفت القادم من خلفية اقتصادية واكاديمية يمضي في فلسفة الواقع وصنع منظومة حكاية وثائقية مكتنزة بالحقائق فهو يتنقل بين شتى وسائل التعبير لإيصال المعنى ، ويكثف ذلك الكم الهائل من المعلومات الاقتصادية والحسابية ويعيد إنتاجها وصياغتها للوصول المنظومة حكائية تثير سؤالا واحدا مهما ومتفجرا يتلخص في :” هل نحن في ازمة؟” وان كنا كذلك فما هي حدود الأزمة وما هو مداها ؟ بالطبع هنالك كم كبير من القصص الصحافية التي تضخها وسائل الإعلام بشكل شبه يومي لكن القصة بالنسبة الى اشكروفت تقرأ الواقع من الداخل من تلك الحقيقة غير المرئية ، الملتبسة والتي هي اقرب الى لغة الاقتصاديين وأرباب البنوك والفوائد والمضاربات والأسهم .
سرني أني حضرت الندوة التي أقيمت مع اشكروفت يوم 21 نوفمبر من العام الماضي ضمن وقائع مهرجان امستردام ولفت انتباهي ذلك الكم من السخرية التي يشعر بها وهو يقرع اجراس الإنذار والخطر من خلال تغلغله في ذلك الموضوع الشائك والمعقد .

روس أشكروفت

الفيلم الوثائقي الذي صنعه اشكروفت يتمثل تماما المدخل النظري الذي بدأته في هذه المقالة من خلال سلسلة من المقاربات الملفتة للنظر التي أراد من خلالها السعي للإحاطة بموضوع شائك ومتشعب ومتغير وهو يتداخل مع حياة الأفراد ومع حياة المجتمعات ومع المستقبل والواقع الذي بدأ ينفتح على المجهول .
ذلك القلق المستشري الذي تفيض به كلمات المتحدثين في الفيلم يرافقه رسم جمالي للموضوع يجعل من المادة الفيلمية ذات الطابع الاقتصادي والعلمي الخالص مادة يمكن الاستمتاع بإعادة قراءتها سعيا الى محاولة فهمها وسعيا لأن يكون الفرد / المشاهد طرفا في الجدل او النقاش او السجال الدائر حول هذه التحديات مجتمعة ولهذا فإن الإشكالية التي يطرحها هذا الفيلم فيما يخص قراءتنا وتحليلنا للفيلم الوثائقي تكمن في اثارة تساؤلات منها : كيف يمكن ان نصل الى الشكل الفيلمي الوثائقي الذي يحافظ على جمالية الصورة في الوقت الذي يغوص فيه عميقا في الواقع ويعيد إنتاجه وكيف يمكن الحفاظ على جماليات ذلك الواقع ومعطياته في مسار الفيلم الوثائقي وهو يصنع  منظومته  الحكائية الخالصة ؟.
لعل هذه المعطيات هي التي شكلت معيارا مهما في صناعة هذا الفيلم الذي بدأ عرضه في الصالات السينمائية ابتداء من هذا العام 2012 واعتقد انه من المهم  بل والضروري أن يهتم بمشاهدته كل من يهمه معرفة ما يجري حوله من تفاقم للأزمات الاقتصادية لأسباب عدة منها ان الفيلم يقدم حصيلة معرفية غزيرة وانه يغوص في حقائق غير معلنة وبعضها غير معروفة حيثياته وجذوره وهو ما توسع فيه المخرج في ندوة مهرجان امستردام مؤكدا انه عمل مستقل تماما .
لا يكفي القول إن الاقتصادات العالمية الكبرى كثيرا ما تردد انها بسبب تلك الأزمات انها على “حافة الهاوية ” كما حصل مع اليونان مثلا لكن القصة هنا هي الإجابة عن سؤال من هو المستفيد من هذه الأزمات الاقتصادية الكارثية التي تضرب الفقراء اولا وفي الحقيقة ان الفيلم يعلنها بوضوح انهم اولئك الجشعين الذين ظلوا يركضون لاهثين وراء المزيد والمزيد من الجشع والفوائد وخاصة اساطين البنوك العالمية الكبرى وشبكات الضغط والمصالح الرأسمالية العولمية .
يسعى الفيلم الى مطالبة الجميع بخلاصات منطقية لما جرى ويجري تفاديا لتفاقم الأزمات .

عمد المخرج من جانب آخر الى الخوض في اشكاليات الاقتصاد وازماته الى خطاب مشترك لغرض ايصال رسالته الى اوسع ما يمكن من المتلقين وكان حذرا بما فيه الكفاية من الوقوع في دائرة التجريد والمعلومات النظرية الخالصة ولهذا كان يتنقل بين أكثر من مقترب بصري لغرض منح الفيلم وموضوعه الحيوية التي يتطلبها .

الفيلم حاور أبرز وجوه المال والسياسة ومشاهير العالم

ولعل من العناصر الجمالية الأخرى في الفيلم هي الطريقة التي تم فيها ضخ المعلومات التي حملت في سياق المشاهد الفيلمية اذ ناور الفيلم بما فيه الكفاية لغرض الوصول الى غايته .
وبالرغم من ان المعالجة الفيلمية اتجهت الى الوسيلة او الأداة التقليدية وهي “المقابلات المباشرة ” الا ان هذا العنصر الفاعل والمهم في الفيلم الوثائقي خرج عن اطار ودائرة الرتابة في ضخ المعلومات الى مواجهة مع اكثر من 20 خبيرا وعالما هم من عمالقة الفكر والاقتصاد والفلسفة والعلوم السياسية وكل منهم كانت له قراءته الخاصة لأوجه تلك العاصفة .
الفيلم لجأ الى الرسوم المتحركة والصوت الخارجي voice over ولجأ للوثائق والى صور من الحياة اليومية ونشرات الأخبار في كم كثيف متشعب دون ان يتسرب الملل الى المشاهد وهو يتابع تلك التراجيديا التي أكدت حقيقة أن الفيلم الوثائقي بمحموله الفكري والجمالي يصنع بناه الحكائية والقصصية المختلفة التي تتجاوز الفهم التقليدي لشكل الفيلم الى شكل اكثر جمالية وتعبيرا.


إعلان